مامند محمد قادر : قصتان قصيرتان

1. في انتظار بريق

عندما كنتُ صغيراً لم أنعم بِمتعة اللعب و لم أقدر على الخروج من البيت يوماً لشراء اية حلوى من دكان محلتنا ، أو رؤية نفسي في المرآة ، أو تمييز الألوان ، أو مشاركة أقراني من الأطفال في نزهة مدرسية . ذلك لأنني كنتُ قد أصبتُ مبكّراً و منذ صغري بالعمى جراء مرض معد . تربّيتُ كصغار الكنغر في حضن والدتي التي لم تفارقني للحظة ، و لم تكفّ عن مراقبة جميع حركاتي و سكناتي . ترعرعتُ تدريجياً و قضيتُ صبايَ في ظلامي الدامس . و كنتُ قد اعتدتُ في طفولتي على البقاء وحيداً في البيت ، أتجوّل في أرجاء المنزل و أعبث بِكلّ ما تصادفه يدايَ . و قد حصل كثيراً أن اصطدمتُ بالجدران أو قطعتُ أصابعي بالسكين أو احترقت يدايَ بِانسكاب مرقٍ مغلي عليها . فكنتُ للحظات أترنّح ، أتأوّه ، أو أذرف دموعاً دونما جدوى . لذا فقد كنتُ أنا أكثر من ايّ شخص أتأمّل الضياء ، فهي كانت رغم العمى تتجسّد في أحلامي و ترتسم في أذهاني . ذات يومٍ في زنزانتي الدائمة تلمّست أناملي ثقباً صغيراً في الجدار ، شرعتُ أعبث به ، قرّبتُ اليه عيني ، و نظرتُ خلاله ، يا للدهشة ، تناهت نظراتي المبتورة على بريق شعلة تتلألأ في الظلام ، لم أعرف مصدر البريق أو كنهه ، فلربما كان بريق مصباح وهمي ، أو خيالاً قد تجسّد في الضياء ، أو كتلة شمس كانت قد سبتت في الظلام . لطالما استأنستُ و عشقتُ هذا الثقب الذي أصبح رفيقي الوحيد في الحياة . فقد كنتُ أستمدّ من البريق القابع فيه نوراً لعيني المكفوفة ، و قد كان يبعث في نفسي الدفء ، و يخمد في أضلاعي ظنون ظمئي الجامح . فطوال ساعات اليوم كنتُ غارقاً في تأمّل ذلك الضوء الدافيء ، اذ لم يكن هناك ما يبرّر وجودي على الأرض سوى اللهفة في التحديق في ذلك الضوء حتى أصبحتُ رجلاً . شاء الدهر أن أجريتُ عملية جراحية لِعينيّ ، لم يلبث سوى أياماً حتى رجعت بصيراً . حينها تلمّستُ ضياء الشمس و رأيتُ في المرآة نفسي ، و ميّزتُ الألوان عن بعضها . غير انها لم تثر في نفسي جدوىً أو سروراً أو دفءءا، كما لم تمنح عينيّ نوراً . لِذا و على عادتي القديمة ، مجدّداً .. لازمتُ الغرفة في البيت ، و كسابق عهدي كنتُ أحدّق دوماً خلال ذلك الثقب في الشعلة القابعة في الظلام التي قد تكون هي الشمس الحقيقية.

2. توائم لم تلبس الأنوار

لم أعرف كيف تجرأتُ على المسك به ، ذلك المارد الذي عرفه الجميع بجبروته الفائق و تعطشه لدماء أجيال متعاقبة ، لاسيما الأطفال الذين سلب منهم آباؤهم ، و النسوة اللاتي فقدنَ أزواجهنّ و لم تمضِ على حياتهم الزوجية سوى أشهر و شيّخنَ شبابهنّ في الوحدة ، و الأمهات اللاتي انتظرنَ أولادهنّ عبثاً عند عتبات البيوت ، و حتى الفتيات اللاتي قد تجرّدنَ من بكارتهنّ بفتاوى من أذياله العبيد على أيدِ لم تعرف غير القتل و الأغتصاب و الأرهاب . كان ذلك في ليلة دامسة و أنا أستمدّ غضبي لحظة المسك به من زعيق النسوة و أنين العجزة و حسرة سجناء دخّنوا أيام أعمارهم خلف القضبان بسبيل أحلام جفت في صدورهم و جذوع الأشجار التي أقلعتها عجلات الغزو أو احالتها القذائف النارية و المواد الكيمياوية الحارقة الى رماد . و ما أن أبطل ذلك الطلسم و تهاوى سرعان ما استرجعت الورود ألوانها والرجال رجولتهم ، و الجبال شموخها و الربابات ألحانها . رجعتُ الى البيت و الليل يقترب من الفجر و أنا تغمرني فرحة ممزوجة بسكون الشهداء و رضى الأرملة و ابتسامات لم تجف أنزفتها بعد ارتسمت على شفاه الأطفال . لكنني لم ألبث كثيراً حتى شعرتُ انّ انفاسي قد اقتبست من رائحة المارد ، و عيني احمرّتا برعب و رهب المارد بل حتى أنّ أناملي قد نمت لها مخالب تشبه مخالب المارد تماماً ، وشعرتُ للحظة أنّ غرائز ما قد اجتاحت كياني لم أعرف معالماً لها . توجّهتُ الى حمّام المنزل لاغسل يدي و أزيل بقايا الدم عن ملابسي ، فلاحظتُ في المرآة وجهي، و كان وجه المارد تماماً . انسحبتُ الى الخارج مضطرباً . كان الضوضاء في الخارج يخترق جدران المنزل و يلاحق ضربات قلبي . لم أكن أعي أسباب طوق الحشود تلك لباب منزلي ، و لم تكن آذاني تميّز شيئاً مسموعاً محدداً . أصوات كانت تشق ظلام الليل و تهب من جميع الأفواه في الأزقة، أصوات لها صرختها السابقة و رائحة غضبها المألوف . لم يكن أمامي في هذه اللحظة ،سوى أن استعجل للعثور على عباءة تخفي هيئتي المرتجفة التي كانت هيئة المارد .

auzim1975@yahoo.com

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| محمد الدرقاوي : كنت أفر من أبي .

 هي  لا تعرف لها  أبا ولا أما ،فمذ رأت النور وهي  لا تجد أمامها  غيرهذا …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| كريم عبدالله : وحقّك ما مسَّ قلبي عشقٌ كعشقك .

كلَّ أبواب الحبِّ مغلّقة تتزينُ بظلامها تُفضي إلى السراب إلّا باب عشقك مفتوحٌ يقودني إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *