ساعة ما – وللاستراحة من هموم الكتابة والتزاماتها – وكان الوقت ضحى أو غروبا ، كنا جالسين معا نشاهد باسترخاء إحدى حلقات الفلم الوثائقي ( العائلة الملكية) عن حياة عائلة من الاسود ، لكزني موزارت وهو يشير الى قيام أسدين كبيرين بقتل الأشبال كي ينفردا باللبوات ، وقال : أكاد أرى الموسيقى ومجالات الابداع الانساني كلها كما اللبوات ، عشبة خلود سومري.
كلاهما كان يريد الاستحواذ عليها الأسود الكبيرة ( الآباء) والاشبال الصغيرة(الأبناء)!
ثم سألني : لماذا لم يكتب فرويد في نظريته عن التحليل النفسي عن عقدة قتل الأبن ويؤسس لها كما أسس لعقدة قتل الاب( عقدة أوديب) ونظّر وشرح أمثلة تطبيقية من الادب والمجتمع؟
قياس جميل وسؤال نبهني فعلا.
ربما – قلت – تغاضى فرويد عن هذا بسبب خلافه مع تلميذه كارل يونغ، كأنه – لاشعوريا – كان يسعى لإخفاء محاولاته لقتل يونغ معنويا.
إذ أن بداية القطيعة بينهما، سنجدها في عبارة جاءت في واحدة من آخر الرسائل التي تبادلها فرويد مع يونغ، ويقول هذا الأخير فيها انه ) إكتشف لعبة فرويد الحقيقية: انها لعبة تقوم على رفع الأستاذ نفسه ومكانته على الدوام بحيث يظل يشغل موقع الأب الأعلى محولاً تلاميذه الى أبناء طيعين ما يخلق لديهم حالاً من العُصاب الحقيقي(
أظنني هكذا أجبت مستشهدا برسالة يونغ الى أستاذه ، وأنا أتابع مصير الشبل الصغير وهو يلفظ أنفاسه تحت ضربات أبيه القاتلة.
لاشك أن بوشكين كتب مسرحيته ( موزارت وساليري) لتدارك النقص الفرويدي ذاك وإظهار ما حاول فرويد التعتيم عليه أولا، وثانيا للاعلان عن معاناته هو– بوشكين – من قاتل آخر ، أستاذ موسكوفي عجوز ، شاعر ربما أو كاتب من أولئك الآباء العجزة، أترك هذا لدارسي الادب الروسي ، علهم يكتشفوه، أعني قاتل بوشكين، الذي أخفى نفسه الى درجة لم يستطع معها عبقري كبوشكين أن يظهره كما فُضح ساليري ، ومن المؤكد إنه تقنع بساليري للأشارة بأصبع الأتهام الى قاتله أو قاتليه ، أو الى ضحيته ربما !
وما إرتكبه فرويد من( قتل لتلميذه يونغ ) ونجح بأخفائه بذكاء الى أن لفت موزارت إنتباهي إليه ، هو عين ما ارتكبه ساليري ، لكن الأخير كان ساذجا ومنفعلا ولم يدرك بعد آليات التحليل النفسي ولا نظرياته، فعمل بطاقته على مضايقة موزارت الموسيقي الشاب العبقري وغير المشهور ، ومن يكون موزارت أمام ساليري موسيقار البلاط النمساوي ! والمتحكم بأقدار الموسيقى ورجالاتها آنذاك ، ولم يكن السبب سوى إدراك الأستاذ العجوز بأن الشاب المبدع قادم لكنسه من الساحة بروائعه الجديدة وإن لا بقاء له على قيد الموسيقى الا بأقصاء موزارت وتصفيته معنويا.
ولا أدري من أسرّ بأذني إن تناول موزارت لمسرحية ( زواج فيغارو) هو نوع من من المقاومة لتسلط الاستاذ وأستبداده ، أراد موزارت ان يتقمص دور فيغارو وهو يصد ويتملص بذكاء ويحبط مرة بعد أخرى محاولة الكونت النبيل النوم مع عروسته كما هي العادة تلك الايام . كانت الموسيقى العظيمة عروس موزارت التي سعى ساليري الى أن لا تكون لأحد إلا بعد أن يختمها بختمه الابوي الثقيل.
(يمكنك ايها الكونت الصغير ان ترقص كيف تشاء لكني انا وحدي من سيعزف موسيقى الرقص)
هذه خلاصة ما أراد موزارت قوله لساليري وهو يؤلف اوبرا زواج فيغارو، ولعل ساليري أراد الرد عليه بعد ثلاث سنوات بنفس الطريقة وهو يؤلف أوبرا تارار… من مسرحية بنفس الاسم ولمؤلف زواج فيغارو نفسه الكونت بومارشية.
كل هذا الحوار المعلن والصامت دار بيننا ونحن نشاهد مخنقة الأشبال ( على وزن مذبحة)ومذابح بغداد على يد الاب / السلطوي- قبل سنوات عشر- ضد أبنائه العراقيين لانهم هم السلطة الان بدلا عنه!
لا أستطيع أن أؤكد الإتهام ضد فرويد بالأهمال العلمي في موضوع عقدة قتل الأبن أو عقدة ساليري كما سماها بعضهم، لكني واثق كل الثقة لو إنه – فرويد- عاش حياة الوسط الادبي والأبداعي في العراق وشهد عشرات الجرائم التي يرتكبها الآباء الأساتذة بحق أبنائهم المبدعين الجدد لما إستطاع ولما تردد في الكتابة عن هذا المرض العضال الذي يفت في عضد الثقافة والأبداع في العراق الحديث منذ نشوئه ، منذ أن سأل الملك فيصل الاول الشاعر الزهاوي مدّاح الجنرال مود قائلا:
:أيهما أفضل شعرا أنت أم أحمد شوقي أمير الشعراء ؟( وكان شوقي مداح أيضا للخديوي وبلاطه )
فأجابه الزهاوي – وهو يتذكر سبابه المسكوت عنه لثورة العشرين ورجالها – : مولانا تلميذي الرصافي أفضل منه!
وهكذا بكف واحدة قتلهما،
منذ ذاك والذين يتسلقون الشهرة كما تسلقها الزهاوي يخنقون ويذبحون ويقتلون كل من يتوسمون فيه أو يشمون من أبداعاته رائحة الخطر على شهرتهم الزائفة .
قد يقتلون من أجل سيادة على المشهد الشعري أو الفن التشكيلي أو المسرح أو السينما أو الرواية والقصة ، أو من أجل رئاسة مؤسسة ما ، وربما يقتلون حتى من أجل إحتكار دور النشر !
كل تدن ممكن حدوثه هنا، في العراق! وكل السمو نجده هنا ايضا على هذه الارض ! وهنا المفارقة.
ما أكثر أولاد ساليري عندنا في العراق يا موزارت!
وما أكثر خيبتهم عندما لايتحقق البقاء إلا لفيغارو وأشقائك المشعين بأبداعاتهم، وأي خسارة ستحل بهم حين يُكنسون .. هم – القتلة – الى مزابل التاريخ الادبي كما كُنس الكونت الاسباني الصغير وأمثاله .
جابر خليفة جابر
Jabir_kh@yahoo.com
جابر خليفة جابر : أسئلة الإبداع أسئلة القراءة: عقدة ساليري
تعليقات الفيسبوك
اْخي زعزيزي جابر جابر خليفة جابر
وما اْجمل تساؤلاتك الحاذقة حزل المشهد الغير ثقافي في حياتنا الادبية والمعيشية,اْعتقد اْن هذا النهج من اْجل قراءة ذواتنا دون خزوف ووجل هو الطريق الصحيح نحو الابداع ,شكرا لك
نجات حميد اْحمد