عندما أهداني صديقي الشاعر حميد سعيد كتابه ( تطفل على السرد )، حملني وانأ أطالع صفحات الكتاب، الذي قرأت الكثير منه منشورا في صحيفة الرأي الأردنية، لحظات تأمل وتذكر للعودة إلى العقد الستيني من القرن العشرين، كانت سنوات مراجعة وتحول في كل الأنساق الفكرية والاجتماعية والسياسية، ليس في بنية المجتمع العراقي وإنما في معظم مجتمعات بلدان العالم، حمل لواءها الشباب وبالذات الطلبة، بحضورهم الطاغي في الإحداث كما كان في فرنسا، حتى سميت بثورة الطلاب، فقد تحركت الإحداث في قارات الأرض، مجارات للتطورات العلمية في الاتصالات والمواصلات، تبغي التغيير بعد الحقبة الاستعمارية (الكولنيالية)، التي امتدت جاثمة على صدر الشعوب دهرا طويلا، فكانت حركات التحرر الممتدة من أقصى شرق العالم إلى ادني غربه، تعلن تمردها متزامنة مع هذه الثورة العلمية، أحدثت هزات في البني الاجتماعية والفكرية في العديد من المجتمعات الشرقية والغربية، ولكنها لم تحدث ما يذكر في البني الاقتصادية، على الرغم من وجود المنظومة الاشتراكية، فقد ظل البناء الرأسمالي للمجتمعات الغربية وتوابعها في اقتصاديات العالم الثالث هو المسيطر والمتحكم في مجتمعاتها، ولم يتخلف العراق عما حدث، وان كان بفعل عوامل ومعطيات داخلية، هي التي حركت في داخله حركة التمرد، في جميع الأنساق الاجتماعية والفكرية، أخذت إبعادا مهمة في الحراك الأدبي والفني، إلا إن هذا لا يعفي الحركة من المؤثرات العالمية، الحراك الذي حمل الكثير من الأفكار الحداثوية، فجاء منها ماهو زائف ومتأثر بالموجة العالمية، ومنها ما كان أصيلا وحقيقيا، نبع من تفرد الساحة الثقافية العراقية، في خلق الجديد وابتكار المستحدث بين آونة وأخرى، فكانت تمرد الطلبة المتساوقة مع تصاعد حركات التحرر الوطني في جنوب شرق آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، قد أحدثت رجة في البنى العقلية السائدة لما قبل منتصف القرن العشرين. و كما أسلفنا وان كانت في العراق هذه المؤثرات تصل بطيئة ومتأخرة عن الحدث في وقته، إلا أنها انصبت مع الحراك الداخلي الذي كان يتبلور في داخل البنية الاجتماعية والثقافية، نتج عنه تطورات كبيرة في البناءات والأنساق الفكرية والأدبية والفنية، كان من أهمها أدراك الإنسان العراقي أن الصراع والاختلاف يجب أن يكون لصالح تطور الإنسان ومجتمعه، وليس من أجل المصالح والإغراض الشخصية التي البسوها ثوب الإيديولوجية، وشكل احد القناعات المهمة لدى المثقفين من مختلف الاتجاهات، وجاء هذا مع مجيء حكومة تحمل ذات الطابع التي لا تدين إلى فكر إيديولوجي معين، (حكومة عبد الرحمن عارف)، مما أوجد مناخا مناسبا إلى هذا التغيير، فامتلأت مكتبات شارع المتنبي في بغداد و المكتبات في المحافظات ، بكتب سارتر وكامو وهيدجر وكولن ولسن .. الخ، والروايات والقصص التي كانت محجوبة عن القارئ العراقي، والكثير من المطبوعات التي ضختها مطابع مصر ولبنان التي لم يكن يسمح بدخولها، وظهرت كتابات وفعاليات فنية وأدبية، وتشكلت في هذه الأجواء المجموعات الأدبية والفنية بحراك يغلب عليه الفكر اليساري. وكانت المقاهي هي مقرات اللقاء وموقع لاجتماعاتنا، وقد لعب مقهى البلدية في ساحة الميدان في بغداد، دورا مهما في لقاء الأدباء والفنانين وتبلور الكثير من المفاهيم والأفكار، وإسقاط الكثير من الشوائب التي كانت تلف علاقات المثقفين بين بعضهم البعض، وزالت أغلب الخصومات والأحقاد، ولكن عقب غلق مقهى البلدية انتعشت مقاهي شارع الرشيد، مقهى الزهاوي وعارف أغا وحسن عجمي والبرلمان، وكلها تقع في بداية شارع الرشيد من جهة باب المعظم. وأتخذ الشاعر عبد الأمير الحصيري مقهى عارف أغا مقرا صباحيا له، فهو يغادر الرشيد ومقاهيه بعد الساعة الخامسة عصرا إلى شارع أبي نؤاس، فكنا نجتمع في بداية شارع أبي نؤاس، في مقهى ( المعقدين) لنتفرق على المقاهي الأخرى، وفي مقهى عارف أغا تعرفت على الشاعر حميد سعيد من خلال صداقتي للشاعر عبد الأمير الحصيري، عندما كان يزوره حميد سعيد بين الحين والأخر في المقهى، وكان عبد الأمير الحصيري يكن لحميد سعيد مودة خاصة وكذلك لعزيز سيد جاسم، واحتراما خاصا يفرقهما عن الآخرين، وما عداهما لم يكن يكترث عبد الأمير لأحد، ويقيم الآخرين بقدر ما بجيوبهم من نقود، وبالرغم من متانة أواصر صداقتي بالمرحوم الشاعر عبد الأمير الحصيري، إلا إنني لم أفكر في سؤاله عن سر هذا الاحترام والتقدير الذي يكنه لهاتين الشخصيتين من دون الآخرين، وتنبهت لهذه المسالة متأخرا. في تلك الفترة كنت رئيس مؤسسة البصام للثقافة والسينما والمسرح، ورئيس تحرير مجلة الفنون المعاصرة، التي عنيت بالأدب والفن الحديث، فقد كان إصدارها يمثل جزء من مرحلة التمرد والتغيير الذي كنا ننشده، وكما يطلق عليها د.محسن الموسوي، (الروح التي تبحث عن جدواها في غابة الفقر والحرمان )، ولكننا جميعا كنا نقاتل من اجل تثبيت هذا الوجود، الذي حمل جزءا كبيرا من حلم تحقيقه محسن الموسوي وحميد سعيد وسامي مهدي وامجد توفيق والآخرون ممن كني بجيل الستينيات، عندما أتيح لهم في المراكز الوظيفية التي احتلوها، لان يحاولوا تحقيق الحلم الذي لم يتحقق، ولكن على الرغم من ذلك، كما يقول الشاعر حميد سعيد ( كان الموقف فيه خطأ عندما ربطنا التقدمية بالدولة)، ونشرت وقتها لحميد سعيد في مجلة الفنون المعاصرة في عددها الثالث قصيدة له، وظلت علاقتنا ذات طابع رسمي أكثر منها أن تكون حميمية، خصوصا وأننا نعتنق أيديولوجيتين مختلفتين، وبعدها التحقت في حركة المقاومة الفلسطينية، ولم تتح لي فترة العشر سنوات التي قضيتها في حركة المقاومة في الأردن من اللقاء بحميد سعيد، حتى عودتي إلى العراق في نهاية السبعينيات، وزرته وهو رئيس تحرير جريدة الجمهورية، الصحيفة العريقة في الصحافة العراقية، وكان حميد سعيد وقتها قد أخذ دوره كشاعر مهم في الساحة الثقافية العراقية والعربية، إضافة لاستلامه لمراكز رسمية مهمة في مجال الثقافة في الدولة العراقية، كان آخرها رئيس أمناء بيت الحكمة، ولكننا كنا نلتقي عند صديقنا المشترك المحامي سلام السلطان، وحدث الزلزال واحتل العراق، وتبعثر كل شئ وتهدم كل شئ، وحط البرابرة والفاشست رحالهم في قلب بلادنا وغرة عراقنا بغداد الحبيبة، وبدأنا نتلمس خطواتنا ونبحث عن رفاقنا وأصدقائنا، فقد كان كل شئ أسود إمام هذه الريح التي لم تبق ولم تذر، فقد كنا نعرف مسبقا، أنهم جاؤا ليجردوا الأرض من زرعها ومائها وهوائها، فالمحتل ومن معه يحملون برنامجا ويعملون على تطبيقه، وكان من أولويات برنامجهم تدمير المجتمع العراقي وتغيير بنيته وقيميته، وقطع جذوره وتشويه الثقافة العراقية ومرتكزات بنائها المتمثل بالدولة ومؤسساتها، التي هي ملك الشعب وقوة مجتمعه وليست ملك لحزب أو أشخاص، أنما هي كيان العراقيين، وجعله مجتمعا مسخا لا يقوى على بناء مرتكزات دولة متحضرة، فكان لزاما عليهم أن يهدموا هذا الصرح الذي ظل عصيا على الامبريالية والصهيونية، واستبداله بكيان لا جذور ولا مرجعية له، ليساعد في تثبيت الاحتلال وإنجاح برنامجه ألاحتلالي الذي جاء من اجله، وقد أثبتت الإحداث عبر السنين التي مرت على احتلال العراق، أن المحتل استفاد من تجاربه السابقة في فيتنام وأمريكا الجنوبية وبالذات جنوب شرقي آسيا وفلسطين، فعمل في العراق قبل وبعد الاحتلال على ضوء ما حصل عليه من هذه التجارب في كيفية أضعاف القوى التي تقاوم احتلاله، وإضعاف إي مؤثرات لتحريك الشعب على مقاومة الاحتلال، ومن أهم مرتكزات مخططه، أن لا يسمح بتشكل قيادة فكرية للشعب تنضر لمقاومته، ويزرع العديد من القيادات المؤيدة والمعارضة، ليؤسس للصراع الداخلي، ويشتت المعارضة الحقيقية بحملة إعلامية لا قبل للشعوب النامية بها، فتتفت قوى الجماهير في صراعها بين بعضها البعض، وتسقط إي إمكانية لظهور قيادة فكرية أو نضالية تقود الجماهير وتوحدها، ليتم له التحكم بالعملية، ويستمر في تثبيت الاحتلال، وهو ما حدث ويحدث في العراق، وكانت الأيام الأولى للاحتلال عصيبة، فقد أطلق الاحتلال مجموعات وأفراد بصورة منظمة لقيادة عملية التهديم، وكان حاخامهم الأكبر (بريمر) يصدر قرارات التهديم على صعيد الدولة، والصغار ينخرون في الجسد العراقي اجتماعيا واقتصاديا وفكريا، وبدؤوا حملتهم في النيل من كل القيم، لاستبدالها بقيم جديدة تتواكب ومرحلة الاحتلال، وحاولوا انتزاع العراق من جذوره، فشنوا حملة ضد كل ما هو عربي في تاريخ العراق، تاريخا وحضارة ومجتمعا وإفرادا، وأي أنجاز حققه الشعب بغض النظر من كان وراء هذا الانجاز، وادعوا أن تاريخ العراق الحديث صراع عرقي وأثني وطائفي، وسخروا بطريقة همجية كل ما هو حقير ودنيء، لإسقاط القيمة الاجتماعية والفكرية والاقتصادية للمجتمع العراقي، الذي سعوا عبر حصارهم الذي دام احد عشر سنة، لتخريب وبعثرة الجهود التي بني عليها المجتمع العراقي، كشفت عن القناع الزائف الذي تدعيه دول التحضر والدفاع عن حقوق الشعوب، وهي في حقيقتها أول من يسعى لتدمير الحضارات والشعوب التي تتعارض وخطها، وتسقط حق الشعوب في العيش الكريم وحتى الإفراد. وحاولنا مجابهة هذا المد الهمجي بما نستطيعه، وكنا نتحرك على جمر يحف بنا اللهب من كل مكان، فالموت بضاعة أصبحت بيد القتلة والمجرمين، الذين كانوا لا يجرؤن في السابق على الظهور إلا بالخفاء، وألان هم في وسط الحدث يتحكمون، واستخدمهم المحتل لصالحه، أو الذين أو جدهم بعد الاحتلال باسم الشركات الأمنية أو خريجي السجون من المجرمين والقتلة الذين جندهم، ومن أمثلة ما اقترفوه، إن منع التجوال يبدأ في الأيام الأولى بعد السادسة مساء وقلص للثامنة وقلص للعاشرة واستقر لفترة طويلة من الحادية عشر ليلا حتى السادسة صباحا، ودورياتهم وقواتهم التي جلبوها أو القوات المحلية التي أسسوها، تجوب الشوارع وتطلق النار على كل شئ يتحرك في الليل، لكنك تستفيق صباحا فتجد جثثا لا تعرف لمن، وكيف جاءت ومن جاء بها، أصحابها من طوائف وملل عكس أكثرية المنطقة السكنية، ليذيعوا في نشراتهم الإخبارية، وجد كذا قتيل من الطرف الفلاني في منطقة الطرف الفلاني، فمن قتلهم ومن رماهم، في الليل الممنوع التجوال فيه ؟ إزاء ما يحدث وبهذه البشاعة، التي كانت أكبر منا واعلي مدا، لم يبقى لنا إلا الصمود، والبحث واحدنا عن الأخر، وتقصي أخبار بعضنا البعض والسؤال عمن بقى ومن غادر، فهذه عصابات إجرامية لا يقف في وجهها أي شئ إلا تنفيذ أوامر أسيادها، ولم يكن يهمنا الذين نسأل عنهم من إي الاتجاهات السياسية والفكرية، مع السلطة السابقة أو ضدها، فقد كنا نعرف اللعبة وندرك إن المحتلين وعصاباتهم لا يقصدون النظام السابق وحسب، وإنما الشعب العراقي ودولته وتراثه ومفكريه وعلمائه كاملا، وكما كنا نقاتل من اجل المحافظة على تاريخنا وتراثنا من التدمير والسرقة، كنا نركض هنا وهناك، ننطلق من مقهى حسن عجمي لمعرفة ما يسرق ويدمر، فقد كانت كل المقاهي مغلقة وبضمنها الشابندر في الأيام الأولى للاحتلال، بل أكثر المحلات مغلقة في شارع الرشيد، فهذا صفاء صنكور وليث الترك وقاسم سبتي ومحمد غني حكمت وصلاح عباس وحسن عبد الحميد وآخرون لا يسع المجال لذكرهم، منهم من جعل نفسه في بوز المدفع، ومنهم تحرك على قدر إمكانياته وطاقته، قسم لشراء اللوحات المسروقة من المتاحف، والبعض يحاول إن يوقف سرقة المكتبات، وأذكر إن صفاء صنكور ودعنا بعد إن عيينا من الحديث مع المستشار الأمريكي في فندق فلسطين مرديان وصفاء يناقشه ويحرجه ، من أجل أن يرسل من يوقف سرقة أرشيف المكتبة الوطنية في باب المعظم، وفي النهاية وعد أن يرسل قوة للتحقق، وعدنا إدراجنا خائبين، واخبرنا الذين ينتظروننا في المقهى بما حدث، غادر صفاء قبلي المقهى، ولكني فوجئت عند مغادرتي أن أجد سيارته تقف في باب المجمع العلمي العراقي نهاية منطقة الوزيرية، أوقفت سيارتي في الجانب الآخر وعبرت لا عرف ما يحدث، فوجدته يتحدث مع ثلاثة أشخاص ينقلون كتب مكتبة المجمع إلى سيارتهم البرازيلي الحمراء، انضممت إليه في الحديث معهم، فقالوا أنهم يريدون إن يحفظوها ويعيدوها بعد إن تستتب الأمور، اخذ صفاء رقم سيارتهم وغادرنا، ولكنه أضاع الرقم في زحمة الإحداث، وبعد أشهر إثناء بحثنا عن المسروقات، عرضت مجموعة كتب للبيع في منطقة بوب الشام، واشتريتها بعد إن عرفت أنها جزء من مكتبة المجمع، عندما أعدتها للمجمع طالبت بإيصال استلامهم، فقد فقدنا الثقة بكائن من كان بعد الذي حدث، نعم لقد نجحوا في الجولة الأولى لصفحة الإحداث، بعد كل التدمير والرعب والإرهاب الذي مارسوه، فغادرنا الكثير من المبدعين مفضلين الاستتار لفترة حتى ينجلي الأمر، والبعض الآخر لم يملك إمكانية مغادرة العراق، والبعض فضل مواجهة ما يحدث، وبهذا التشتت على الحركة الثقافية، ظهر إعداد من الأدعياء الذين كانوا يركضون وراء رجال النظام السابق ولديهم الاستعداد لتنفيذ إي شئ يطلبونه للحصول على حضوة، ظهروا بعد إن لبسوا قناع المعارضة ضد النظام السابق، وكما كانوا ينبطحون توسلا في السابق، انبطحوا للمحتل وأعوانه وراحوا يكيلون التهم والشتائم، لكل من يقف بوجوههم، وأنظم لهؤلاء قسم من كان يقف على الحياد، وقسم فعلا كان لهم وجهة نظر فكرية وليست نضالية ضد النظام السابق، مع من حضر بعد الاحتلال، لأشخاص نعرف حراكهم الثقافي ومن لا نعرف له إي نشاط في السابق، لينظموا إلى المشهد، ويجتاحوا الصحافة التي أغدقت على الشارع العراقي بكل ما تحمله كلمة سفائس، تأسيسا لثقافة الشتم والسب والاتهامات الجزافية، ووصل بحال الشارع الثقافي إلى مرحلة من التدني والإسفاف والسرقة من الانترنيت، ومن بعضهم البعض، وكل ما يحط ويهين الثقافة العراقية، وانجر من أنجر لهذا المشهد، إلا إن المثقفين الحقيقيين والاصلاء، ظلت رؤوسهم مرفوعة بمعنى الكلمة، وكما قال د.عزيز عذاب ( مثقفي الستينيات الحقيقيين والاصلاء، ظلوا على أصالتهم، لم يغريهم كل الذي قدم إمامهم، وظلت الكلمة الحرة والوطن هو الأصل، بغض النظر إن كانوا مضطهدين أو مهمشين من النظام السابق)، نعم ظل الاصلاء أصلاء، ووقفوا متحدين كل العنف والإرهاب ولم يرضخوا أو يمنحوا كلمتهم لغير الوطن والشعب، واستمروا في مناهضتهم للاحتلال، كل بطريقته. وجاءت الموجة الطائفية لتكشف القناع عن كل الوجوه المقنعة والزائفة، وبدأت الحقائق تتكشف، ويذكرني هذا في نهاية عام 2003 ، عندما حضر د.علي ألساعدي بعد مجيئه من عمان، ليحضر إحدى جلسات ملتقى الجماهير الإبداعي، الذي أوقف في عهد النظام السابق من قبل الجهات الأمنية، وقد كان احد المشاركين النشطاء في الملتقى قبل إن يستقر في عمان، ورأى وسمع كيف ينتفض العديد من هؤلاء الذين اعتبروا أنفسهم ممثلي الثقافة العراقية الجديدة عند ذكر (الاحتلال)، فقال: ما هذا وكيف تسكت لتخرصاتهم ؟ قلت له همسا: العاصفة في أوجها وسترى كيف نمتصها، ونجعلها تأخذ مسارها الحقيقي، وتنكشف الأقنعة. وفعلا عندما عاد بعد سنة من ذلك التاريخ، رأى وسمع التغيير، وكيف الذين كانوا يقولون بالتحرير، إما سكتوا ولاذوا بالصمت أو بدأت الكلمات تخرج من أفواههم بحياء، وستكون هذه الأصوات من أكثر المزاودين مرة أخرى لتعلن أنها ضد الاحتلال، وأكثر هؤلاء هم من الذين كانوا يركضون وراء من يسمونهم ألان أزلام النظام السابق، من اجل حظوة أو يسجلون أسماءهم في سلم الرواتب التي كانت تمنح مكرمة للأدباء والفنانين، ومن المفارقات العجيبة أن الصديق الكاتب الأردني المعروف مجدي ممدوح، الغارق في بحر الفلسفة والباراسايكولجيا، كانت له جولات في السهر والمنادمة في اتحاد الأدباء والنوادي والجلسات الخاصة، مع قسم من هؤلاء الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أصدقاءه، ولكنهم ما أن حل الاحتلال بين ظهرانينا حتى انقلبوا عليه ولحقنا من الرذاذ المتطاير ضده، وشنوا حملة (قومجي وسيل من التهم الجاهزة) واتهمونا واتهموا ملتقى الجماهير انه وكر للقومجيه، هكذا كانت الأيام مع احتلال ومحتلين واعوانهم بلا مبادئ ولا أخلاق فكان خوفنا على الأصدقاء وعلى ما تبقى من تراثنا . عرفنا بعد حين إن الصديق الشاعر حميد سعيد غادر خارج العراق بعد إن ازدادت الضغوط عليه، وحسب ما أخبرني بعد زيارتي له في عمان عقب سنة ونيف على خروجه، (ظننت أنها أيام أو أسابيع وأعود، وفضلت الأردن لأنه الأقرب إلى العراق من بلدان المغرب العربي، أو إي مكان آخر، لسهولة العودة ولقاء الأصدقاء القادمين من العراق ).
ألان بعد أن مرت عاصفة المحتل وما لحقها من صفحات ليس لها أول ولا آخر كان أقساها، ما افتعلوه من الاقتتال الطائفي، ننظر إلى المشهد الثقافي ما زال يحمله، أصحاب الكلمة والمبدأ، وكل الذين تعالت أصواتهم بتمجيد المحتل وتسميته بالمحرر، تساقطوا وما زالوا يتساقطون، وقسم كبير منهم بدل من صيغ أقواله وأخذ، يتحدث عن الاحتلال، بينما ظلت هامات رجال المبادئ من المثقفين العراقيين، أن كانوا في داخل العراق أو خارجه، مرفوعة ولم تنتكس راية الثقافة العراقية، وظل الإبداع شاغلهم وهمهم، إن جاء عمر أو ذهب زيد، فهذا الكاتب والناقد د. حسين سيرمك في مشروعه الثقافي، ( الناقد الراقي )، ود.محسن الموسوي، وبثينة الناصري ومحمد السعدي وعبد الإله الصائغ وموقع النور، ود. سيار الجميل، وهذا مهدي شاكر ألعبيدي يذكرنا بكل ما هو خير ونزيه في تاريخنا الاجتماعي والسياسي والثقافي، وعبد الرزاق عبد الواحد بشاعريته الفذة، وشكيب كاظم السعود وكتاباته النقدية والتعريفية برموز الثقافة وغيرهم كثر، الذين ينشطون في داخل العراق لإعادة الوجه المشرق للثقافة العراقية باشعار جواد الحطاب المقاومة للاحتلال، أو الذين ينشطون في المحافل الخارجية رافعين الثقافة كما كانت في أيامها السابقة، ولا أريد أن أورد أسماء وأسماء فالقائمة أكبر من إن يسعها هذا المقال، ولكني وانأ بصدد الكتابة عن كتاب ( تطفل على السرد) للشاعر حميد سعيد، استذكرت الأيام الخوالي، ولم أذكرها كلها، فصفحات ذكريات أيام الاحتلال من الصعب المرور عليها سريعا، وانأ على الرغم من ألمي من احتلال بلدي، إلا إني فرح عندما اقرأ وأشاهد الثقافة العراقية والمثقفين العراقيين يمارسون دورهم الثقافي والحضاري، بنفس القوة محطمين برنامج المحتل وأعوانه، التي أريد لها إن تتشظى مثل ما عملوا في بنية المجتمع العراقي، تعود تدريجيا لسابق عهدها، لتنسحق تحت أحذيتهم ثقافة السب والشتم والكذب والدجل، والتهم الزائفة والأحقاد الشخصية، اشعر بالفخر لانتمائي لهم.
التطفل على السرد
وعودة إلى كتاب ( تطفل على السرد )، الذي كنت أطالع ما يكتبه الصديق حميد سعيد في مقالات عن آرائه في الكتابة القصصية والروائية في الصحافة الأردنية، وكنت معجبا بأسلوب كتابته المقالة التي أخوض في نفس أسلوبها تقريبا، فعندما اكتب عن قضية يشترك معي فيها أشخاص أسرد ذكريات مثل ما تقدم في حديثي عما حدث أعلاه، ولكن ليس في الرؤية النقدية، إنما ذكريات في مجرى الحديث، أما ما يميز كتابات حميد هو هذه الرؤية في تقديم المادة بأسلوب سلس، يختلط فيها الذكريات وآراء الآخرين بوجهة النظر النقدية بالمقارنة، وهو أسلوب السهل الممتنع الذي يتحدث إلى جميع طبقات المجتمع، ويستلذ بقراءته المثقف والقارئ العادي، يحمل في طياته معلومات وأفكار ورؤى تجعل القارئ من الصعب إن يترك العمود الصحفي، الذي يجره بعض الأحيان لأن يلاحق ويتابع الموضوعات، وهو بذلك يضعنا بين رؤية الشاعر والناقد، الكتاب يقع في ( 248)، صفحة من القطع المتوسط ، إصدار دار تاله للنشر. دمشق . سوريا ، بعد الإهداء والمدخل، وضع ما يشبه أسماء للفصول، بتسميات (من قبيل الأسئلة. أسماء وقضايا. قراءات في الرواية . قراءات في القصة القصيرة )، وفي كل محور عدد من المقالات التي تتحدث بفكرة عنوان المحور، الكتاب مجموعة مقالات في تصور الرؤية بالنسبة للقص والسرد، وهو الموضوع الجامع، الذي يجعل الكتاب محورا واحدا، يبدأ في طرح الأسئلة، عن الرواية ولماذا تقرأ، وأسباب انتشارها، ومن خلال صياغة الأسئلة ومقارنة أراء الآخرين يخرج برأي، فهو يطرح وجهة نظره فيما يقرأ بعد أن يناقش آراء الآخر، ويرفض أن يوسم كتاباته بالنقدية، وكما يقول في المقدمة ” ولأنني لست ناقدا، وليس في نيتي اقتراف فعل النقد المنهجي، فان قراءاتي تبقى في حدود الانطباعات، وتعتمد الحوار بين القارئ والنص، وفيها لست سوى قارئ، يحاور النص الذي يقرأ. ” ، فهل هو تواضع أم هروب من مسؤولية الناقد؟، أو كما كتب القاص والروائي عبد الرحمن الربيعي، الذي عرف بصداقته لحميد سعيد كما هي صداقتي له، منذ ستينيات القرن الماضي، وقد نال الشهرة في عالم القص والرواية، لدأبه ولصدق بناء توجهه الذي سنرى تأكيد حميد سعيد على نقطة المصداقية في العمل الروائي، فهو الإنسان ألمبدأي الذي لم يغره ما كان ينتظره لو انظم لقافلة الطبالين، الذين باعوا وطنهم وشعبهم، بابخس الإثمان وارتضوا المهانة تحت مظلة المحتل، بالذرائع التي اختلقوها ليغطوا على الإثم الذي اقترفوه، فقد كتب في جريدة الشروق التونسية في عموده المعروف، ثلاث أعمدة متتالية عن الكتاب، يختمهن برأيه في الكتاب، ” بأنه في كتابه هذا كان قارئا (ماكرا) من مكره بادعاء التطفل على السرد، ولكنه كان في القلب من هذا السرد)، و يثني على ذلك، الكاتب والروائي ياسين رفاعية في صحيفة المستقبل اللبنانية، ” لم يكن كتاب الشاعر العراقي المقيم في عمان حميد سعيد “تطفل على السرد” بل كان عميقا وموضوعيا، أطل منه الشاعر على الرواية العربية التي أصبحت بعد الشعر ديوان العرب ” ويستطرد في فقرة أخرى ” فإذا عدنا إلى كتاب حميد سعيد نراه ينظر للرواية بشكل عام، واضعا نظريته الخاصة التي تختلف عن نظريات النقد، مستعيدا قصص الملاحم القديمة ” فهل نعتبرها نصوص انطباعية ، بعد أن استمعنا لرأي ( أهل مكة أدرى بشعابها) كما جاء العنوان ليطرح الإشكالية، هل يمكن إن يكون الشاعر ناقدا، وهو موضوع جديد طرح في ندوة أقيمت في رابطة الكتاب الأردنيين بمناسبة صدور كتاب الشاعر والناقد على جعفر العلاق الجديد، ( من نص الأسطورة إلى أسطورة النص ) الصادر عن دار فضاءات في الأردن، وقد سبق إن اصدر العلاق مجموعة كتب نقدية أغلبها في الشعر، وقد رافقني كتابه ( مملكة الغجر) الصادر في بغداد عام 1981 ، فترة طويلة أعود واقرأه كلما وجدت فراغا لإعجابي بأسلوبه وتناوله للموضوعات، ولكن العلاق لم يقتصر نقوده على الشعر فقد كتب دراسة عن الروائي والكاتب الأردني غالب هلسا بعنوان (عالم غالب هلسا)، وهذا مما يجعلنا نحترم موقف حميد سعيد في تواضعه، ولا نعفيه من مسؤوليته النقدية، فهناك أمثلة كثيرة عن شعراء نقاد والعكس، روائيين أو من أجناس مخالفة للجنس الذي اشتهروا به، ممن كتبوا في نقد الجنس الذي اشتهروا فيه أو أجناس أخرى، وخير مثال لدينا الراحل جبرا إبراهيم جبرا . وكتاب ( تطفل على السرد )، الذي يبدأ في الأسئلة التي يوجهها حميد سعيد في الباب الأول المعنون، (من قبيل الأسئلة)، يمثل المرحلة الأولى في محاكمته للبنى السردية، ليأتي في الأبواب اللاحقة على التطبيق العملي للنقد السردي روائيا أو في الباب الأخير كقصص قصيرة، بأسلوب سلس وبلغة قوية التعبير ومتانة في البناء وتحكم في الأداء، ويضع مسالة في غاية الأهمية وهي مصداقية الكاتب، كمعادل موضوعي بين الكاتب وإبداعه، ” وهذا ما جعلني أكثر قدرة على رؤية، أن مصداقية الرواية، ظلت ثابتة، في مجرى المتغيرات الروائية، وهذه المصداقية، ليست من تخيل القارئ، “ص48 ، أن الإعمال العظيمة هي التي حملت الكثير من المصداقية، وبهذا خلدت نفسها، وتميزت عن آلاف الإعمال التي ظهرت على مر عصور الرواية منذ الاسكندر دوماس ولحد ألان، وهو بهذا الخط يحاكم الإعمال من منبر الواعي لما يريد إن يقول ضمن منهج يؤمن به، وان كانت المقالات لا تخضع للطول والعرض، فلانة يكثف العبارة، وينتقي المفردات، فبماذا نسمي هذه العبارة إن لم تكن نقدا، وهو يتحدث عن رواية الكاتب الأردني هزاع البراري، وقد اتخذناها كنموذج لكتاباته النقدية، ” وقد أختار الكاتب تقنية متميزة، إن لم أقل جديدة بما يوحي، وكأنه كتب الرواية مرتين، حيث بدأ بتقديم مادته الروائية، بلغة شعرية، وبتداخل الإحداث والأزمان والأمكنة والأشخاص، وقد أقدم على هذه المحاولة بوعي لا شك فيه ” ص156 ، لاشك أن هناك بعض المواضيع في الكتاب راعت أنها كتبت للصحافة الثقافية، ولهذا كما قلنا كانت عباراتها مقتضبة ومكثفة، ولا تخلو بعضها من الميلان نحو الانطباعات، ولكن الكتاب في المحصلة الأخيرة، يمثل جهدا نقديا، أهميته انه تناول موضوعات في الرواية العربية والعالمية، أتخذ فيه منحى الجرأة والصراحة، وأقام له موقعا في درس النقد، سينظر له بعين الاعتبار، وفوق هذا وذاك ما زال واحدا من الذين استمروا في العطاء، واستمرت جذوة الإبداع العراقي مشتعلة، وخاب أمل الاحتلال في سحق أبداع العراقيين، الذي يمتد عمره لستة آلاف سنة خلت.
مؤيد داود البصّام : حميد سعيد .. تطفل على السرد، وذكريات عن زمن الاحتلال
تعليقات الفيسبوك