حسين سرمك حسن : مهدي محمد علي.. البصرة هي الجنة الضائعة

كتب الشاعر «مهدي محمد علي» كتابه «البصرة، جنة البـستان -البصرة في خمسينيات القرن العشرين)) بين عامـي 1982و1990 ويقول في المقدمة إن من بين مبررات وضع هذا الكتاب هو أنني، وفي هذه السنين بالذات، أرى لزاماً عليّ أن أعرض هذه الصورة للبصرة التي تغيرت في المعمار والعمران.. صورة ينبغي أن تحفظ في القلب، وأن تنهض في الذاكرة، لما تنطوي عليه من تاريخ غني في كل ناحية من نواحيه.. صورة آسف لضياعها الآن، كما أسفت لذلك وأنا أعيش فيها، ومنذ أواسط الستينات – وقد تحول فيها الكثير من مرابع الطفولة إلى مجرد شوارع حمقاء، وأرصفة جرداء، بعد أن كانت عوالم رحيبة، ليس باتساع مساحاتها، بقدر ما هي رحبة بغنى الحياة فيها رغم عذابات التخلف والعوز اللذين لم يكن التطور اللاحق علاجاً شافياً لهما ص: 6 – 7» فتشفق على هذا الإنسان الذي يحب مدينته حدّ العبادة، إلى الحدّ الذي يمضي فيه ثماني سنوات في استدعاء ذكريات مرابع طفولته فيها وصورتها البريئة الطاهرة – فالبصرة كانت معشوقة العراقيين – لأنه مازال ناقماً على أن عقد الستينات شهد تصفية جانب من بنى طفولة البصرة، وأعتقد أن من نِعم الله على «مهدي» هو أنه يختزن متغيرات الحياة السليبة في البصرة حتى منتصف الستينات، ولم يرَ الخراب النهائي الشامل الذي حصل بعد ذلك والذي وصل ذروته الآن. ولا أعتقد أنّ هناك قارئاً مهيئاً نفسياً للتفاعل مع ما كتبه الكاتب مثل أهالي البصرة الذين تمسكوا بها ولم يغادروها فلاحقوا تحول مدينتهم من ثغر العراق الباسم، كما كانت تلقب إلى مسخ وبقايا موت وشبح جسد يحتضر، وقد انفعلت بما كتبه «مهدي محمد علي» حدّ الاختناق بالعبرات لأنّ الحياة نقمت عليّ بامتياز ملاحقة هذا الخراب الذي محق البصرة وشبابها وجعلها عجوزاً شوهاء.
زرت البصرة ضمن سفرة طلابية جماعية في منتصف السبعينات فوجدتها ثغراً باسماً يزروه العراقيون ليستمتعوا بجمالها وبطيبة أهلها – والطيبة علامة البصرة الفارقة – ثم جئتها عسكرياً في العام 1982 حتى عام 1985 ثم من 1986 إلى 1987 ثم من 2000 إلى نهاية عام 2002 تنقلت من الدربهيمة إلى الأثل، الزبير، الفاو، والمتطقعة، السيبة، أبي الخصيب، عتبة، كوت أبو فلوس، القرنة، النشوة، الزريجي وغيرها.
وعبر هذه السنوات كنت أتابع «خراب البصرة» الذي كان مثلاً فأصبح حقيقة واقعة تمزق النفوس، ففي بداية الألفية الثالثة كانت البصرة /العروس تسكن خرابة مظلمة ومتشحة بالسواد بفعل الحصارات والحروب. وستستجيب لكتاب «مهدي» بقوّة حين تستدعي ذكريات ومرابع وشقاوات طفولتك الضائعة فتجدها واحدة وكأن «مهدي» يتحدث بلسانك. فنماذج «تومان» مهرج سينما الحمراء الجديدة – «رمزية المشهورة» السبابة الشتامة، خماس أبو الشربت، عواد أبو الفشافيتش، صالح الجايجي، أحمد الوطن، حسن الكردي.. وطقوس ليلة العيد وليلة الزفاف ودور (زكية الداكوكة)، وذكريات اليوم الأول في المدرسة الابتدائية وصرامة المعلمين وجمال القراءة الخلدونية رغم سذاجتها، تلك الأغاني الرائعة لداخل حسن وحضيري أبو عزيز وزهور حسين وسليمة مراد وصديقة الملاية، مونولوجات «عزيز علي» المقاومة الباهرة، بلبل الإذاعة الصباحي، طقوس رمضان، دورة السنة، احتفال الختان، أفلام تلك الأيام (عنتر وعبلة وليت للبراق وثنائي فريد الأطرش وسامية جمال وأحدب نوتردام وقوام جينا لولو بريجيدا وزيارة الأربعين، شعر البنات، وبيض اللقلق والعسلية.. ليالي الشتاء الباردة الطويلة وحكايات الجدّات (لعيبة الصبر وننتف نتيفان..) هي نماذج موجودة في مدن العراق كلها حتى نهاية السبعينات. لكن ميزة «مهدي» هي أولاً هذا الأسلوب السردي المنساب ذو اللمسات الشعرية – وقد جعل قصائده متناثرة تتلألأ بين فصول الكتاب وهي تتحدث عن البصرة، ثم هذه الذاكرة الحديدية المتيقظة التي احتفظت بأدق التفاصيل عن بعد يزيد على الربع قرن، ذاكرة نحسد عليها «مهدي» لكنها أمسكت بخارطة المدينة القديمة بدّقة – مكاناً وناساً – المكان في شخصنة ملامحه من خلال حركة الأشخاص وعملهم وانفعالاتهم…انظر إليه وهو يقودك من أول تقاطع لسوق «الهنود» سوق المغايز – الكبير فيصف كل دكان وصاحبه وسلوكاته المميزة وهو الواقع نفسه الذي شاهدته في بصرة السبعينات تماما وبدقة وكأن يمشي معي ويحدثني عن كل سوق ومحل وشخص وملمح .
وثالثاً، فإنّ الكاتب يقدم لنا وثيقة اجتماعية ونفسية وتاريخية يمكن أن يستثمرها الباحثون في مجالات الفلولكلور والتراث الشعبي والعلوم الاجتماعية والأهم في دراسة الشخصية القومية وبشكل خاص الفصل الأخير الذي يتحدث عن صبيحة يوم الاثنين 14/تموز/1958 ووصفه للهياج الجمعي الذي مهّد – من وجهة نظرنا لفوضى العنف والسحل في الشوارع فيما بعد.
إذا كنت من جيل «مهدي محمد علي» فإنك ستقرأ كتابه «البصرة جنة البستان» تخنقك العبرات على مسرات الزمن الجميل الضائع، واذا كنت من جيل المحنة المحاصر المحطم فان روحك ستتمزق لانك فقدت فردوس البصرة مرة واحدة والى الابد.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| محمد عبد حسن : المتن السردي المفترض في رواية “العاشرة بتوقيت واشنطن”(1) .

(ملاحظات قارئ للاقتراب من النص) ينجح الروائي، منذ البداية، في الإمساك بقارئه.. حيث، يضعه منذ …

| حميد الحريزي : “قضايا المرأة في التدين الأجتماعي” للدكتورة بتول فاروق .

           جرأة في الفكر وتجــــــــــــــــــاوز للتقليد   كتاب ((قضايا المرأة في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *