حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| مؤيد داود البصام : مرثية دم على قميص قتيل…”رحلة شاعر أضاع طريق الـعـودة” .

مؤيد داود البصام

   تتحكم بالشاعر مجسات من الأحاسيس والمشاعر تتوالى في داخله  لحظة بلحظة، مخلفة بنى تتراكم لتولد إحساسا مقلقا يتناوب بين الواقع والخيال،  وشعور يتلبسه كونه ليس جزءاً من هذا الكون، لهذا يتصرف وكأن الوجود خالي الا منه، وكل شئ يحدث لأنه موجود، ولولا وجوده ما حدث الذي يتحدث عنه، انه الإيهام والتوهم في جمالية الرؤية لخلق عالمه الخاص، وشعوره ان العالم محصورا بين يديه، انطلاقته تحدث عندما يفتح كفيه ليقبض على الريح، لهذا ما يقوله ليس ما نعرفه أو هو ما يعرفه، إنما ما ستأتي معرفته، حينما نتحقق ويتحقق هو الآخر عن عالم يظن انه كان موجودا واختفى، أو رؤية تختلط ما بين الحلم والواقع، وفي النهاية لم يعد  لهذا العالم وجوداً الا في خياله، وكما قال غاستون باشلار، ” الصورة الشعرية هي بروز متوثب ومفاجئ على سطح النفس ” (1).، أنها ذات الشاعر التي تفرض وجودها في محاورة الأنا، وتتسم، ” بالاستقلال الذاتي أي إنها تكون موجودة خارج الزمان والمكان، وهي مصدر الأحلام، وتظهر كقوة أو شخصية ذات سلطة ما في الأحلام ، وتوجه الفرد في حاضره. وقد تتنبأ بالمستقبل أيضا.” (2).

 

        فماذا نفهم من العنوان الذي توج مكي الربيعي قصيدته أو نصه المفتوح ( مرثية، دم على قميص قتيل )، أنه نص يتفجر من الداخل ليتشظى إلى عوالم الشاعر الخارجية، يتذكر، ينوح، يتساءل، يتقلب ويتمرد من اجل ان يصل إلى لحظة الانسجام بين ذاته وعالمه الخارجي، العالم الخارجي الذي أوقعه في الفخ، بين الحب والحنين وبين الهرب من اللاجدوى إلى ما ظنه الجدوى، وهو إذ يضع عنوان قصيدته، فانه يشير إلى الإشكالية منذ البداية عبر العنوان، هناك حادث لم تكتمل قصته، لكنه بالرغم من ذلك يرثي الدم المسفوح على قميص القتيل وليس القتيل، وهي ذات مجهولة قد يكون لها وجود، أو ليس لها وجود، نحن إزاء مقطعان يشيران إلى أمرين، الأول مرثية ، وهذه صيغة معروفة في الشعر العربي منذ ظهر شعر للعرب، ولكنه هنا يكتب المرثية لشئ خلفه قضية، تحيلنا للوهلة الأولى إلى حادثة جرت التاريخ إلى منعطف ما زالت الأمة تعاني منه، ( قميص عثمان ) الذي رفعه معاوية ابن أبي سفيان على رؤوس الإشهاد ليجعل منه قضية بدعوى المطالبة بدم القتيل، وفي الثانية إلى قميص يوسف الذي جاؤا به إخوته إلى أبيهم زاعمين ان الذئب أكله، فهل قميص مكي الربيعي الذي يرثيه ويجعل منه محور القضية، هو مثيل قميص عثمان أم قميص يوسف ؟ هنا يضعنا الشاعر في المفارقة، بين ما حدث في التاريخ المتقدم وبين ما حدث في أيامنا المتأخرة، قميص الربيعي هو قميص يوسف وإخوته كما سيصلنا منه تشبيها لما حدث على الرغم من وجود حالة قميص عثمان فيما يحدث،  لكنه هنا يؤكد على قميص يوسف كمثال حينما دب بين إخوته الفساد والحسد والبغضاء لينتج لنا هذه المأساة: ( تدخل اليد تحت القميص وتخرج مليئة / بحقول الألغام. / الكتابة على مشارف موته، / اكتشاف متأخر، / لأنشوطة تبتكر للبلاد محوا ً / بطيئا ً. ) ثم يردف في نفس المقطع الحواري بعدها: ( قال الأب: تف على (المليشيات ) ، ) المقطع التاسع من القصيدة. وبهذا يحسم الشاعر نقطة البداية لينشق إلى نصفين، نصفه الذي يعيد به ذكريات الأيام الماضية بحلوها ومرها، والنصف الآخر في غربته وعينه على الوطن وهو يراه يتهاوى من اثر الضربات التي تلقاها ما بعد احتلال الأجنبي له وبأيدي الإخوة وأبناء الوطن، وإذا نظرنا إلى تاريخ كتابة أو انتهاء كتابة القصيدة الذي وضعه في نهاية القصيدة، وهو تاريخ السنة الأولى للاحتلال، سنصل إلى معنى المكابدات والألم الذي احتل وجدان الشاعر بين ان يرى حلمه يتحقق وبين الواقع الذي يسمع عنه.( أقـــشــرُ قــلـبـي كـمـثــل بـرتـقـالـةٍ ، لأخـرج الأثاث الـقـديـمـة ، وأبـدلـهـا بـقــصـيـدة مـن الـرخـام الأبـيـضْ . ) المقطع الأول.. إذن هو يعيد صياغة الواقع بين الحلم الذي عاش على أمله، ويرويه لنا مقاطع من التذكر بين تساؤل واندهاش، وبين الواقع  فيما يرى ويسمع وترويه الأحداث اليومية، وأيضا يحمل نفس التساؤل والاندهاش.

بين الأنا والآخر…

           القصيدة حوار ذاتي، يتناوب الشاعر في حواره بين الأنا الحاضرة والانا الغائبة، والمهيمن الذات، بين صور وإحداث الماضي والحاضر البعيد مكانا والموجود وجداناً، فهو يحاكم أناه بالصوتين صوت الحاضر وصوت الماضي ليستخلص المستقبل، يحاول إيهامنا انه يتحدث إلى شخص آخر، يدينه ويذكره بما يشبه القرين الذي ينازعه الأفكار ويحرضه ويدعوه للتفكير، بما كان وبما حدث وبالواقع الآني الذي يعيشه، ولكنه في الحقيقة إنما يتحدث إلى نفسه، حوار بين الذات والانا ، يستخدم الفعل المضارع، لتثبيت الحقيقة، ويتكلم بالماضي ليقلق الإحساس:

( لـكَ :   هـذا الـمـدى الـشـاسـعْ ، الـبـحـرُ ومـا خـلــفـه ، ) المقطع الأول من القصيدة،  زمن الخطاب عنده هو زمن المخاض، والمخاض سيتوقف عند لحظة نهاية القصيدة، لأنها ستبلغُ كل ما لديه، من تبرير لتركه المكان الذي يبثه نجواه وعشقه والحب والذكريات والآخرين وما تركه خلفه وما زال يعيش معه، هي لحظة سكبه كل ما تجمع خلال سني الغربة في أعماقه، استمراراً  للانكسار الروحي الذي ابتدأت به القصيدة، والذي يعبر عنه في المفاضلة بين البقاء في المكان الذي تغرب إليه أو العودة الى المكان الذي غادره، والحيرة انه لم يصل فيها الى قرار لإيجاد الطريق الموصل إلى درب العودة، لان هناك من يسرق حلم الشاعر بسرقة القصيدة، كما جاء في نهاية القصيدة، وهو ما حدث عندما سرقة الأفعى عشب الحقيقة من كلكامش، فهو يستعير التاريخ ليشبه رحلته إلى بلاد الغربة، مثل رحلة كلكامش بحثا عن حقيقة ذاته ويبحث عن خلودها، لكن الفرق أن كلكامش يعود لنفس المكان الذي انطلق منه، ليمهد لرؤية جديدة للحياة، وهنا الشاعر ما زال في مكان الغربة، انه يتحرك ضمن مكانين في زمن واحد، وان تحول للزمن الماضي للاستذكار، ولكن القصيدة جميعها، فعل مضارع وأمر، يتخللها التعجب والسؤال، المكان الأول ما يشير إليه في كل حديثه ومناجاته عبر المقاطع العشرة، وما قدمه من صور زاخرة ورموز ودلالات فيها استرجاع واستذكار وجلب لرموز تاريخية من تاريخ وطنه الأول او التاريخ عامة، أما المكان الثاني الذي يجلس فيه، فهو مكان الغربة الذي ينطلق الحديث منه دون ان يذكره، أو يذكر ماذا حدث معه بعد أن ترك المكان الأول، ومن هنا يأتي التشظي الذي يكرس فيه الشاعر تبرير وجوده في الموقع الثاني وليس في الموقع الأول الذي يناجيه:

” وطني : / أيها الكمان المتوغل في دماء الرياح،/ في روحي خمر كثير من خلال المكان،/ عذوق كثيرة تتدلى في فم معصرة،/ كتاب لشجرة العائلة، ” المقطع الثالث….

الزمان والمكان في بنية القصيدة….   

         البنية الوصفية الخارجية للقصيدة والعمود الذي ترتكز عليه، هي نوع من أنواع ( الغرابة ) فيما يرى ويسمع، والالتباس بين الماضي والحاضر، يقلق وجوده ويحرك مواجعه الآنية والمكبوت، وهو ، ” التباس بين الوعي وغياب الوعي، حضور خاص للآخر في الذات، قلق غير مستقر بين الزمان والمكان، أقامة عند التخوم، تخوم الوعي والوجدان، إفاقة ليست كاملة، حالة حدودية، أو بينة، تقع بين انفعالات الخوف والرهبة والتشوق وحب الاستطلاع والمتعة والطمأنينة والتذكر والرعب والتخيل والوحشة والالتباس والفقدان لليقين.” (3) وحتى يبرر الشاعر هجره للحبيب والمكان، يتحول ما بين الداخل والخارج، الداخل لكشف هذا الحب والعشق الذي ما انفك يعيش معه، ” اليد التي أضاعت الفضاء. / وتركت العصفور معلقا ً من جناحيه / بخيط الوهم ” القصيدة/ المقطع الرابع ….  والخارج هو ما يطمئن به نفسه أن باستطاعته ان يحتوي هذا الحب، ” بإمكان الشاعر / ترتيب الحياة بشكل آخر، بإمكانه/ إزالة اللطخة عن/ عين العدسة” القصيدة/ المقطع السابع.. محاولا مواجهة الغربة والتعامل معها، ضمن مفترقان، الماضي والحاضر، باسترجاع الماضي ضمن جو القصيدة وفي وطن الشاعر الحاضر في الوجدان الغائب عن المكان، والمكان الذي يبث منه مشاعره خارج أطار بنية القصيدة، وبعيدا عن وطنه، انه استخدام الزمن سينمائيا، باختزاله المكان والزمان وتداخل الازمنة إذا أخذناها من وجهة نظر سينمائية، التي اقترحها الناقد والمنظر السينمائي،(بيلا بلاش)، وهي ثلاثة أزمنة إذا طبقناها على بناء القصيدة كما هو في بناء الفلم: الزمن المادي وهو زمن قراءتنا للقصيدة، والزمن النفسي وهو الانطباع الذي تتركه الكلمات والجمل والصور عاطفيا وذاتيا لحظة قراءتنا للقصيدة، وأخيرا الزمن الدرامي وهو الكلمات والجمل التي صاغها الشاعر كقصيدة،   الوطن الجديد الذي حمله محمولات المكان من زمن الغربة الأولى، فأضحت القيمة التعبيرية هي الأكثر وجودا ًعن الانفعالية في المقارنة، لأن ما حدث في السابق يعاد بشكل آخر. ولهذا يستخدم الفعل المضارع، والأمر ليزيل قناع التردد والهروب من الحقيقة مع ذاته، التي ما تنفك الأنا توبخه لتركه موطنه ومسكنه:

” منذ دخولك وليومنا المشطور إلى نصفين، / لم يبرح الفزع شرفة الطيور. ولا فسيلة النص تنمو نخلة في جفاف الفصول./ لم يبق غير كوارث من غير ملامح، “ القصيدة/ المقطع الأول. .. وهذا ما يضبب الحالة عند الشاعر عند سرده ألحكايته، هل هو مخطئ في البداية أم مصيب، لتداخل القضية ما بين الحلم واليقظة، وتتحرك المجسات لاكتشاف هذا البعد، بما توضحه الجمل الاستفهامية والتعجبية التي يغدقها على سرده وحواره،  و يبحر عبر ذاته المكلومة،  ويمدُ في منح الأنا المدى، الذي يتصور انه سيقنعها وهي الرابضة في المكان البعيد عن الوطن،( البحر وما خلفه)، لتحسم الموقف بين الاستمرار في العيش على الأمل، أو يبحث عن ما يغير المصير الذي آلت إليه الإحداث، فهو يحاول أن يقدم دلائل صواب قراره، ولكنه في قرارة نفسه يرى شئ آخر: (أن أضـعَ حـداً لـخـطـوتـي الـتي تـدورُ حـول نــفــســهــا . / أن لا أتـركَ الألـمَ يـتـمـددُ مـثـل الـهـواء . / لـكـي لا تــنـمـو فـي الظل شجـرة طـاعــنـة بـالـسـواد. / يـاإلـهـي . أنـا بـحـاجـةٍ لـوقـتٍ طـويـلٍ ، / لـكـي أضـعَ بـاقـات الـورد عـلـى شـواهــدِ الـقــبـورِ الـمزروعـة فـي قـصـيـدتـي. ) المقطع الثاني،  أنه يمضي مسرعاً  في سرده لنــفــســه تصورا ً أنها مسألة تعويض عما مضى، وهناك ما هو جديد، طريقا ً يختلف عن الطريق الذي اختطه سابقا ً، ولكن الأشياء تحاصره، وتبقي المسافة متباعدة بينه وبين الآخر، ويخضع وعيه إلى تخيلات التلاعب بالزمن المسترجع والحاضر، ولكن يبقى حضوره الآني، هو الذي يوصلنا إلى الزمن الذي يثبته بالفعل المضارع والأمر، الزمن الحاضر، فتندمج الأزمان المادية والنفسية والدرامية في بوتقة واحدة هي زمن قراءتنا القصيدة تلك اللحظة، ان بنية القصيدة ترتكز على الماضي واسترجاعا ته لتبرير وجوده خارج المكان، لهذا سيمضي الماضي في تواجده داخل الحاضر، وحاضره ماضيه، يكابد فيها الم اللحظة التي جعلت الإخوة يتقاتلون، وهو الذي كان يأمل ان يجدهم متحدين لتحقيق الحلم الذي أجبره على الاغتراب،  مات الحلم الذي كان موجودا، في كل الذكريات التي تصطف إمامه وهو في لحظة الذهول والحزن، :

( مازال يوسف / يفسر للحالم شهوة الطير الموغـل في تعميق الحفرة ويوصي : ببراءة الذئــب من دمهِ ،) المقطع الثالث، ولكن الذي مضى  لن يعود، والألم الجديد سيوقظ الجرح القديم ويعيد تركيب المعادلة التي تصور الشاعر أنها تغيرت، ولكنها لم تتغير وسيكتشف:

 ” لــذلـك أحــاول أن أروض موتــي الـحـامل جــنــازتــي عــلـى كــتــفــيــه .

أن أضـعَ حـداً لـخـطـوتـي الـتي تـدورُ حـول نــفــســهــا . 

أن لا أتـركَ الألـمَ يـتـمـددُ مـثـل الـهـواء.

لـكـي لا تــنـمـو فـي الظل شـجـرة طـاعــنـة بـالـسـواد ” المقطع الأول.

          أن هذا الصوت الذي لا ينفك يصرخ في رأسه، والذي يقلقه ويغير من مسيرة حياته، يحاول التخلص منه بكل طاقته، ولكنه ملازم له، وكلما ابتعد عنه عاد إليه كالقدر الذي أوقعه  في الفخ والتف بخيوطه حوله:

أصغ لأصوات القبور السائرة في منامك / المتقاسمة معك الوسادة، / كيف ابتكرت دمارك ” المقطع الثاني… أنها لحظة الهذيان بحلم سريالي ينقل المجسات التي يتحرك بلا وعيه إزاءها. في التيه الذي يلازمه منذ أدرك إن الحياة ليست لها مقاييس ومحددات.

حلم العودة المستحيل…

         أنه يلملم ما تبقى من الذكريات متشبثاً بها علها تستطيع أن تحول أو توقف الكارثة، لكنه يعرف انه جزء منها، ولهذا يبحث عن طريق من خلال أعادة شريط كل ما حدث، يتمسك بالوطن أو ما تبقى منه في داخله، بعد ان يخبرنا ما حل به، ويوهم نفسه أنه سيغير مجرى هذا العنف المتداخل بين العقل والعاطفة، فيركن إلى أيام الوطن الماضية يتحسسها وهو في غربته، لينتزع هذا الانتماء المنشق نصفين،: ” وطني:/ التراب العالق في قدميك،/ يمكن أن نصنع منه وطنا ً في المنافي/ يمكن أن نسميه أول الهروب ونفتح بوابتيه على متسعهما، “ المقطع الرابع….  أكداس الذكريات  الجميلة، تقلقها ما تحمله الإخبار كل يوم من موت ودمار، وينظر بين الحياة التي يعيشها وحياة الآخر في مداها البعيد، فهو لا ينازع ذاته، إنما يحشرها في داخل المأساة التي يعيشها وطنه وهو في غربته ، بين الحلم وذكريات الماضي، يصرخ،  ” فمي الممتلئ بسخام الكارثة ” ، ويحاول ان يطلب من كل هذه الذكريات التي تحاصره، وتقرع أبوابه أن يتوحد، ويلغي الغربة التي عاشها في وطنه وما زالت تلاحقه وهو بعيد عنه :

” وطني أيها اللامع المتربع فوق عرش المرايا،/ خذنا حيثما تشاء،/ أو دعنا / نتصاعدُ  مثلما يتصاعد المارش العسكري / في حناجر الجنود ”  المقطع الثاني، لكن الألم بين الماضي والحاضر، يدفع به للصراخ وهو يرى وطنه يعاني من قسوة الاحتلال الذي ” اوجد إدلاء جدد،  المليئة جيوبهم بالصور المنزوعة من وثائقنا المدرسية ” . الماضي يعيد نفسه بتداخل الماضي في الحاضر، هرب من العيون التي تراقبه ومن الإدلاء، ليظهر إدلاء جدد، يملكون قدرات أكبر وأوسع في خطف الحياة،  زمن الخطاب هو زمن المخاض، زمن عسير، يحاول التخلص من ارثه، ولكنه مكبل ولا مفر من المعاناة، مع كل لحظة يمر الوطن في أزمته، وحياته الجديدة التي يعيشها.

المقاطع العشرة….وسرد الحكاية

          المقاطع العشرة التي تتكون منها القصيدة، والتي أعطاها أرقاما ولم يضع لها عناوين، على الرغم من مخالفته التنظيم، فيفرد للمقطع التاسع عنوانا،( بورتريت لعائلة منقرضة )، وهو عنوان لافتراض ان الشاعر وصل إلى النهاية التراجيدية، وفي هذه الأبواب سنجد ان الشاعر افرد قضيه لكل مقطع أو فصل، يتحدث به عن قضية ذاتية بينه وبين الوطن، متخذا أسلوب سرد القصة أو الحكاية، سرد ذاتي يخرج عن المباشرة والخطاب التربوي يمتزج بين الوعي واللاوعي، إلى حقل الجمال والإبداع، فتذوب الأنا المشاكسة في الذات المهيمنة، ليمنحنا هذه الصور والاختزالات الوجدانية، ففي مقطعه الأول الذي يستخدم فيه الفعل المضارع، ويتحول بعض الأحيان نحو فعل الأمر،  يرينا الشاعر عمق الهوة بينه وبين الأنا التي تحرك شجونه وآلامه عبر الذكريات والأيام الماضية، ” تأمل ظلك الذي طارد فناء البيت “ ، فهو ينقلنا في سرده بدون تسلسل زمني، يعبر بنا السنون والمسافات ليتواصل مع يومه الذي اكتشف فيه، ان ذاته خدعته عندما قادته للإبحار، لان ظله ظل معلقا بروح الوطن وجمراته اللاهبة توقضه كل لحظة للعودة، ” وعينيك المليئتين بعمى الاستدلال، ولا أشارة تدلك على طريق العودة “، هو يحلم بطريق العودة عندما تغرب غربته الثانية ، غربة المكان، ولكن هذا الأمل كان بانتظار حصول المعجزة، ولكن المعجزة أصابها الخلل من بداية الطريق وهذا ما أنهكه وأعاد دورة الحياة لديه من جديد،” يمكن أن نسميه أول الهروب، ونفتح بوابتيه على متسعهما ” المقطع الرابع… وهكذا نجد ان الشاعر استخدم السرد الحكائي لتمرير القضية التي انتفخت في داخله حد التورم، فانفجرت على أثر دفوعات الأنا لجره إلى العودة، وهو يعرف ان الأبواب أغلقت، وأضاع درب العودة. وما يسوقه لنا من دراما هو الإشكالية بين الأنا المتمردة وبين الذات التي تتحمل القيادة، وهي ترى وتعي ما يحدث على ارض الوطن، لكنه يلجا الى اللاوعي حتى يتدارك مقتربات ما يحمله وعيه للمأساة.

الزمان والمكان المفترض في بنية القصيدة…

         وهكذا يوصلنا الشاعر إلى حقيقة يكشفها لتا بالتدريج، مرثيته ليست للقميص أنها لنفسه، فعندما نتبحر في السرد الحكائي الذي تناول به الإحداث، يكون كما سبق القول، انه يخاطب أناه، هواجسه التي تقلقه، وتعيد له بهاء الأيام الماضية التي خلفها وجاء إلى المكان الآخر،  وبهذا تدور القصيدة عن المكانين المفترضين المكان الواقعي، وطنه الذي يحكي لنا قصته كاملة معه، ولماذا غادره للوطن البديل، ونرى وطنه من خلال الصور المتلاحقة والتشبيهات وتهويمات العشق التي يطلقها بشغف ومحبة ، وبعبارات تتسارع للإفصاح عن هذا الهيام، باستخدام الأفعال المضارعة والأمر والاستفهام والتعجب، ليجرنا إلى لحظة الغرابة التي يعانيها، بأشخاصه وأرضه وكل ما فيه من أشياء جميلة، وحتى المنغصات واصطدامه مع السلطات السابقة، لتتكون لدينا الصورة الكاملة عن وطن الشاعر الأول، ولكنه يبقي الوطن البديل موجودا بحضوره وغائبا عن الصورة التي يصف لنا أجزائها من حياته الماضية، فعلى الرغم من انه يستخدم الفعل المضارع في الاسترجاع لكنه يغيب الحاضر، وهذا مما يوقفنا على الأساس الذي بدأ به يخاطب نفسه، انه لم يستطع الانسجام والعيش دون الوطن الأصل، مهما حاول ان يتكيف، ولكن، ” آه / لماذا كلما أختصر المسافة بيني وبين حلمي، / تمد الحرب يدها في جيبي وتسرق القصيدة “ المقطع العاشر.

        إذن لم يستطع لا الزمان ولا المكان من اختراق ذات الشاعر لتغيير مسارها، على الرغم من كل الاختلاف الذي حدث بين حياته السابقة وحياته الحالية، وظلت كوامن الداخل تعتمل في استمرار هذا الدفق الوجداني، ” الصورة الشعرية لا تخضع لاندفاع داخلي، وليست صدى للماضي، بل العكس: فمن خلال توهج الصور يتردد الماضي البعيد بالأصداء، ويصعب علينا معرفة على أي عمق سوف يتم رجع هذه الأصداء وانتهائها… فبسبب طزاجتها وفعلها، فالصورة الشعرية هوية ودينامية خاصتان بها، ” (4)، ولكنه ظل محكوما بذات المأساة التي أخرجته من وطنه في السابق حينما يحاول العودة.

        أن قصيدة ( مرثية دم على قميص قتيل )، قصة المعاناة التي تحملها من عاش البعد عن الوطن على أمل العودة، وتفسير للانشقاق الداخلي، بين حب الوطن وبما يحمله من ذكريات ومعاني، وبين الحياة في المدن التي تشعره كونه إنساناً، الفرق الحضاري الذي ناضل من اجله وفقد الوطن دون ان يتحقق ما حلم به وظل يقتات أمل العودة، متحولا ما بين الغربة والغرابة، وفيها استطاع الشاعر مكي الربيعي، ان يجسد هذه الرؤيا عبر الصور والاستعارات والرموز، وما أخذه من التاريخ العراقي والعربي والعالمي، متحولا ما بين الوعي واللاوعي، بصياغات سريالية لصوره المكثفة، وهنا نقف لنتساءل هل  موقف الغرابة ؟ على بناء القصيدة، كان عن قصد أم لحظة الانفعال هي التي قادت الكلمات التي صاغت جمل تبني هذه الديناميكية التي اتسمت بها القصيدة، وتدرجت في تفسير الانزياح بين الأنا والذات في صراعهما لأخذ موقع احدهما الآخر . أن التجربة التي يمر بها المغترب هي التي تفسر حجم المعاناة، وكل غربة تفسر نفسها على ضوء الانطباع الشخصي بين العمق في الحب وبين سطحية العاطفة والتعلق.

 

الهوامش :

1-غاستون باشلار، جماليات المكان، ت غالب هلسا، مجلة الأقلام. بغداد. ص 18.

2- الغرابة. المفهوم وتجلياته في الأدب. د.شاكرعبد الحميد.عالم المعرفة العدد 384/2012. دولة الكويت.ص116.

3- الغرابة. المصدر السابق. ص7.

4- جماليات المكان. المصدر السابق. ص 19.

ملاحظة هامشية: كتبت هذه المقالة قبل عقد ونيف ولكن محتوى القصيدة ما زال دالا على ما حدث ويحدث في العراق، وانتفاضة شعب وثورة الشباب في عموم العراق تكمل الصورة لما وقع في عام 2003 وما تلاها من أيام محنة الاحتلال والعصابات والمليشيات، التي يذكرها الشاعر في قصيدته..

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *