| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة

من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” نتمثل وجها وصوتا مائزين في عالمي الأدب والانثروبولوجيا.

صادق المخزومي

ثمة علاقة وطيدة بين الأنثروبولوجيا باعتبارها منظومة حراك الإنسان في حومانة الوجود، وبين الأدب باعتباره تعبيرا يترجم أحاسيس الأديب وانفعالاته تجاه الظواهر الإنسانية، يوظف فيه المفردة في تمثلاتها الدارجة، والتي تكمن فيها أوقع المعاني القصدية واللمحات الدلالية، لا سيما إذا اصطبغت بالرمز او تشربت بالصورة الفنية.

يتفحص مسار الأنثروبولوجيا الأدبية مجالين من مجالات الدراسة، الأول هو استكشاف الدور الذي يلعبه الأدب في الحياة الاجتماعية والتجربة الفردية، ولا سيما البيئات الاجتماعية والثقافية والتاريخية، وتشتمل هذه الدراسة على مسألة ماهية الأدب، ويمكن فهم الأنثروبولوجيا الأدبية على أنها استكشاف لأنواع مختلفة من أنواع التعبير، وكيف يمكن القول بأن هذه الأنواع لها خصوصية تاريخية واجتماعية، وتسوغ رسم هوية المجتمع بقوة المنتمي من جهة، وتجسيد رمزية المنتمى إليه في تمازج نفسي لا يتفتت من جهة أخرى، مثل: الأدب الحسيني، شعراء الحسين، خدمة الحسين.

تتواشج الأنثروبولوجيا والأدب في التمعن في المفهومات الثقافية كالأفكار السائرة والطقوس المتحصلة من مخاضات التدين، والمفهومات الاجتماعية كالقيم والتقاليد التي شرعنتها يوميات المدينة القديمة، ودراسة تعاريج النظام الاقتصادي لتبين طبيعة المجتمع ومقوماته من خلال تفهم متغيرات المختلف والمؤتلف والغريب والمألوف. فالأديب والأنثروبولجي يريد إما أن يتفهم تلكم العوالم ويترسم مقارباتها، وإما أن يشخص ذاته ويستوعبها في منظومة الحراك الاجتماعي الذي يولج فيه أدواته. غير أن الانثروبولجيا هي الفرشة التي تدرس عليها تجسدات الخطاب في النص، سواء كان شفاهيا او مكتوبا، ويحلل دوره في الأشكال الثقافية للمجتمع.

الشاعر والقصيدة

يعد صباح أمين أيقونة الأدب الشعبي النجفي، ثمالة الشعراء الرواد، استمد منهم رحيق الخمر، وأخذ يشكله ألوانا وروائح وصورا تسكر المصطبحين بغنج الكلمة وتخايل الحرف.

صباح أمين مزج بين الشعر والثقافة منذ نعومة أظفاره، متأثرا بمسار شيخه عبد الحسين أبو شبع الشاعر المثقف جدا، إذ استوعب أن الثقافة تضفي على الشعر جمالية الدلالة وعمق المعنى، فقد قرأ فنون الأدب من روايات عالمية ومسرحيات، فضلا عن إلمامة بالشعر القريض وشعرائه الكبار، وتمعن بالشعر الشعبي وشعرائه الرواد، وما برح يزاوج بين المعاني والأدوات تارة متقمصا وتارة متحررا، حتى تبلج نجمه وتعين مداره حول خارطة الأهمية والجودة، فرسم طريقه وأشر هدفه، وتوضحت شخصية القصيدة لديه؛ حتى أضحى مجتمع قصائده يمكن أن تعبر عنه قصيدة واحدة في سماتها الابداعية، ولعلي أتحصل من هذا المعنى في قصيدة تمليتها وتأملتها، فظننت- حينها- لو لم تكن لديه غير قصيدة “عالرصيف” لكان حسبه شاعرا مبدعا.

قصيدة عالرصيف مشتملة على 62 مقطعا من خمسة أشطر، يبدأ المقطع بكلمة عالرصيف وتنتهي بها في الشطر الأخير، وتسبق الرصيف الثاني خطوة العبور الى الرصيف بكلمة على وزن فعيل في مجانسة الرصيف.  وتلكم المقاطع تسرد حكايا مختلفة حد الغربة، ومؤتلفة حد الانسجام، بأسلوب المفردة العامية التي تتماهى فيها الأحاسيس وتنبعث منها تراجيديا النجفي في الحزن والفرح معا.

قصيدة عالرصيف؛ كم فيها من شبه كبير بقصيدة «أخي» لشاعر المهجر الكبير ميخائيل نعيمة، في بعض هيكلتها وأسبابها، مدخلاتها ومخرجاتها، في تاملاتها وبعض أسلوبها الهامس ومحاكاتها، كلاهما تعالج قسما من ثوابت الحياة ومتغيراتها، غير أن الدواعي في قصيدة أخي من الخارج الغربي في سطوته وضجيجه وحربه ومحاولة ونشر الموت والخوف على جرف العربي الهاوي بهيئة الركوع والصمت: ” أخي! إنْ ضَجَّ بعدَ الحربِ غَرْبِيٌّ بأعمالِهْ …. وقَدَّسَ ذِكْرَ مَنْ ماتوا وعَظَّمَ بَطْشَ أبطالِهْ” لكن مع هذا كله تثنى الوسادة للتبعية لتهزج وتهلهل لسمو السيد الأجنبي وتشمت لدنو المجتمع المحلي: ” فلا تهزجْ لمن سادوا ولا تشمتْ بِمَنْ دَانَا …. بل اركعْ صامتاً مثلي بقلبٍ خاشِعٍ دامٍ “. إن ثمة خواطر شبيهة تتوارد في قصيدة “عالرصيف”؛ فالرصيف هنا يحكي المعاناة التي يعيشها مجتمع يتهاوى في حضيض الفقر، في ذات الوقت انه في دولة يشار الى سموها في الغنى عالميا، لكن المتسلط من أبناء جلدتها، كان متسكعا على أرصفة البلدان في الغرب، الا أنه أبى مجرد التسكع على رصيف بلده بل شاركه حراك الفقر المدقع والذلة والمسكنة والخنوع اللائي تخطها ألسنة الذيلية التي تكاد تبح.  

“عالرصيف” قصيدة ملأى بالصور والرموز حد التزاحم بمختلف الإيحاات والدلالات، فهي أحيانا تتزاوج في تضادها وأخرى تتنافر في تشابهها، فجاءت صياغتها تمثلا للانثروبولوجيا الاجتماعية وما يعتريها من فرشة اقتصادية، ظلت تعبيرا عن حاجات يومية لفقير أثقله الإملاق، والحاجات متزاحمة في ذهنه لولا أن الإملاق يكون فيصلا في الحد منها بقوة بقية قيم وتقاليد تدرب عليها تكسر شوكة رغبته. بيد أن تلكم الحاجات وغيرها كانت متاحة على الرصيف على الرغم من ازدحامها أضحت رخيصة جدا.

وهذه الرموز تحتاج الى مقاربات التحليل والتأمل الدلالي، وهذه ما أطلق عليها “الأنثروبولوجيا التأويلية” التي تبلورت لدن الأنثروبولوجي الأمريكي كليفورد غيرتز Clifford Geertz الذي يدعو فيها إلى استثمار تقنيات الكتابة الأدبية في بناء الموضوعات الأنثروبولوجية، ليكون النص مجرد تأويل من بين تأويلات أخرى للوقائع المستقاة من الميدان. على أن القراءة الأنثروبولوجية للنص الادبي، شفاهيا كان او مكتوبا، لا تكتفي بالأنساق الثقافية المضمرة فقط، وإنما من شأنها أن تبحث أيضًا عن كل التجليات الثقافية والاجتماعية والسياسية، بما في ذلك الرجوع إلى معطيات خارج بنية النص نفسه، واستنطاقها اعتمادًا على المنهج التحليلي الرمزي، الذي يسهم- بدوره- في انتاج المعرفة وتجسيم مضاميرها، وإيجاد الروابط بين أنساقها.

مقاطع من قصيدة “عالرصيف”

إن منظومة الرموز في قصيدة “عالرصيف” في غضون تجليات الأنثروبولوجيا، توحي بارتباط الشاعر الوثيق بمدينته القدسية، ملتسق بأرضيتها ومتوشح بِحلسها وحصيرها، والرصيف صدر المدينة ووسادتها، ورئتها الممتلئة بغبرة الزمن، يتحرى ما تشع فيها من عوالم العلو، وما يتأبط فيها من العوالم السفلية، وثمة علاقة بين تلكم العوالم فاعلة وضامرة- في آن معا- تتشوفها رمزية المؤتلف والمختلف، مثل: ” شـــخاط وحطب” “الرأس الذنب” “نهود وترب”.

[1]

عالرصــيف شتشـــتري عيون التعب

والرصـــيف يبيـــع شـــخاط اوحطب

الراس أخرس، وانبـح صـــوته الذنب

حاجــه ميـــه: نهـــود، ولــواط، او ترب

اوطفل شــفته باع ثدي امه برغيف، عالرصيف

في المقطع الأول تتزاحم الصور والرموز بصيغة فنية ترسم طبيعة تزاحم الحاجات على الرصيف. يطالعنا الشطر الأول ” عالرصــيف شتشـــتري عيون التعب” بصورة مألوفة لدى المجتمع، تقليد سائر “العين تشتري” جاءت متناسقة مع طبيعة الانثروبولجيا الاجتماعية، لكن إضافة التعب الى العيون أمعنت في تشكيل صورة مركبة، أعطتها حيوية السؤالات المضمرة: هل التعب الذي جعل العيون مرهقة كليلة؟ أ يكمن عضويا أم نفسيا أو ماديا أو قيميا، أي واحدة من هذه التسميات يخلق جوا إبداعيا في سياق الدلالة.

تحمل الشطر الثاني بفك الطلسم الذي أفعم أجواء الشطر الأول ” والرصـــيف يبيـــع شـــخاط او حطب” كلمات بسيطة من الحاجات اليومية لفقراء الناس في زمن الغاز والكهرباء، يبدو انها تشكل معاني رمزية، قد توحي الى الزمن الجميل المشحون بسذاجة الصبر والألم، وقد توحي الى النار والمحروقات التي تعم الحياة بمعمعتها، وهل هذه الحياة اقتصادية او اجتماعية او نفسية؟ وهل فيها تلميح الى السياسية؟ 

ثمة في الشطر الثالث صورتان مفعمتان بالتعبير التخيلي، بالغرابة أو الجدة، (رأس أخرس) و(ذنب حاكي) وبينهما بوح انبح أو كاد، فرأس المال يفترش الصمت في القصور، وبقايا صور الفقر تعرض بضاعتها على رصيف القيم المنهارة، أو أن رأس السلطة يتلذذ بساديته بابتسامة خرساء على كرسي نفوذه، ونباح الذنبية أباح على رصيف المجتمع الموبقات الرخيصة، أو أن الرأس الاجتماعي في تمثلاته الراديكالية الدينية والرأسمالية والبرحوازية هم الذين أصيبوا بعاهة الخرس، وظلت مكاتبهم تزخر بالأذناب الناصحة تارة والموخزة أخرى.

 إشكالية الرصيف- في الشطرين الأخيرين- يفضها العرض والطلب لمنظومة رموز توحي بالحاجات الاجتماعية الرخيصة (حاجة مية) غير أنها في خضم الأنسنة (الانثروبولوجيا) الجسد والجنس (نهود)، السلوك الشاذ والمثلية (لواط) التوجه الديني (ترب) كل هذه المنظومة ستغرق في الوحل او تكاد إن لم تدرك كلها، فهي كفخار مكسور (بربوﮔ) في الفرات يتماوج.

بيد أن الحاكي الذي جال بحضوره ألوان العرض والطلب عالرصيف، فقد ركز بمشوفته التي تجلت منظومة القيم والتقاليد المخترقة في” طفل باع ثدي امه برغيف”، إنها صورة مفزعة؛ هل هو الجوع المهلك الذي دعاه الى أن يبيع تربيته النقية؟ أم هو الفقر المدقع الذي يسوقه الى أن يحشر مستقبله في معمعة الأصوات الذنبية المبحوحة؟

[2]

عالرصـــيف أفقر من الجـوع النفوس

والأقـــدام تبيـــع انتـــاج الــــــرؤوس

حتـى جســــاس التهــى بطبل الطقوس

او غطــــه دم كلــيب بتراب البســوس

او هــــذا دم كليب من يركـــد يجيــــف عالرصيف

يوظف في هذ المقطع الرمز التاريخي المتمثل بـ “يوم البسوس” الذي ظل ينزف دما ويزف موتا أربعين سنة عجاف بالحياة بسبب ناقة رعت في حمى، وأبطاله “كليب” و”جساس” من أهل المشيخة والحمى والثأر؛ وتمخضت المعمعة عبر الأجيال أن “البسوس” امرأة ضربت مثلا في التشاؤم “أشأم من البسوس”؛ وأخذت بقايا بكر وتغلب تلتقي على حافات المقبرة وتتبادل ثمالة العزاء والأسى الهامسين في انكسار، وحيث ينشر كل أسلاب موتاه التي تداف بآيات النصر.

هكذا الحال على رصيف المدينة تباع الأسمال وبقايا العوز الذي أضحى التعايش معه تطبعا “أفقر من الجـوع النفوس”. فقد أجدبت معالم الحياة في الحرب والحصار لسنين متزاحمة بالنصر والهزيمة في آن معا من خلال تشدقات الرؤساء وحذلقتهم بالنصر المداف بعجينة الألوهة الناسوتية، وأن ما بعد الحرب أصعب شأوا وقسوة، إذ بدا الفراغ من المعنى يزيح كل أمل وأمنية، إلا بقايا أضغاث متهرئة تتزاحم على الرصيف، تهرج بها “الاقدام تبيـــع انتـــاج الــــــرؤوس” الفارغة، لتبقى البضاعة الرائجة منبثه من تقاليد بكر وتغلب تشع بالثأر والموت ونشر سلابات النصر المضرجة على الرصيف.

 

[3]

عالرصـــــيف الصــبر كلهم كــــافي

كافــي عصـــر الحنظل اعله شفـــافي

وطـــن مــن عدكـم ردت متعــــافــي

وطـــن نفســـي مـــو وطن جغــرافي

او رايـــه ردته يصير يشـماغ الشريف عالرصيف

مقطع يرسم محاكاة الشفاه المصطبغة بحمرة الصبر المدافة بالسواد وعصارة الحنظل، الصبر والحنظل يتعانقان في دومائية الهم والألم، وهل هما من مخرجات التخيل والأمل، أو هما من مدخلات التعقل والحِلم. بطل الحكاية الظاهر في صيغة الحوار هو الصبر، لكن الطرف الثاني في الحوار مضمر، لعل إخفاءه يكمن في طبيعة شخصية الصبر في تجلياتها الانثروبولوجية الإنسانية، إنه يكظم حزنه ويضمر أسماء الساديين في فعله “الصــبر كلهم كــــافي”؛ أو لعله اجتبى منحى فنيا في الحكاية في أن ترك شخصية المحاور المضمر يتجلاها المتلقي، لأنه – على الأقل- يشاركه في حتمية الحزن وتراجيديته، أو أن الشاعر أراد مذاكرته بهذا الحضور الانثروبولوجي، وأنه لا مندوحة من أن يسترجع سطوة أسرات المتغلبين على رئة المدينة.

يؤكد هذا العمق في جبّ الألم تكرار لفظة ” كــــافي… كافــي عصـــر الحنظل اعله شفـــافي” أي معنى أراد الشاعر تجسيده؟ وهل هو اجترار من العام الى الخاص؟ أي ان كافي الأولى صرخة مطلقة، وتقيدها كافي الثانية الأكثر رزانة، في “عصر الحنظل على شفافي”، ليتحسس كم الألم الذي خُطَّ على الشفاه بلون النيل المعبر عن تجعدات الحياة.

يمعن في تقييد المعنى من خلال تبيان الإشاءة ومبدأ الحاجة لوطن تسكن فيه روحة في حرية يتأملها، طلبته كالآخرين الذين كانوا ضحية نخبة الأغلبية على منوال الديمقراطية “وطن من عدكم ردت متعافي”، لست أدري، أيريد بالوطن المتعافي يغازل الأمل المستحيل، ويفك غلالة الأحزان عن صدره؟ على سياق “ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل”، أو انه حلم مغلوب شديد، أكبر من رؤى المتغلبين العاصفة في الإعلام، ولذا هو يستهجن هذا المتخيل المتخبط في الشكل والمعنى، فيمعن حينها يتقليص التقييد، فيكاد أن يريد “وطن نفسي مو وطن جغرافي”، وطن يمتلك حقوقه فيه، ويدير حريته مطرح ما تدب قدماه وأفكاره، لكن هذا التجسد في وطن النفس– أيضا- أمست ولادته متعسرة؛ هنا ينحدر في إشاءاته المتعثرة، فيلجأ الى فيروز الإرادة المتخيلة “اورايـه ردته يصير يشـماغ الشريف عالرصيف” انها متحصل الإرادة ومتلخص الطلب وغايته متمثلة بقيمة “الأنسنة” ووازع الانثروبولوجيا الاجتماعية، هي قيمة الشرف التي ينبغي أن ترفعها راية الوطن النفسي او الوطن السكني، وكل قمشتها كوفية “يشماغ” المدينة بلونيه الأسود والأبيض؛ بيد أن تلك الكوفية بكل شموخها التراثي الشغوف بالقيم ستعرض على حافات الرصيف؛ لتفصح عن خريف السياسة ومتغيرات الحاجات وتساقط أوراق الاماني.

 

 

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| مؤيد داود البصام : مرثية دم على قميص قتيل…”رحلة شاعر أضاع طريق الـعـودة” .

   تتحكم بالشاعر مجسات من الأحاسيس والمشاعر تتوالى في داخله  لحظة بلحظة، مخلفة بنى تتراكم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *