ما كنت متأكدا منه أنني لست مجنونا، ومع هذا فأني أجد نفسي الان في الطريق إلى مستشفى المجانين، كنت واثقاً من صحة عقلي، بل ان ما أعانيه هو عقلي القادح الذكاء.

قال الطبيب الذي عاينني إن المجنون لا يعترف بجنونه، لقد استجوبني في جمل قصيرة ليس لها علاقة بما أشعر به، سألني فيما لو كنت اتناول عقاراً معينا، أو أنني أدمن الكحول أو أعاشر النساء، وفيما إذا كنت أتهرب من مسؤولياتي، بدوت متهماً أمامه، نسيت ما يدعيه الناس عن مرضي، ونسيت تلك الأصوت التي تصرخ في رأسي كيفما تشاء ونسيت انني لم أختل بامرأة من قبل، والاكثر من هذا نسيت صوت الدرويش وأنينه.
قالت المرأة العجوز التي أسكن في نزلها الصغير ان السبب الذي يجعلني على حافة الجنون هو انني قد دست على شيء خبيث وأن خباثته سرت إلى روحي، لذا فانها احاطت البيت بالبخور والتعاويذ ونصحتني بأن أضع سكيناً صغيرة تحت وسادتي، لقد تلصصت عليّ طوال الليل من خلال فتحة أحدثتها سابقا في الجدار خوفا أن تشاركني الغرفة امرأة.
أكدت العجوز ان حالتي تزداد سوءا يوماً بعد آخر، لذا فانها ترى انه لابد من معرفة الشيء الذي دست عليه، فكما قال لها أحد الشيوخ الذي يجوبون منطقتنا انه لابد من أن يسكب ماء مخلوط بالملح في المكان الذي يحتويني على شرط أن يتم ذلك في وقت الغروب.
في الحقيقة ان الشيء الذي دست عليه هو وبكل بساطة قبر مجهول، كل ما اعرفه عنه، انه قبر احد الجنود ولم تحدد هويته او عام وفاته، ما اذكره وعلى نحو مبهم أن السماء كانت تبدو وكأنها ستحترق من اثر الشمس المتوهجة، كنت أشعر بان قواي ستنهار بين لحظة وأخرى، طابور طويل من طالبي العمل اقف بينهم، صحيح أن العمل شاق في مثل هذه التجمعات التي لا تطالب باية هوية أو بطاقة، لكنه مكان مناسب للرزق .
عندما انتصف النهار كنت أقف أمام رجل يرتدي ملابس الدراويش يعقص شعره الطويل خلف رأسه، وما اذكره شاربه وتلك البحة المزعجة في صوته، لقد حدق بيّ طويلاً وهو يرى جسمي الضئيل ثم قال لي هل تقوى على حمل الاحجار؟ هززت له رأسي موافقا، فرد عليّ بأن اجري سيكون بمقدار جهدي وبمقدار ما سأحمله.
حينها وقفنا في باحة كبيرة فارغة ..وبمرور الساعات.. الدقائق كنا نتدافع.. ننحشر تبعا لانحسار الظل حتى وقفنا لصقاً للجدار.
بعد ذلك اتى الدرويش، امرنا أن نتبعه وبعد وقت قصير كان الهواء الحار يلفح وجوهنا في شاحنة مكشوفة.
قطعت السيارة اميالا عدة في طريقها إلى مقر العمل، كنت أشعر بسكون المكان وانقطاعه وأنا اترنح في إغفاءة قلقة، حين توقفت الشاحنة نهضت محاولا أن استكشف المكان، لم يكن هناك من شيء، فضاء ممتد تقبع في بدايته مقبرة صغيرة وخلفها يمتد معسكر طويل، لكن اين الحجارة التي سنحملها، قال الدرويش بعد أن نزل من مقصورة المقدمة: انزلوا بسرعة .. هيا ، فامامكم عمل كثير.
بعد لحظات عرفنا ان العمل يتلخص في نقل حجارة القبور ورميها خلف السدة، احتقن وجه الدرويش بلون مزرق وهو لاينفك يصرخ بان نعمل.
وقفت طويلا وأنا انظر الى بقايا تلك القبور المندرسة، قال احدهم انها تعود إلى زمن حرب الثمانينات وانها ترجع لجنود اتوا من القرى البعيدة، وقال اخرون ان هذا الدرويش قبض الكثير من المال بعد أن تعاقد على ازالة هذه المنطقة بغية استغلالها بمشروع مربح وجعلها احد الاماكن الخاصة للاستجمام والترفيه، أما الدرويش فكل ما كان يفعله هو التسبيح والصراخ واصدار الاوامر بشكل مهين . قضينا فنرة ما قبل الظهر في عمل شاق طويل، كان صوت الفؤوس يرن عالياً فوق تلك الاحجار الصلدة وفي نهاية كل ضربة كان هناك صوت يشبه الانين … صوت يتقاطع مع صفير الريح، لكن… ايكون هذا المكان مناسبا للعاشقين؟
لِمَ لا؟ ، فلو كانت لي حبيبة لخطفتها وجئت بها إلى هنا.. بعيداً عن ذلك الثقب المزروع في الجدار.
صحيح أن المكان موحش هنا، لكن مما لاشك فيه ان الحب سيكون مميزا وسط هذا الصمت المثير، لا أعرف كيف انسحبت احدى قدميّ داخل القبر، لم اسيطر على توازني مع تلك الاحجار الكثيرة فوقعت داخله .
كان الدرويش يصرخ عالياً .. يصرخ بوجهي ويهيل الشتائم نحوي.. صراخ وصراخ.. فقدت التركيز وانا أرى مسبحته تضرب الهواء.. لم يحاول ان يخرجني، شعرت بخوف شديد وأنا احس بتلك الحواف الحادة تحتضن جسدي وتضغط على لحمي .. كأنها تريد أن تبتلعني.. طعم التراب مر في فمي.. كنت أصرخ طالبا المساعدة، جعلني خوفي اتخبط وأنا بين أيديهم وحين أدركت بأنني اقف على الأرض أنهلت على الدرويش بضرب مبرح.. ضربته بقوة وبكل الخوف الذي استكن في داخلي، كان قوياً بما يكفي كي يقاومني ومع هذا انحشرت الكلمات في جوفه حين رآني وأنا أهم بحمل حجارة كبيرة، ضربته على رأسه، سمعته يصرخ عالياً .. بعدها لا أذكر ماحدث.
**********************************
لا أعرف كم مرّ من الوقت على تلك الحادثة، لكن ذهول العجوز عندما تراني كان يذكرني بالدرويش. أفكر بذلك وانا أقف في مدخل مستشفى المجانين، رأيت حشوداً كثيرة وكأن الناس قد اصيبوا بالجنون فجأة.
كان هناك باب خشبي كبير، لكن الغريب في الامر أنه قد وضع افقيا، وضع وكأنه حائط اعزل، كان مزخرفا على طوله وتفوح منه رائحة خشب طري، كان الباب الاصلي يقبع خلفه، حين اجتزته اضطررت الى تجنب الكثير من المستنقعات الصغيرة والتي تحوم فوقها حشرات تقترب في شكلها من تلك التي رأيتها في تلك المعسكرات الطويلة، أتكون قد وصلت هنا ؟ أن لها طنيناً مميزاً يذكرني بدوي الطائرات البعيدة وهي تقترب، أن ذلك مقرف حقاً ، يأخذني منظر تلك البرك الصغيرة الموحلة، حتمأً ان في داخلها الكثير من الأكياس والاوراق الذائبة ، سيكون الامر غاية في المتعة حينما يعمد المرء إلى اخراجها ، لابد أنها ستكون باردة ولزجة وربما سيكون جزء منها قد أختبأ داخل الطين .. انذاك ستشعر بثقلها، كم اتمنى ان انحني إلى الارض وأتلمس رطوبتها، لكنني لا أستطيع ، ثم أنني إذا ما فعلت ذلك سأعطي للآخرين الفرصة بأن يلصقوا تهمة الجنون بيّ.
في داخل الصالة انحشرت الوجوه في زوايا ضيقة وفي ردهات طوال، وقفت في طابور متبعثر كنت أحرص على أن ابقى آخرهم، كان الجنون ظاهراً على تصرفات بعضهم ، لكن آخرين بدوا هادئين مثلي أنا تماماً .
كان الوقت كافيا للتطلع على هذا المشهد وتأمله، لِمَ لا ؟ ألست العاقل الوحيد بينهم، أنهم يتهافتون أملا في الحصول على أي اثبات يؤكد جنونهم وكأنهم قد سئموا حالة العقل المزمنة تلك. سرت ببطء متجها إلى الحائط، كان بارداً فحرار ة الانفاس اللاهثة لم تسرِ اليه بعد، شعرت برجفة خفيفة تسري اسفل ظهري .. رجفة جعلتني اغمض عينيّ، رجع الطنين مرة أخرى .. صوت الدرويش يداهمني .. يئن بصمت، أشعر بأن العجوز تسلط ذلك الثقب المزعج عليّ، أحاول جاهداً ان افتح عيني، لكن اجفاني تنسحبان الى الداخل، انتفضت من مكاني وما هي الا لحظات حتى عاد ذلك اللغط الذي تعج به المستشفى، حين انتبهت كانت هناك ومن بعيد عين تراقبني، انها فتاة فكل ما ترتديه يدل على ذلك.. ثوبها الذي يبدو ككيس انخرط من الوسط، حذاؤها الصغير الذي يشبه احذية الاطفال. أن ملامحها تشبه إلى حد ما ملامح صبي صغير مراهق، كان وجهها بعينين كبيرتين تغوران عميقاً يظللهما حاجبان مرتفعان ينزلان على انف مستدق طويل وشفتان حادتان مزمومتان . كان وجهها يغيب تبتلعه الجموع وحين يعود أجدها تنظر اليّ بامعان . كان برفقتها امرأة، أرجح انها امها، كان العرق يتدفق من وجهها فتمسحه بطرف عباءتها . أقترب من الفتاة حتى انه لم يعد يفصلنا ألا بضع خطوات، أنها تنظر اليّ بإصرار، أشرت لها بأن تتبعني ، خرجت إلى الردهة وما هي الا لحظات حتى كانت تقف بالقرب مني ، لم يكن ضروريا ان اعرف اسمها ، المهم انها تتبعني ، قلت لها بكل ادب وانا أدير عيني في جمجمتي وأضحك في سري من كل قلبي ، سنلهو كثيراً ، لم تجبني ، كان وجهها خالياٍ من أيما تعبير ، بدت الساحة الخارجية هادئة تماما، فجميع المجانين في الداخل ، عندما اقتربت من الباب الافقي قلت لها وأنا اقرب رأسي منها أنه مكان مناسب للأختباء كما انه يحوي على الكثير من الظل.
نظرت الى المكان جيداً وكأنها تستكشفه، جلست قبلها ومددت لها يدي وقلت لها بصوت منخفض ، تعاليّ.
انحشرت معي في زاوية ضيقة وبقينا صامتين، شعرت بانفاسها هادئة أكثر من اللازم ، كانت بين الحين والاخر تحكم ربطة رأسها، وتشبك اصابعها، حين لمست يديها لم تعترض، فتحت اصابعها المتشابكة، مانعت في البداية لكنها سرعان ما استسلمت، تحسست جسدها فشعرت بخشونة ثوبها الذي بدا وكأنه صنع من ملابس عسكرية، لكن ذلك لا يمنع ان امد يدي تحت ملابسها ، تململت وتغيرت انفاسها، فسحبت يدي ، لا بد ان انال ثقتها، خصلة من الشعر تفلت من ربطتها ، كانت ناعمة حين لمستها ، قلت لها بانها ستكون فتاتي الوحيدة وأننا سنلتقي كثيراً ، لكن ليس في هذا المكان الخاص بالمجانين ، سكتُُ طويلاً ثم اخبرتها بأن لدي مكان مناسب للحب ، صحيح انه بعيد ، لكنه آمن اكثر مما تعتقد ، هناك سيكون بامكاننا ان نصرخ عالياً وأن نكتشف جسدينا ، وسيكون ذلك سرنا الاول . لم ترد عليّ بكلمة واحدة ، كانت ساهمة تنظر الى يديها وقد استقرتا في حضنها، غمرني أحساس بالشفقة عليها ، ليس من الحكمة أن نعبث مع المجانين ، لكنني كنت داخل تلك اللحظة ، محكوم بها .. لا سيطرة لي عليها .. ولا مجال للإفلات.
– انني جائعة..
انه صوتها يتردد أخيراً ، نظرت إلى عينيها فاذا بها تردد ذات الجملة وبجدية أكبر ، لاأعرف كيف انغرزت اصابعي الحادة داخل الأرض الرخوة ، أقول لها بأنه لا يوجد سوى الطين ، تنظر بوجل وتدير عينيها ، ولا تلبث أن تقول ؛ لكنني لم أكله من قبل.
– ما رأيك لو جربنا طعمه
أمسك الفتاة بقوة، تبدو وكأنها حيوان صغير خائف ، أشعر بعظامها تنغرز في خاصرتي، تصرخ.. أحاول أن اسكتها لكنني لا أستطيع ، يبدأ الدرويش في الصراخ ، أشعر بصوته يرن في جمجمتي ، عينا الفتاة تصرخ مع الدرويش ، اللعنة عليك، اصرخ عالياً ..يجب أن تصمت .. تنهال عليّ ضربات قوية .. ضربات على كل جزء من جسمي ، اتشبث بجسد الفتاة .. سآخذها بعيداً إلى هناك، وسأجرب معها لعبا كثيرة بينها ممارسة الحب ، اسمع بكائها.. المجانين يحومون فوقي .. يختلط الصراخ .. يضربونني بقوة .. تنزلق الفتاة من بين يدي.. من أصابعي .. رنين الفأس على رأسي .. رنين قاسٍٍٍٍٍٍ ٍ ينهي كل شيء .. ينهار كل شيء.. يذوب اللاشيء.. أخيراً يصمت الدرويش .. ينقطع الأنين.