| غانم عمران المعموري : النسق الثقافي الايجابي في المجموعة القصصية “ما فتئ الصبح في أوله” للكاتب جليل كريم.

   

غانم عمران المعموري

ينهج العديد من الكاتب في السرد القصير الأسلوب الوصفي والتسجيلي لوقائع حقيقية حصلت على أرْض الواقع لكن الكاتب بمهارته الفنيّة والابداعية ينقلها بلغةٍ جميلةٍ تعتمد الصور البلاغية والشعريّة بحيث تكون جذابه للمتلقي وإن كان قد سمعها أو لم تكن غريب الحدوث إلا أن أسلوب الكاتب في تسلسل الأحداث والمراوغة والدهشة والتقديم والتأخير والاسترجاع والتجديد والخروج عن المألوف يكون لها الأثر في ذائقة المتلقي وهذا ما نهجه الكاتب جليل كريم في مجموعته القصصية ( ما فتئ الصبح في أوله ) الصادرة من دار الصواف في طبعتها الأولى لعام 2023.. توج الكاتب بعنونة رئيسة هي ذاتها عنْونة فرعية من ضمن مجموعة قصص.. اختار عنْونة طويلة ذات أبعادٍ فلسفيةٍ واجتماعيةٍ لا يستطيع القارئ من خلالها التعرف على مضامين القصص وبذلك يكون الكاتب قد نجح في صياغة عنْونة غير كاشف أو فاضحة للنصوص الأدبية وتعد العنْونة علامة سيميائية وهي تمثّل نقطة محوريّة تشغل خيال القارئ قبل ولوجه إلى متن النصوص وانشغاله فيها والبحث والتحري عن مفرداتها هي قوة جذب واغراء لنصوص المجموعة بالإضافة إلى ما تتضمنه من معانٍ ودلالات.. دائماً ما تتضمن البحوث والكتب البحثية والرسائل والاطروحات مقدمات للكتب لكن كثيراً ما يتجنبها القاصين والروائيين ويفضلون الدخول المباشرة في القصص أو السرد ليتركوا للقارئ أن يكتشف بمفرده أساليب السرد وسلسلة الاحداث وما يتضمنه من مواضيع ومفاجآت لأن المقدمة أو التوطئة تكشف مقدماً ما يريده القاص والّذي حرص منذ البداية وضع عنْونة غير كاشفة وغير موحيّة لذلك فإن القارئ يرى بأن القصص تكون أكثر إثارة وأكثر تشويقاً عندما لا تسبقها أي مقدمات أو أي ايضاحات..

يخوض الراوي العليم معترك سرّد الأحداث وإدارة  دفة الحوارات بأسلوبٍ فنيٍّ يعتمد الوصف ونقل أحداث واقعية استطاع الكاتب لملمتها من خلال اطلاعه الواسع  وثقافته ومتابعته للأحداث التي تدور في الساحة العراقية والعربية والغربية ونسجها بأسلوب جميل يُراد منه تسليط الضوء على نقاط حساسة وجوهرية واظهارها  بصورة جميلة مقبولة للتلقي..

    عليه ( فالعنوان هو تلك العلامة الدالة أو تلك الشفرة المتوجة للعمل الأدبي)1..

يميل أسلوب الكاتب إلى تصوير الواقع الاجتماعي ونبش الظواهر السلبية من خلال عنْونة فرعية لقصصه الّتي جاءت ممهده للنّص الأدبي وموحيّة له لغاية الكاتب الّذي نهج الطريق الإرشادي والنصح والموعظة بغية إيصال رسالة هادفة كما في قصصه ( حياة أبدية, أيّام عابقة, على مائدة العشاء, رحلة عبر أزمنة الكراد, نُضَار, وغيرها من القصص).. تناولت قصصه الكثير من المعالم الحضارية القديمة الّتي لها الأثر الكبير على حياة الكاتب الذي استطاع من خلال الذاكرة والخيال الخصب  استرجاع احداث حقيقية ومواقف واقعية حصلت في زمن الماضي وهنا يبرز النسق الثقافي من خلال الاطلاع على مواقف شخصية واحداث حصلت للكاتب وتأثر فيها وأثرت فيه الحروب والحصار والظروف السياسية والاقتصادية التي مرّت بالبلد كلها تركت آثار نفسية على الشخصية والألم والحزن كلها مشاعر تتصل بالنفس البشرية ولا يستطيع الانسان السيطرة عليها وهنا برز النسق الثقافي الايجابي لدى الكاتب.. كما أن الكتابة كانت قراءة للواقع الذي يعيش فيه حيث إن ( التجربة جعلت من الكاتبة ذاتها موضوعاً يتغير معناه ودلالته, فلم تعد الكتابة كشفاً بل قراءة للوجود … مما يكشف عن مخاض حقيقي للذات العربية في استيعابها لمتغيرات ثلاثة, متغير معرفي, متغير سياسي, متغير تكنولوجي)2..

  استطاع الكاتب عبر رحلة رائعة التنقل بين أزقة وأحياء مدينة الحلة الّتي عاش فيها منذ طفولته لتعريف القارئ بأقدم المناطق التراثية فيها والمعالم الحضارية الّتي دثرها الزمن ولم تُلاقي الاهتمام والعناية اللازمة بها كونها من المعالم الّتي تُعد ذات صفة أثرية ولها قيمة كبيرة كما في  ( كنّا صغاراً في أزقَّة الكراد, نقتني نحاساً… وأكثر أكتنازاً بأنقاض القصور السامقة في حي بابل والخسروية ) ص24 .. وكذلك الحال في قصة ( رحلة عبر أزمنة الكراد ) الّتي يبرز فيها المونولوج الداخلي وحديث الذّات ويتجول السارد المشارك  في أحياء مدينته وينقل لنا ما جرى فيها من أحداث بعد عام 2003 ( منذ هوى الصنم في صبيحة التاسع من نيسان عام 2003 وانفتاح باب الوطن على مصرعيه, غدوتُ طائراً لا يكلّ جناحاه عن الطواف, أحلق في سماوات بلدان ومدن لم أكن في أزمنة جمهورية الرعب أراها إلا في أحلام منفلتة من سور السجن العظيم) ص34.. ينقل لنا السارد من تأثير النسق الثقافي عليه وبلسانه حالة الناس في العراق بعد عام 2003 والتحول الذي جرى في كل مؤسسات الدولة والتغير الواضح في الظروف الاجتماعية والاقتصادية الّذي كان له الأثر على نفسية الفرد.. النسق الثقافي كان مسيطراً على الذّات من خلال الاتجاه والميّول الّتي يعتنقها السارد المُشارك في المفردات التالية ( منذ هوى الصنم, أزمنة الرعب, لخراب مهين أنتج أصناماً أخرى أثّرت كثيرا فينا, هويّة تمزّقت طيلة أزمنة استقواء أرعن نما فيه زغب البغايا والماجنين وكتبة التقارير, وغيرها من المفردات الّتي كانت متسلطة ومؤثر على مشاعر وأحاسيس السارد المشارك بحيث استطاع أن ينقلها لنا بأسلوب يُحرّك مشاعر المتلقي الّذي عاش تلك الفترة من خلال تحرّيك القابع في النفس وما جرى عليها خلال تلك الأعوام.. وأن تأثير النسق الثقافي على الذّات السارد أبعده عن ذلك أي جانب من الجوانب الحياتية الّتي كان يُمارسها الجانب الثاني سواء كانت قوة أو رحم.. وهنا يتساءل القارئ هل هناك جوانب أخرى ايجابية لم يذكرها السارد المشارك في ذلك الزمان قبل 2003؟ ربما أن السارد المشارك قد نقل لنا ما هو أكثر تأثيراً على نفسية الفرد العراقي آنذاك وبذلك يكون النسق الثقافي ( النفور والرفض القاطع والاشمئزاز وعدم التقبل وغيرها ) أكثر بروزاً وسيطرةً من غيره..

اتسمت لغة السرد لدى الكاتب بالرصانة في الوصف الشامل للشخصيات والأمكنة وإن اللغة تعكس لنا ثقافة الكاتب وقابليته في اختيار المفردات وكيفية صياغتها بأسلوب سهل  يستطيع الكاتب من خلاله ايصال رسالته ويحقق المتعة لدى القارئ.. كما أن الكاتب وظف الصور الشعرية والانزياح مما أعطى للسرد قوة بلاغية مؤثرة على ذائقة المتلقي و خروج الكاتب عن المألوف يعد تمردا على السائد  من القول ودخوله باب التجديد في السرّد.                                                                        

 

 

 

 

 

المصادر                                

1-طه وادي: القصة ديوان العرب, الشركة المصرية العالمية للنشر, لونجمان, ط1, 2001, ص20.

2-عمر أزراج:أحاديث في الفكر والأدب, دار    للطباعة والنشر, قسنطينة,1984, ص23.

 

 

 

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| مؤيد داود البصام : مرثية دم على قميص قتيل…”رحلة شاعر أضاع طريق الـعـودة” .

   تتحكم بالشاعر مجسات من الأحاسيس والمشاعر تتوالى في داخله  لحظة بلحظة، مخلفة بنى تتراكم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *