عيسى حسن الياسري : رواية مريم لمحمّد حسين الأطرش.. مرثية أيام مرتحلة ٍ وشاهد عصر

“كنت ُ ابن العشر سنوات عندما كتبت بالطبشور بضعة جمل

الروائي محمد حسين الأطرش


على الباب الحديدي لحديقتها ..هممت بالهرب يومها ولكنها

أمسكتني وضحكت قائلة ً.. لاتهرب .. ماذا تكتب .. تبدو قصة جميلة؟”

بهذا المقطع الشعري الشبيه بترتيلة  يبدأ الروائي ” محمد حسين الأطرش ” باكورة نتاجه الروائي ” مريم .. ذاكرة وطن ” وهي من منشورات ” الصالون الثقافي الأندلسي ” في مونتريال ..وصدرت عن ” دار فضاءات ” الأردنية .
فهل كبر ذاك الطفل ابن العشر سنوات ؟ هل شب عن الطوق ؟ هل درست حوافر الأيام والليالي التي تعاقبت على الركض فوق مماشي وطرقات ذاكرته تلك اللحظة الماكرة التي دونتها أصابع الطفولة ؟ هل امّحت آثار ذلك الطبشور الذي دون من دون أن يدري قصة كبيرة .. قصة لاتؤرخ لحياة امرأة نضت عنها ثوبها المادي وتحولت إلى حمامة  تتنقل عبر الزمن .. وكأنها خرجت للتو من منديل ساحر ؟ بل دونت تاريخ وطن حُرث جسده بأشفار الخيانة .. وطشت بين أثلامه بذور المنافي .. والمآتم المكفنة بالسواد .. ولكن كل هذا لم يمنعه من أن ْيردد مواويله وأغانيه ..وأن يضم إلى حضنه الدافئ كلّ عشاقه ومحبيه حتى أولئك الذين غيبتهم المهاجر البعيدة .
قد تكون ” مريم ” الطاعنة في الشيخوخة والألم ..” مريم ” الكفيفة التي نزف بصرها قطرة إثر أخرى قد منحت بصرها الغائب إلى الطفل الذي كتب بالطبشور أول سطر من تاريخ هذه الأسطورة .. وقد يكون ذلك الطفل قد تلبس بصيرة “مريم ” الرائية فراح يتجول عبر حقول ذاكرتها .. ليجمع في سلته الصغيرة التي تتناسب وسنواته العشر كلّ ثمار حزن ” مريم ” ليتناولها رغم مرارتها وكأنه يتناول قطعة حلوى من بائع جوال ..
يقول النقاد المحدثون .. إن ّ من الصعب على الشاعر أن يكتب رواية ً إلا ماندر .. ولكن من السهل على الروائي أن يكتب الشعر .. فالروائي يمتلك مخيلة إبداعية مركبة .. إنه يتوفر على سمتين يندر أن نجد شاعرا ً يتمتع بهما .. إنه يمتلك القدرة أولا ً على تحليل كل شخصية من شخوص  روايته من جانبيها النفسي والسسيولوجي .. ومن ثم القدرة على ” التوليف ” بين هذه الشخوض التي قد تلتقي وقد تتنافر في تسلكاتها .. وتطور أفعالها داخل تحولات النص الروائي .. أما الشاعر فهو توليفي فقط .. فهل تضادَ الشاعر والروائي في رواية ” مريم “؟
وهل تغلب أحدهما على الآخر؟. لااعتقد هذا .. فالرؤية الشعرية التي تتوفر عليها مخيلة الكاتب قد تحولت إلى جمالية مضافة لنصه الإبداعي .. وحببته إلى المتلقي .
لقد نشأ الكاتب ” محمد حسين الأطرش ” في وطن مشكل هلى هيأة قصيدة شعر .. إنه لبنان ..حيث سحر الطبيعة الذي يمتد من السهل إلى الجبل إلى البحر .. وكأنه عروس تستعرض فتنتها في يومها السابع من أيام العرس .. وليس معقولا ً أبداً أن يولد أيّ إنسان فوق أرض لبنان دون أن يكون شاعراً بالفطرة ..سواء بازجاله ومواويله وأغانيه أو في قصائده الإبداعية  .. ومن هنا ..فإننا نستطيع أن نقول بأن ّ أول نظرية  لم تدون على الورق .. وتدور حول ” اللاتجنيس ” في النص الأدبي ..هذا المصلح النقدي الذي أنتجته الحداثة العالمية  قد ظهر في لبنان بفطرته الريفية الأولى .. وهذا ما أفاد منه الكاتب في تأسيس بنية نصه الروائي ..
إذن فإن رواية ” مريم ” هي نص روائي بكل آليات هذا الفن ..ولكنها في الوقت نفسه ..وانطلاقا من أرضيته التي تتحرك فوقها أحداث الرواية .. والتي رسمها المؤلف ببراعة فنان مقتدر .. ولكنه وفي ذات الوقت نص ليس مغلقا ً .. بل يظل منفتحا ً على كل تقنيات الكتابة الإبداعية ..إن ّ كل ّ فصل في الرواية مؤسس تأسيسا ً يكاد أن يكون مختلفا ً عما سبقه.. ولكن دون أن يقطع أوتار تلك اللازمة الفنية التي تضبط إيقاعية الفعل المتحقق لكل من شخوص الرواية .. وبأداء غير جبري .. وليس مفروضا ً من خارج النص ..وبعيدا ً عن التدخل الواعي في توجيه حركة  وأفعال حتى أصغر شخصية في النص .. لذا كانت كل حركة متوافقة مع طبيعة الحاضنة البيئية والنفسية .. وتحولاتها الحياتية .. حتى تلك الشخصيات التي تؤدي دورا ً تدميريا ً ومخربا ً للحياة ..والتي تعمل على مصادرة الحرية والجمال وفطرة ووداعة الإنسان وحميميته .. كون هذه الشخوص الأشبه بكائنات صودرت أنسانيتها ..وروضت لتأخذ هيأة وحوش حجرية لاقلب لها .. هي التي أوصلت الصراع داخل النص إلى ذرى مدهشة ومؤثرة :
“صار الأسم سكينا ً .. مشنقة ً.. خازوقا ًيقتل صاحبه عند أول حاجز موت .. صارت نهايات الشوارع صناديق سفر لعالم آخر هو الموت …” .
هذه الشخوص المتوحشة التي تقتل ..وتشنق .. وتخوزق على الأسم والهوية .. هي التي أنضجت عنصر الصراع الذي هو عنصر كبير الأهمية في إيصال النص إلى نهاياته المكتملة أبنية وتكوينات بصرية .
هذه الكائنات القادمة من عصور موغلة في همجيتها ودمويتها وبشاعتها .. يقابلها الإنسان الآخر المفعم بحب الحياة .. حيث يغني ويعشق ويجني الغلة ويدرس البيدر ويقطر النبيذ ..وكل ما هو مبهج وجميل وفاتن في الحياة .. كما في عشق “مريم وتوفيق ” :
” تأمل طويلا ً عينيها ..وشعر بغيرة غريبة من قمر ” كفر المنسي ” كان هو أيضا ً يغازل عينيها .. ولكنه لو حدق َ جيدا ً لعرف أن ّ عيني ” مريم ” لم تكن ترى إلا توفيقا ً ” .
وهكذا يتحد الشعر مع تداعيات لاوعي الكاتب ليضفي على النص الروائي لونا أخاذا ً من السحر والعذوبة والألوان البهيجة ..دون أن يسحب هذا الشعر النص الروائي إلى منطقته ..بل تحول إلى عامل مضاف لتطرية اللغة .. وإنقاذها من الترهل .. وكل ّ ماهو فائض عن الحاجة ..والذي يتحول إلى عامل إضعاف ونعطيل لانسيابية وتدفق ينابيع اللغة بكل أناقتها .. وشفافيتها ..والتي تقود القارئ إلى أكثر مناطقها تحريكا ً للمخيلة وانعاشا ً لها .
ولكي يستفيد الكاتب من جميع تقنيات الفن الإنساني فهو لم يتوقف عند الإفادة من التلوينات الشعرية حسب ..وأنما رسم لنا مجموعة من المشاهد الشبيهة بمشاهد النص المسرحي وهو يصف لنا مراسم زواج “مريم وتوفيق ” .. بل وأسس رسما تشكيليا ً من الكتل ومساقط الضوء .. وانعكاسات الظلال كما لو كان يحول قرية ” كفر النسي ” إلى لوحة فنية بكل تضاريسها وألوانها وفصولها وناسها  :
” تأخذ –مريم – بيدي . وهناك عند أطراف القرية تقف عند أول المدخل الشرقي. تأخذ نفسا ً عميقا ً .تتنهد . تسبح عيناها هناك في البعيد . ……. وتهمس بدفء – كان شجر الشوح يملأ الأرض ..وكان الأهالي قد شقوا طريقا ً لهم ولدوابهم بين الأشجار .. كانت جنة .. آه ” تضحك وتتابع لتخبرني أن ّ موعدها الغرامي الأول كان هنا بعد مغيب الشمس”.
قد يرى قارئ النص عند لقائه به للوهلة الأولى أن الرواية هي ذات شخصية محورية واحدة متمثلة في شخصية ” مريم ” .. وأن ّ ما تبقى من الشخوص ماهم سوى ذرات صغيرة تدور في فلك مجرة هائلة من الفرح والحزن .. العشق والكراهية .. الفرح والبكاء .. الطمأنينة والخوف حد ّ الرعب .. أي أن ّ” شخصية مريم “تظهر وكأنها  تمثل المحرك الوحيد للأحداث .. ولكن التأمل الذي  ينحو منحى تحليليا ً معرفيا ً واعيا ً لكل حركة تقوم بها الشخصيات المتعددة للرواية ..سيثبت أن ْليس هناك بطولة فردية تهيمن على النص الروائي .. وتوظفه توظيفا ً خاضعا ً لمشيئتها ورغائبها الذاتية .. بل هناك بطولة جماعية تبدأ من الطفل ابن السنوات العشر ..وحتى أقسى جلاد يحمل ملامح أهل قرية “كفر المنسي ” .. ويشيع الخراب في عالمها الوديع أكثر مما تسبب به لهذه القرية أولئك الغرباء القادمون من أقاصي الأرض .
إن ّ شخصية الطفل إبن العشر سنوات تستدعي منا أكثر من وقفة ..فهي مرسومة بفرشاة فنان ماهر .. وكاتب لايبدو عليه أنه يكتب نصه  الأول .. إن ّ هناك حرفية تقنية مكتملة وفرت كلّ شروط  رسم ملامح شخصية هذا الطفل .. وأعطتها دورا ًيفتح أمام من يتصدى للكتابة عن هذا العمل ألا يتردد عن الركون إلى ممارسة المصطلح النقدي الذي يعتمد ” التأويل ” أداة لتفكيك وتشريح ذاكرة طفولية تأسست أصلا ً على رؤى أقرب إلى الجانب “السوريالي ” منها إلى رصد الأحداث بوعي خارجي توثيقي كما عند الكبار .. إن  ّشخصية هذا الطفل تثير تساؤلات عدة وكلها تساؤلات مشروعة كونها شخصية مثيرة للإهتمام .. ومن هذه التساؤلات .. هل كانت شخصية مريم شخصية مفترضة اختلقتها عقلية طفولية ماكرة لتتلبس دورها … ؟ هل كانت شخصية الطفل نفسه معادل استعادي ابتكرته “مريم ” نفسها .. لتبدو وكأنها شخصية محايدة .. وهي لاتتحمل الكثير من المسؤلية عما جاء في الرواية .. لذا راحت تلقي بكثير من تبعات الأحداث على شخصية هذا الطفل إبن العشر سنوات الذي دون مطلع قصتها “بالطبشور” ..؟
أيمكن أن يكون الطفل ذاته حلم يقظة عاشته “مريم ” وهو غير موجود أصلا ً … ؟
هل أصيبت “مريم ” ونتيجة ما مر ّ بها من خيبات في حبها وأحلامها وخراب واقعها ومستقبلها هل أصيبت بانشطار في شخصيتها .. لذا قتلت بطريقة بارعة شخصية ” مريم ” المسحوقة والمدمرة .. لتستبدلها بذاكرتها الطفولية .. ولكي تبعد الشبهة عنها حتى لاتبدو مهزومة أمام واقعها الكابوسي  ابتكرت شخصة طفل ابن العشر سنوات لينوب عنها في البوح بما لم تستطع هي البوح به … ؟ أم هل أن ّ مريم والطفل نفسيهما شخصيتان مفترضتان  ابتكرهما الكاتب ليتخفى وراءهما من أجل أن ْ يدون شهادة عصر أكثر رعبا ً من كارثة … ؟
إن هندسة هاتين الشخصيتين “مريم والطفل ” بنيتا بطريقة فنية بارعة ويمكن أن تفتحا أكثر من طريق أمام من يتصدى لهذا العمل الإبداعي مستقبلا بالدراسة التحليلية المعمقة .. وهذا لايعني أبدا ً أن ّ الكاتب لم يعتن ببناء بقية شخوص الرواية .. إذ ..وكما  هو معروف في كل الأعمال الإبداعية أنه ليس هناك دور صغير فيها .. وليست هناك شخصيات هامشية لاتعدو عن كونها ديكورا مكملا ً للوحة العمل الإبداعي .. أي أن ّ لاوجود لأدوار صغيرة في العمل الإبداعي روائياً كان أم مسرحيا ً أم فلما ً سينمائيا ً ..وكما يقول أحد النقاد ” أن ليس هناك أدواراً صغيرة ً بل هناك ممثلون صغار ” .. ويتجسد هذا واضحا ً حتى في شخصيات الرواية الغائبة عن المسرح ..مثل شخصية “خالد ” ..حب “مريم ” الأول .. هذا الذي نقلته لنا ذاكرة الطفل إبن العشر سنوات .. والذي أسمت “مريم ”  أبنها من ” توفيق ” باسمه .. خالد الغائب هذا هو حلم خلود الفرح وامكانية عودته ثانية ً..لإن ّ الفرح سمة خيرة وإنسانية لايمكن أن ْ تندثر .. في حين أن الشر هو زائر مؤقت وطارئ .. وأن ّ مقاومته ..والصبر عليه كفيلان بإزالته عن الأرض التي تأسست منذ الخلق الأول لتكون مكاناً صالحا ً يقيم الإنسان فوق مسرحه الواسع أكثر مهرجانات الفرح والحب بهجة ودواما ً . إن ّ رواية “مريم ” تستحق أكثر من وقفة متأملة أرجو أن ينتبه إليها أكثر من ناقد ..إنها شهادة على عصر جميل تسببت في تشويهه كائنات تحمل ملامح أهله .. وقلوب أعدائه من قتلة فرح الإنسان .. هذا من جانبه الموضوعي ..أما من جوانبه الفنية فهو دحض لآراء النقاد الذين يقولون أن ّ شخوص القرية لاتصلح للمعالجة الروائية وقد أثبت الكاتب “محمد حسين الأطرش “عكس هذا .. ونفى صفة ” الشخصية المدينية ” ألتي تصلح وحدها للمعالجة الروائية . وقدم لنا شخوصا ً قروية توفرت على جميع آليات وتقنيات ونمو أفعال الشخصية داخل النص الروائي وكانت مثيرة للإهتمام . . وأخيرا ً ..  يمكنني أن أقول .. إن ّ رواية “مريم ” عمل ” جدير بالقراءة .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *