في البدء .. يمكنني التنويه الى اشارتين , الأولى أن أي رواية لا تهتم بالفكر والناس ليس لها مبرر وجودي أو فني , والاشارة الثانية أن أي رواية تُصاغ بقدرة فنية وفكرية متفردة هي مغامرة جديّة لن يغطيها غبار الاهمال

ولا ندم القراءة . ومناسبة قولنا هو رواية (الرحلة العجائبية , سيرة الهفهاف بن المهند الراسبي) للكاتب فيصل عبد الحسن ([1]). ان الرواية هذه ليس فيها أحداثاً عجيبة بقدر ما فيها من أفكار جريئة , وتوثيق غريب , ولغة تضاهي ـ بنمط ألفاظها ـ شكل ومضمون لغة السرد في العصور الوسطى من جهة , ومن جهة أُخرى تأخذ بالتنظيم التاريخي بصيغة المذكرات المسجلة الشبيهة بقصص ألف ليلة وليلة , من جهة وتقارب تسجيل اليوميات الشائعة الأن في الانماط السردية كلها تقريباً!. إنني هنا لا أريد الخوض في المقاربات بين الرواية وما سبقها من عيون الآداب العالمية والمحلية المتجهة الى التراث والتاريخ , انما أُريد التنويه مرة ثالثة الى المخاطرة بالدخول الى التاريخ المقموع , للعصور الاسلامية , والصلات المتينة بينها وبين عصرنا ما بعد 2000 , إذ يتجدد العمل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي برؤية (الفتنة) , التي تَطَوَّرَ شكلُها وبقي مضمونها . أقصد ان الفتنة صارت الآن أكثر هتكاً ومضاءً للعمل والعدل والعقل! , ومن المعقول كثيراً ان تكون الأخبار والوقائع للرواية حقيقية , والشخوص كذلك , مع بعض التحويرات التي يتطلبها العمل الروائي. انني اعتقد بأن القاص (فيصل عبد الحسن) يعمل وكأنه متمم لعمل سابق قريب من صدر الاسلام . وهذه الاشارات الثلاث ليس لهن تتمة من الفعل النقدي لاحقاً , إذ أنني سأُتابع الرواية من زوايا عديدة أُخرى , على رأسها القيمة الثقافية النوعية للمحمولات شبه المفضوحة فيها . سنتابع الرواية على النحو الآتي :
أولاً : عناوين ومفاتيح
ان وجود 50 عنواناً داخلياً و50 مفتاحاً بعدها في الرواية يلفت النظر كثيراً , إذ هي تقسيمات توجه القراءة بهيمنة واضحة , فضلاً عن أن العنوان الأصل ذاته مؤلف من جزأين , (الرحلة العجائبية , ثم , سيرة الهفهاف بن المهند الراسبي) , والعنوان منذ البدء يفتح نافذة على كتب السيرة وروايات التاريخ , ليقترب من علم الخواص , الذي في أصله علم فارسي يهتم بالظنِّية والأحقيّة , ومخاطبة الإله , كما يرد ذلك في موسوعة الويكيبيديا الالكترونية. ان هذه العناوين والمفاتيح الملحقة بها تؤلف خطاً موازياً للمتون , وتشكل إطاراً للمحتوى المضمر شبه المفضوح , ونجد ان لها عديد من المبررات , أهمها :
1ـ كسر رتابة التسلسل الحدثي بمناورة العناوين والمفاتيح , بما يغطي فهماً مشتركاً بين معلومات القارئ والروائي.
2ـ جعل العمل منضبطاً دون إفاضة او زيادة ينجر إليها الروائي متأثراً بالأحداث التاريخية الرديفة لأحداث المروية الأساسية , وهي كثيرة جداً ومغرية للانجرار وراء موضوعات بعيدة عن هدف المروية , لكن العناوين ومفاتيحها تضبط العمل وتجعله مقيداً بها , ضماناً للوضوح والجديّة , وعدم تشظي الفهم.
3ـ ان تقسيم العمل بهذه الطبيعة الفنية تقرّبه من طرائق البحث العلمي وحلقات المسلسلات التلفازية , بها يكون العمل شبه صوري ولو انه على هيأة كتابة.
4ـ ان العنوان والمفتاح الذي بجواره يوجِّه العناية المباشرة بصرياً على جسد الرواية مثل اي ضلع بجسد الإنسان الذي يربط داخل الجسد بخارجه.
5 ـ ان جمع العناوين لِصقَ المفاتيح يخوّل القارئ لتشكيل الهيكل الدلالي للرواية كلها .* ربما توجد أُغراض أُخرى تمثل تضميناً لأفكار (ما بعد الحداثة) المتعلقة ببيئة الرواية العالمية الجديدة , التي توزع مراكز الأحداث ـ تدويناً ـ عبر التشتيت المنضبط . * ثمة شيء مكمل لما تم تدوينه قبلاً , هو :ــ ان التأريخ اليومي المثبت عند كل عنوان ـ نعتقد ـ انه فكرة طريفة لدمج التقنين الكتابي البعيد للماضين بتقنية المذكرات المروية للحاليين , التي تحتفي بها بُنى مرويات (ما بعد الحداثة). مثلما اشرنا اليه قبلاَ.
ثانياً : اتساع الفهم
من بديهيات القول قولنا : ان الإيجاز رديف التكثيف والحصر واتساع الفكرة .. ان التكثيف يحقق درجة مهمة من الجودة ، إذ تتجاور مصـوغات البث مع بعـضها ، ثم تتراصف , فيتلاحم المنسوج بتناسق مناسب ، ليصل طاقة الحدس المعقول للتخيل وتعدد المضمون. وفي هذا حاجة (فهم) وحاجة فن لا غنى عنهما مثلما في الحوار الذي دار بين القس الأب مرسيل والهفهاف , ومنه هذا المقطع الذي يجيب به مرسيل على سؤال الهفهاف عن الحدث الجلل , ان ورد ذكره بكتب المسيحية أم لا :
[ ـ … اني اطلعتُ على حديث وملاحظات وأشياء أُخرى تدل على الواقعة ـ يقصد استشهاد الحسين بن علي (ع) ـ لكن كلها افتراضات …وأكمل بعد صمت قصير :
ـ وقد جاءت في سفر إرميا الاصحاح 46 النبوءة التالية , وهي تحكي عن المستقبل البعيد , حيث كان وصف إرميا النبي صحيحاً مائة بالمائة , وكان الوصف مهيباً , رهيباً , كأنكَ ترى المصروع والجيوش تدور حول جسده الطاهر , ثم ماذا تقول النبوءة عن أسباب ذهاب هذا السيد الى ذلك المكان؟
صمت قليلاً قبل ان يجيب نفسه :
ـ تقول ذهب السيد الى كركميش ليسترد سلطته , فهو سيحارب عند الفرات في الصحراء العظيمة التي يقال لها (رعاوي عند الفرات)… تعني (جرابلس) الصحراء الواسعة , الممتدة من حدود بابل الى منطقة عرعر… وهي قرب مدفن مقدس لأهل الكتاب اسمه (النواويس).
وحدق الأب بوجه الهفهاف , وقال :
ـ ولا يعرف بالضبط السر في وجود دور عبادة كثيرة لأهل الكتاب في هذا المكان .. ان أكثر أهل الكتاب دُفِنوا في هذا المكان , لأنهم كانوا ينتظرون ذلك السيد , الذي سيذبح في هذا المكان لينصروه] ـ الرواية , ص33, ص34 .
سنقرأ المقطع على النحو الآتي :
أ ـ التكثيف
يظهر فعل التكثيف في نسيج عبارات الأفعال على النحو الآتي :
ـ اختزال التراث المشترك بين المسيحية وأفكار التشيع عبر أقوال إرميا.
ـ اختزال رؤى المسيحية والاسلام بشخصي الأب مرسيل والثائر الهفهاف.
ـ اختزال الصدام والفرقة للمذاهب الاسلامية بالحدث الجلل , مأساة كربلاء ـ استشهاد الحسين بن علي (ع).
* هكذا يمكن ان نفهم ما مرّ من المقاطع الروائية.
ب ـ التوسع الحتمي
يظهر ذلك في الارادة المدونة للراوي , إذ هو يوسع الرؤى والحكي والحكمة منهما بما يخص التلاقح الاسلامي المسيحي بالعبارات الموضحة المتواصلة التي نموذجها التوضيح الآتي :
(… لا يعرف بالضبط السر في وجود دور عبادة كثيرة لأهل الكتاب في هذا المكان ـ كركميش/ جرابلس/ كربلاء ـ ان أكثر أهل الكتاب دفنوا في هذا المكان , لأنهم كانوا ينتظرون ذلك السيد). فالروي هنا يوضح ويُفَصِّل لأجل التوصل الى اقناع القارئ بأن الحدث رباني مقدر , وانه واقع حتماً , تتفق على مكانه وزمانه المذاهب الاسلامية والطوائف الدينية جميعها , والراوي بهذا لا يوسّع القول فقط , انما يوسع الأفكار التي سكت عنها التاريخ كثيراً وجاء أوان توضيحها والتوسع في بث أفكار التضحية والاخلاص للعدل والحق , عبر اعلانها الموسع برواية تاريخية فنية كالرواية التي بين أيدينا ((الرحلة العجائبية , سيرة الهفهاف بن المهند الراسبي) للكاتب فيصل عبد الحسن.
ج ـ الجودة والحدس
للتكثيف والايجاز والتوسع الحتمي ناتج أساسي بشطرين هما الجودة والحدس , اما الجودة فتقاس على مقدار الجذب الذي يحققه الروي , وهو هنا يتمثل بطرافة الجمع بين قوة الحدث الى قوة اللغة الحاملة له كونهما يتشبهان بلغة سرد العصور الاسلامية دون تقليدها او اطنابها غير المفيد , فضلاً عن التنظيم المقنع بين زمن الروي وزمن اللغة الحاملة له , بينما ما يخص الحدس ـ يُستَدَلُّ ـ عليه بطريقة التكهن , مثلما تبثه العبارة الآتية :
((تقول ـ النبوءة الخاصة بالثائر الحسين (ع) … يذهب السيد الى كركميش ليسترد سلطته , فهو سيحارب عند الفرات في الصحراء العظيمة التي يقال لها (رعاوي عند الفرات)… تعني (جرابلس) الصحراء الواسعة , الممتدة من حدود بابل الى منطقة عرعر… وهي قرب مدفن مقدس لأهل الكتاب اسمه (النواويس)).
د ـ التجاور والتماسك
ان التجاور يعنى ـ بدرجة كبيرة ـ بانسيابية الأفعال الروائية , هذا الانسياب يعمل على تماسك الأفكار , (المقولات والأحداث) , ليخدم ويتخادم مع بؤرة الدلالة المضمرة وهي سوء أحوال البلدان التي يختل فيها العدل والحرية , مما يدفع الى الثورة أوتبني المقاومة , مثلما هو حال الثائرين على السلطة الأموية على طول أزمانها , مثالها النبوءة المحرضة التي وردت قبلاً.
يمكنني أن أرسم كتابياً بالتجاور الممسك بتخادم الأحداث والمقولات على النحو الآتي : (اني اطلعتُ على حديث وملاحظات وأشياء أُخرى تدل على الواقعة) , ستتصل وتجاور وتماسك العبارة (وأكمل بعد صمت قصير :
ـ وقد جاءت في سفر إرميا الاصحاح 46 ـ نبوءة ـ تحكي عن المستقبل البعيد) , وهي بدورها تصل وتماسك ما بعدها عند العبارة (… كان وصف إرميا النبي صحيحاً مائة بالمائة , وكان الوصف مهيباً , رهيباً , كأنك ترى المصروع والجيوش تدور حول جسده الطاهر)…. وهكذا يسير السرد للمروية من المبتدأ حتى المنتهى.
ثالثاً : السردية الوفيرة
ان التفكيك والثقافة جمل كبرى في (المعرفية السردية) العامة كونهما حصائل فكرية واجتماعية يتبعهما سلوك وبناء وعلائق ، ومرويات , مروراً بالتقاليد والقيم والموروث اللغوي والحكائي والفلسفي والتقني والفلكلوري وأساليب الفنون والصناعات الشعبية الشائعة , فضلاً عن الشفاهيات المتداولة أدباً وفناً ومعارف . ونرى ان مهمة الثقافة إعطاء فهم المعاني الى الأفراد والأحداث في ظروف وملابسات معينة محدودة تركز على المعرفة بالأوضاع التاريخية والانسانية عامة (على رأي هابرماس).
ان فهمنا للوفرة السردية يتعلق بالثراء المعرفي للتاريخي والاخلاقي والجمالي , وجميعها ترتبط بإشارات تغور بالإرث الانساني من زاويتيه العدالة والظلم .. لنقرأ الآتي ونُقَيِّم به طبيعة الوفرة السردية.. لنتابع :
[كنتُ متوتراً وقد رأيتُ مصيري معلقاً برهافة … السيف عريض النهاية , الذي سينطعُ به رأس أحد أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب , ولفرط غبائه جاء بقدميه الى وجار الذئاب!! ولكن الأزدي قام من سرير حكمه مرحباً بقدومي الى مجلسه وعلى وجهه قرأت لهفة وحفاوة كبيرة …ـ لا تدهش من كوني أميراً للأُمراء , وليس تاجراً شامياً , كما عرفتَ عني من قبل , ففي دولة بني أُمية نتبع ذات الأساليب والطرق في إعداد القادة والأُمراء في الدولة , فلكل من وصل شأواً في الجيش عليه ان يمضي بين ستة شهور وسنة في رحلة في ولايات غير خاضعة لدولته , لمعرفة استعدادات الآخر … واعطاء الدلالات لرسم الخرائط التي تفيد قادتنا في تحريك الجيوش عند الزحف على تلك الدولة] ـ الرواية , ص173 , ص174.
هذا المقطع المنتخب من الصفحتين أعلاه يضم انفتاحات عديدة تؤلف الوفرة المتكاثرة للمعارف والأحداث الواضحة والمخمنة . ان كل عبارة في المتن المنتخب أعلاه تلفت النظر ـ بصورة مباشرة او غير مباشرة ـ الى ما يمكن معرفته. فمثلاً :
ـ (كنت متوترا وقد رأيت مصيري معلقا برهافة … السيف عريض النهاية) .. هذه العبارة جاءت على أثر لقاء بين الهفهاف والأسدي في طريق التجارة المتوجه نحو الشام , وكان الازدي يدعي انه تاجر واختلى بالهفهاف هناك , وها هو يلتقيه برتبته الحقيقية , وما ان دخل الهفهاف حلب حتى أرسل إليه يطلب قدومه , وحين رأي الجند والحراس والسيوف أيقن انه هالك لا محالة .. هذا التوجس تضمن مئات القصص عن غدر الحكام وحنكة الجواسيس. لنا ان نتصور كَمْ من القصص والروايات التي تضمر مثلها حكايات وقصص في الدولة الأموية , ألا يحق له الخوف وهو قد عرف تماماً ان أمير الأُمراء قد كشف هويته , كونه من أنصار علي بن ابي طالب!.
ـ (الأزدي قام من سرير حكمه مرحباً بقدومي الى مجلسه وعلى وجهه قرأت لهفة وحفاوة كبيرة) .. هذه العبارة جيء بها لعدة أغراض منها , للدلالة على هيبة الهفهاف , ومنها ان سرير الحكم له قيمة كبيرة والقيام منه يعنى التخلي عن الفخامة السلطوية , ومنها ان الحفاوة تختزن وراءها أمراً خطيراً .
ـ (لكل من وصل شأواً في الجيش عليه ان يمضي بين ستة شهور وسنة في رحلة في ولايات غير خاضعة لدولته , لمعرفة استعدادات الآخر … واعطاء الدلالات لرسم الخرائط التي تفيد قادتنا في تحريك الجيوش عند الزحف على تلك الدولة) .. تضمر هذه العبارة الكثير من الحكايات والروايات المتعلقة بمنظومة الجاسوسية , ومنظومة تدريب القادة في الجيش الأموي , ليكونوا سياسيين بارعين , فلنا ان نتصور كم قائداً عسكرياُ وأميراً , واميراً للأمراء في الدولة الأموية.. فلو كان عددهم مائة شخصية , فيعني ذلك وجود مائة حكاية أو رواية , على أساس ان لكل فرد حكاية أو رواية . كم سيكون عدد الحكايات والروايات لو ان لكل فرد عشر روايات ؛ ستكون هذه الوفرة السردية تعادل 1000 حكاية أو رواية .. هذا التوضيح يحيلنا الى محور آخر هو منظومة المعارف التي اشتملت عليها
ـ عبر التأويل طبعاً ـ عبارات المقطع السابق , وبقية أجزاء ومدونات الرواية الأُخرى. انني أرى المقطع السابق قد تضمن المعارف الآتية :
1 ـ ان طريقة إعداد القادة في الجيش والحكم تعود لعلوم الخواص والأشخاص والسياسة .
2 ـ ان وجود معلومات تتعلق بخطط غزو البلدان عسكرياً وفقاً للمعاينة المباشرة تندرج ضمن علم الجغرافية العسكرية .
3 ـ ان استمالة الشخصيات المعروفة ومحاولة اغراءهم جزء من السباق السياسي لعلم المخابرات.
4 ـ ان الاعتماد على رهبة العسكر والمجاهرة بالقوة جزء من علم النفس الذي به وجه اعلامي لكسب اي صدام قبل وقوعه.
5 ـ تقريب المناوئين لسياسة دولة (ما) هي واحدة من اثنتين , اما للتهيئة لانقلاب وتغيير دفة حكم , او لكسب حياد المناوئين , وهذا الفعل جزء من علم الاجتماع المتعلق بالثورات المناهضة للسلطة الحاكمة.
6 ـ الاتيان بشخوص وأحداث روائية تماهي شخوصاً وأحداثاً حقيقية , يمكن ارجاعها الى التاريخ برواياته العلمية.
* إذاُ تحتمل المقطوعة السابقة بحدود ستة علوم , تضاعف الوفرة السردية وتمكّنُها من التماسك والتمسيك للروي وصفاً وحدثاً وشخوصاً وفكراً .
رابعاً : تركيب مُنَغَّم
ان لهيكل الكتابة سطح أفقي وعمق عمودي ، الأول يمثل الآليات الانتاجية البصرية والثاني يمثل آلية تشعب قنوات التوريد , ويلتقي العمقان في خزين الذاكرة التجميعية , التي تضع الوجد التكويني ضمن تركيب يحيل مباشرة الى خلق توازن فني بين تنغيم عناصر السردي ورسالته النموذجية ..
ويمكن ان نفهم التنغيم كذلك بأنه وقع دلالي لتسلسل القول وتناغمه مع أقوال سابقة وأقوال لاحقة , جعلت الفكرة تصل إلينا برهافة وبتركيب أدبي مقنع ممتع , وربما ذلك يطرب ضمير الاخلاقيين جميعاً عليها , بذي يتحقق وقع التنعيم دونما حاجة الى نوتات ايقاعية حقيقية.
لنقرأ الآتي :
قال الأزدي أمير أُمراء حلب لضيفه الهفهاف ـ منقول من برجمان الهفهاف :
[روى أبي يرحمه الله أنه لقي رسول الله عندما توجه مع صحابته الى معركة بدر في منطقة تدعى الروحاء رجلاً , فسأله صحابة الرسول عن أخبار قريش وجيشهم , … , فلم يجدوا عنده خبراً , فقالوا له : سلم على رسول الله , فقال : أوفيكم رسول الله؟ قالوا نعم , فقال حين شاهده : ان كنتَ رسولَ الله فاخبرني ما في بطن ناقتي هذه؟ فأجابه أبي يرحمه الله , وكان وقتها غلاماً حدثاً : لا تسأل رسول الله , أنا أُخبركَ , ففي بطنها سخلة منك!! فقال رسول الله فحشت على الرجل يا سلمة] ـ الرواية , 177 , ص178.ان الاجراء هنا يحتم علينا ان نعين العمقين أولاً , ثم الآلية البصرية , ثم فنوات التوريد , وملتقى الذاكرة الجمعية , ثم نحدد كيفية التوازن الفني بين طرفي الرسالة (نموذج التنغيم وطبيعة النسيج). أدناه توضيح لاشتراطات التنغيم التركيبي من جنبة هيكل طبيعة النسيج :
1ـ ان السطح الأُفقي يعادل المظهر الكتابي للمقطع كله , أما العمق العمودي فهو مقدر بما يُسْتَنْتَج من معنى لم يصرح به , وهو المقارنة بين سلوك الرسول (ص) واخلاقه , واخلاق وسلوك أصحابه , وهم جميعاً مرضي عنهم.
2ـ ان العمق الأبعد هو حرية الصحابة وسلطوية الحكام الأمويين.
3ـ ان آلية الانتاج البصري هي آليات لغوية , منبعها الجمل الإسمية والجمل الفعلية والحروف والظروف والأدوات الضابطة , كالحركات والفوارز والنقاط . تلك معاً تكوّن المظهر الممتد بين الكتابة والعين الباصرة.
4ـ قنوات التوريد تتشعب وتتوزع بين قوى الروي (الأزدي والهفهاف) , ومذيلات الروي (حدثي ـ القول ولقاء الرسول ـ (ص)).
5 ـ الذاكرة الجمعية تختص بجمع وخزن وبث تراث الرسول وأصحابه .. هذه الذاكرة حفظت لنا تاريخ سلوك الرسول وأصحابه , ثم حفظت لنا سلوك وخلق أصحاب علي بن ابي طالب. وهي قد جمعتْ بين تلك الأخلاق والسلوك عَبر مقولة الأب المتوفي للأزدي , ولهذه الذاكرة مصدران , الأول هو القول الفائت وما اختفى وراءه من دلالات حكمة , وسلوك نبوي , ودلالات حكمة أتباع أتباع رسول الله (ص).
ب ـ صيرورة النموذج
ان صيرورة النموذج عند وضعها في حالة إرسال , تأخذ بحركة العمق الدلالي كمخزون تراكمي يساوي بين محيطاته والمأثور القولي , تتلاحم أثناء ذلك عناصر الإخبار غير المباشر , بميزان المعنى للدال على المدلول , ثم يقام الترابط بين الحال الخارجي للقول مع المخمن الداخلي له , مما يجعل للنهاية وجود تراسلي قائم بذاته . ومن الناحية التنفيذية تتعادل المأثورات القولية بموجب الفرض الشرطي الآتي : (لغة الارسال (الراوي) = تسريب الحادثة (قناة الارسال) = تنغيم الذهال الفني (التساوق الفكري) . لنقرأ :
ينقل عن برجمان الهفهاف بلسان مسعود :
[كان المهند فرحاً برؤية ولده وحريته وتعرفه على امرأة ولده وحملها …] ـ الرواية ص282.ينقل عن برجمان الهفهاف بلسانه :
[شاهدتُ شهنزاد مسرورة , فقلتُ لها : سامحيني لم يترك لنا الأمويّون فرصة للإقامة الطويلة في دمشق حتى تضعي مولودنا , نحن في نظرهم نفير ايقاظ للنائمين من أهل دمشق , فربما ساهم قرع ناقوسنا إيقاظهم , فيعرفوا من ظلمهم …:ـ يا سيدي , حين أكون معكَ فكل أوقاتي سعادة … هذا ولدكَ يتحرك جذلاً في بطني , يريد ان تقع عيناه على أرض أجداده وأهله] ـ الرواية , ص284
للقولين أطراف أهملناها لضرورة فنية . سألخص ذلك المهمل بالقول : ان الهفهاف حرر والده المهند وجميع أسرى (صفين) من جماعة الخليفة (علي بن ابي طالب ـ رض ـ) , وبطريق العودة دار الحوار اعلاه وما قبله , في الطريق الى البصرة .
اما توالي الرسائل النموذج فسنتابعه عبر:
1ـ ان وجود المقطع أعلاه حقق شرط تَكَوِّن : (صيرورة النموذج موضوعة في حال ارسال , تأخذ بحركة العمق الدلالي كمخزون تراكمي يساوي بين محيطاته والمأثور القولي) , فالمقطع على صفحة (282) قول واضح يخص صيرورة تحرر الأسير وفرحه بابنه وعائلته , والمقطع سليم الجمل وله بعدان دلاليان يتناغمان فكرياً , هما الحنان والحب الثنائي , الهفهاف لزوجه وأبيه , ووالده بحبه وفرحه بابنه وزوجة ابنه , وكلاهما متوازيان ومتقاربان بما يجعل الفرح مثل أُغنية. ان للعائلة الثلاثية , المهند والهفهاف وزوجته , هدفاً بعيداً لن يقتصر عليهم انما سينصرف الى الابن وهو ببطن امه.
2ـ الحال السابق يتناغم مع محيطه الذي يتحرك بقافلة عائدة الى البصرة , وفي المقول تساوياً وتوازياً بين حركة القول وتسجيله , وحركة القافلة واتجاهها نحو البصرة , هذا الظرف أنتج موسيقى حب وحنان وعزم بدخول البصرة لصنع أُغنية الفرح بعودة الأسرى , وغنيمة المرأة الجميلة الصالحة للهفهاف.
3ـ يتصادى هذا الظرف , (محيط الروي) , مع القول (شاهدت شهنزاد مسرورة , فقلت لها : سامحيني لم يترك لنا الأمويّون فرصة للإقامة الطويلة في دمشق حتى تضعي مولودنا) , من الجلي انهما يتناغمان بتوالي الحنان بين الزوج وامرأته المبني على التوافق والتماهي بين عشق الحياة وأُمنية ان يتغير وضع الدولة الاسلامية بدمشق ليكون الناس أكثر حظوة بإدارة وقتهم وسكنهم. وهذا يتجه نحو تنغيم فردي مكمل في (ـ يا سيدي , حين أكون معكَ فكل أوقاتي سعادة … هذا ولدكَ يتحرك جذلاً في بطني , يريد ان تقع عيناه على أرض أجداده وأهله) , وهو يأتي تلو تكون النغمة الأهم , التي هي ادراك الأمويين لما يفعلون , التي تلي ادراك الأثر الذي يتركه المناوئون على أهل الشام , ذلك يحققه القول (نحن في نظرهم نفير إيقاظ للنائمين من أهل دمشق , فربما ساهم قرع ناقوسنا إيقاظهم , فيعرفوا من ظلمهم).
4ـ تتلاحم عناصر الإخبار للقول غير المباشر , ويتوازن المعنى بربط الحال الخارجي (الأمويين) بالحال الداخلي (الناس) , فيصير للقول مخمن داخلي يوجه الحوادث بطريقة التوالي شبه المنتظم , ويضم اجزاءها الى بعضها . يكتمل هذا كله ببهاء الأُنوثة كونها تصنع السعادة للفرد والمجموع.
* الان يمكننا ان نقول : (للمقطع أربع رسائل نموذجية , يتلو بعضها بعضاً بمثل التسلسل الفائت , وهي / رسالة فرح الأسير وعائلته التي تبث للناس جمال السلام والحب الإنساني بمعانيه السامية , ثم رسالة الحب لمدينة النشأة المعادلة لتوالي النغم الموسيقي للحياة البهية بعشق مدينة الأهل والمرأة النجيبة المخلصة , ثم رسالة السلطة التي لابد من معارضتها عبر الاخلاص للمبدأ والحياة , والحرية والحنان الحقيقي بين الناس , وسوف يظل الامل بالتغيير رسالة للأجيال , حتى ان كانوا ما يزالوا ببطن الامهات!. أما الرسالة الرابعة فتقول ما غرضه (لا سعادة ولا هناء ولا مرؤة إلا برفقة الأُنثى).
خامساً : بندول الأرجحة
عند اتمام صيرورة الإيجاز والتراسل يتشكل الكيان الروائي فيكون قادراً على استيعاب بنى الأرجحة من تقديم وتأخر وتكرر حدثي . أي يبدأ وينتهي بتكرار أحداثه , وان أي أرجحة . أي (بندلة) , ستكون مضاعِفة لحركة النظام الهرمي الذي يشكل بأجزائه كيان الكتابة , بدينامية تصعيد الذروة , حد إطلاق العنان للتصور الخيالي المنتج بياناً وقولياً شبه فطري.
ان نظام الأرجحة يحتم علينا متابعة الأثر الكتابي على أربع مراحل هي :
أ ـ أرجحة التقديم
في هذا الحال نلج حركة البداية التي بدأ بها السرد ـ بفعلها وفاعلها في /
[منذ سبع سنوات وسيدي الهفهاف يرتب أُمور القُرّاء , من الشيوخ والشباب , ويطلب منهم في أوقات فراغهم من الاستزادة من الدرس بتعلم القرآن وفهم تأويله] ـ الرواية , ص379.هذه العبارات بنيت على حركة قبلها دفعتها هي حركة اغتيال العلماء وتسفيه الفتاوى , وتجهيل الناس . كل ذلك فعلته سلطة الدولة الأموية في الشام وفي البلدان المنضمة إليها من جرّاء الغزو والإخضاع بالقوة , وهي محمولات من (حدث واخبار) تحفز على نقل السرد من الوصف والتبطيء الى التسارع والانتقال , عبر الزمن والقول , الى مرحلة جديدة تخص أحداث وظروف وأوضاع البلدان , فيصير الفاعل (الهفهاف) , والفعل (طلب الاستزادة من دراسة القرآن الكريم وفهم تأويله) هدفاً , زمنه يتقدم منذ سبع سنوات مضت حتى لحظة التأويل هذه . ومن الواضح ان النشاط هذا يندرج ببندول (تغير الحال الثقافي) للناس وللمناوئين , ليصنعوا روح مقاومة علمية فقهية اخلاقية , ينهض بها أبطال التاريخ , وهم بذات الوقت أبطال في الحياة وفي الرواية.
ب ـ أرجحة التأخير
ما ان يتغير بندول الحركة بالاتجاه الى نقطة البداية من جديد حتى يكون السرد مرتداً بعكس طريق التقدم , يساعد عليه الوصف والكلام الخالي من الأحداث , مثلما في : [كلما نظرت الى سيدي الهفهاف لمحت خصلة جديدة من شعر رأسه تتحول الى البياض] ـ الرواية , ص382.
لنا ان نتصور نظرة مسعود لبياض شعر الهفهاف , ونتوقع ما يشعر به الراوي (مسعود) , وهو الشعور بزمن تقدم العمر وما يلحق به من متاعب , وان مكان التغير هو رأس الهفهاف , وفي الحالين (النظر وتحول الشعر) , ليس فيهما حدث بالمعنى السردي , انما توجد وقفات بطيئة مقصودة لأجل ان يرتد السرد الى وراء عبر المقارنة بين ماضي البطل , (الشباب) , وحاضره (بياض الشعر) .. ان مثل هذه الحركة نعدّها ارتداداً بالسرد ـ (الأحداث) ـ نحو زمن تم تجاوزه , وما الوصف الخاص بشعر الهفهاف سوى حركة بطيئة تتمثل بماض لا عودة إليه , لكن الحركة هذه ترتد من جديد للتقدم الذي يصنع حركة جديدة في [سمعت ـ سلمان ـ يقول لوالده عندما ورد خبر تسميم الحسن بن علي بن أبي طالب في يثرب … بتدبير من الأمويين بعد ان وعد معاوية زوجة الحسن بثقل وزنها ذهباً ان فعلت … وتزويجها لابنه يزيد …:
ـ سآخذ بثأره من قاتليه] ـ الرواية , ص380 .
هذا القول مَفْصَلَاً يُقَدَّر له أحداث قادمة كثيرة جداً , على اعتبار ان البندول السردي سيسرع أكثر فيُحدِثُ أفعالاً جديدة , قد لا يكفيها سجل الهفهاف المدون به حادثة تسميم الحسن (ع).
ج ـ أرجحة الايقاع التكراري
ان تكرار الحوادث على مستوى رقعة المقاطع السابقة يمثل نوعاً جديداً هو (أرجحة الإيقاع) , الذي تكوّن أثناء تكرار العودة الى الماضي ثم الرجوع الى الحاضر , بسرد يرويه الوسيط مسعود. ونرى ان ذلك يصيغ باطناً غير مرئي يضبط ويوجه أرجحة الحركة السردية . مثال ذلك :
[ اما سلمان … فهو لا يهمه في هذا الوجود غير الاعتناء بالخيول وركوبها , وقد سمعتُ أُستاذه الشيخ المقرني … يحدثه عن الخيول العربية , فذكر له ان أول فرس في الجزيرة … كحيلة العينين اقتناها النبي اسماعيل … أطلق عليها اسم كحيلة العجوز … قلت في نفسي هذا الولد سر أبيه حقاً] ـ الرواية , ص380.ان سلمان كونه الابن الوحيد للهفهاف , صار الماسك الايقاعي الذي يوجه السرد عبر تكرر وجوده الفاعل فضلاً عن ان أفعاله (تتكرر) في الرواية دون ان تحسم أمراً (ما) , لذا فهي ايقاع (فعائلي) , يحرك بندول السرد نحو التقدم والتأخر دون رتابة , إذ يكسرها بالمعلومات التي تصاحب الحركة , وهي هنا تتعلق بالخيول.
د ـ أرجحة ديناميك التخيل
في المقطع القادم تخيل مصرح به , يتناغم مع تغير الحركة , يبث معلومات مفيدة , شبه حقيقية , طريفة . ولكونها خليطاً من المعلومات التاريخية والاسطورية , فأننا عددناها أرجحة متنامية (ديناميكية) متخيلة , تعطي للسرد مرونة جذابة , يدوّر بها بندول الزمن بين الماضي البعيد والماضي القريب وحاضر زمن الروي . اننا نعدُّ هذه الأرجحة ابتكاراً خاصاً بالروائي فيصل عبد الحسن. والمقطع القادم يوضح الظاهرة ولن يحتج لتوضيح أكثر , لنقرأه :
[وكأني أرى أباه صبياً يجادل أباه المهند يرحمه الله عن عدد السلالات الأصيلة المتبقية في الجزيرة من الخيول , فيجيبه :ـ انها عشرون سلالة يا ولدي , وأكثر من ثمانين سلالة مولدة , وكلها تنحدر عن الكيلان والصفلاوي والمعتاقي] ـ الرواية , ص382.
سادساً : خلاصة فلسفة
يروي مسعود الآتي :
[صلينا صلاة الظهر والعصر قصراً وجمعاً , وبعد الصلاة قال سيدي الهفهاف مبتسماً ووجهه يشع بالفرح :ـ هذه آخر صلاة أؤديها يا مسعود , أسألكَ ان تبرء ذمتي وتعفو عني إن كنتُ قد أخطأتُ معكَ يوماً … ولا تنسى .. وذكِّرْ غيركَ بأن الحسين بن علي بن أبي طالب فكرة عبقرية أبدعتها حاجتنا لمثله !! قبل ان يكون بشراً يحيى ويموتٌ ويُنسى !! هو فكرة عظيمة يا مسعود ابتدعها الورع في الاسلام والكرم والتضحية بالنفس والفقه والعلم والشجاعة والأصالة… !! فكرة عن كل شيء جميل … نرجو ان نعيش هذه الفكرة نحن وأحفادنا ومن يأتي بعدنا …
ـ يومي قبل يومك يا ابن الطيبين.
ـ لا يا مسعود ستبقى حيّاً بإذن الله فأمامك مهمة توصيل برجماني هذا الى البصرة … تناولْه مني الآن وضعْهُ في رَحِل جوادكَ !!
أخرج سيدي الهفهاف البرجمان من رَحِله وقدَّمَهُ لي . كان البرجمان الذي تناوبنا الكتابة على طواميره وكل طامور من تلك الطوامير , فرجة حياة , وفيها نحكي ما حدث لنا طوال السنوات الماضية] ـ الرواية , ص453 , ص454
ان القطعة هذه هدف وغاية وفكرة تؤطر معرفتي الرواية والمعلوماتية , وضع الكاتب (فيصل عبد الحسن) عندها جُلَّ حكمة المعرفة والفضيلة الانسانية , التي ارتبطت بالعقيدة الاسلامية , ممثلة بالأبطال الذين استشهدوا من أجل رفعة العدالة الاسلامية في السلطة والادارة وتوزيع الثروة , فضلاً عن انهم وضعوا لنا تراثاً من التضحية التي توضح طريق البناء وتصحيح المستقبل . انني أعُدُّ هذه المقطوعة خلاصة فلسفية للفهم الثوري للإسلام ولكل منهج للرفعة والقيم الانسانية لجميع العقائد وعلى طوال ما امتد التاريخ البشري التواق للمساواة وعدم التمايز. والحق انها ليستْ رسالة فلسفية بقدر كونها : ـ حصيلة لتجربة انسانية عملية موثقة بكتب (السيرة والرجال والخواص) لجميع مؤرخي العصور الوسطى (عربياً وعالمياً) , مثلما اعلنه الكاتب بنهاية الكتاب.
ـ انها خلاصة فنية غير ملزمة بعقيدة بعينها , انما تتسع للتجارب الفنية والتوثيقية على مستوى السياسة والمجتمع.
ـ انها استوعبت الفكر الشيعي النير , ومعظم الأفكار التقدمية , قديمها وحديثها , وكون سطح العمل فكراً شيعياً لا يقلل من قيمتها الفنية والفكرية , فالفكر الشيعي فكر ثري وجبار , ولا علاقة لهذه النتيجة بالاتجاهات الاسلامية الأُخرى , إذ ان الفكر الشيعي وأفكار الاتجهات الأُخرى , كلها ثريّة وعميقة , وفيها ـ لو لم يقم البعض بتحريفها عبر التأويل ـ .. فيها من الثراء والثورية ما يكفي لإصلاح البلاد والعباد.
ـ قد تكون هذه الخلاصة وغيرها لا يتطابقوا تماماً مع الوقائع التاريخية , لكن الحكمة من الرواية يقارب محتوى ثورية الوثائق التاريخية التي أوردها الكاتب على صيغة برجمان (سجل كبير للأحداث) , وصيغة طوامير (فصول متسلسلة زمناً وروياً) , تتقارن الشكل بالكتب والمذكرات واليوميات والشواهد المدونة.
ـ الأبطال في الرواية هم أبطال فكر وجمال حقيقيون , كون وثائقهم ـ أصلاً ـ مأثوراات أدبية , مشهود لها بجمال وسلاسة لغتها ومعلوماتها.
* خلاصة أُخرى
هذه الرواية نظن أنها أول رواية عربية تتجرأ لتحريك قوة استشهاد الحسين (ع) وأبيه واخوته (عليهم السلام) , ومريديه بطريقة (فنية , ثورية) بعيدة عن التهويل والمزايدة او المساجلة , وبحيادية تعطي لمن ان يتبنى إدارة دولة مبرراته ـ على اعوجاجها ـ , ولمن يتبنى فكرة دولة العدالة الخالدة مبرّراته , مع التنويه ـ لمرات عديدة ـ ان يجب التخطيط بمعرفة وفهم وضمير لأي خطوة , سواء بذلك من أراد (براغماتية) ادارة الدولة او أراد العدالة لبناء وتقدم الدولة , أي دولة , لأي من يقودها! .
[1] فيصل عبد الحسن , رواية (الرحلة العجائبية , سيرة الهفهاف بن المهند الراسبي) , دار الصحيفة العربية ـ بغداد , دار العراب ـ دمشق ,2022