حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| حسن الخاقاني : وقفة حب مع الشاعر عبد الوهاب البياتي في معراجه الأرضي .

القصيدة:

تقول أميمة هذا الهوى  لنا في شتاء المنافي رمقْ
نبيذ وخبز هو المشتهى  إلى جسد جاع حتى استدقْ

حسن الخاقاني

فها أنا عارية في الظلام ونهدي به جائعا يلتصق
وها هو في عريه ساحر  يغوص معي ضاربا في العمق
أراني في حضنه وردةً  يعانقني قبل أن أحترق
بتفاح صدري تمرّ يداه وفي باطني عينه تأتلق
يداعبني مثل قيثارة ويحملني نجمة للأفق
تملّكَني وتملّكته فما هو إلا ملاكٌ صدق
وما هو الا عذاب الوجود  وبرق على جسدينا اندلق
على باب دلمون أبصرته وأبصرني ربة للألق
وعاهدته أن نطيل العناق وأن لا نفيق ولا نفترق
وها نحن إثنان في واحد وها أنا في حضنه انزلق

أحبك قالت وراح الصدى   يرددها في احتضار الغسق

ضفائرها اشتعلت في يدي وأدركَها، في العناق الشبق

فقالت: لماذا يموت الربيع إذا كان لي مثل هذا العبق

حديقة صافو، أنا طفلة وأنثى تضاجع نجما خفق

توسّدَني وتوسّدتُه وغبنا معًا في سرير الأفق  
فيا مطر الحب أمطر عليّ                 وبلل جفوني بضوء الشفق

فقلت لها إن هذا البهاء يليق بسلطانتي العاشقة

رأيتك في أور قيثارة، وفي النار مخلوقة خالقة

وفي باب دلمون عرّافة، وسيدة الشهوة الحارقة

فكوني لي البحر والأرخبيل وكوني لي البرق والصاعقة

… وها أنا اعود إلى جنة البياتي واحتراقه بعد عشرين عاما من آخر كتابة لي عنه، أعادني إليه من استثار بي رغبة كامنة لم ينقطع عهدها بالقراءة والرجوع إلى ديوان البياتي كلما ضاقت بعيني مساحة الأرض الشاسعة فأحلق معه في سماوات العشق النقي الطائر على جناح قلب مجنح يخترق حجب الفضاء..

واليوم أريد الوقوف عند واحدة من آخر ما كتب البياتي وقد أيقن بأجراس الرحيل تقرع في سمع روحه الشاعرية الشفيفة فأدرك وجوب الترجل عن صهوة الخيال إلى مرارة الواقع التي طالما شد رجليه في الهرب منها، وأدرك وجوب الركون إلى عالم الأرض، بل الولوج في باطنها بعد أن أمضى السنين هاربا من رمالها المحرقة إلى ضوء السماء الفسيحة حاملا قلبه الخافق بالحب والمرارة والاخفاق والأسى.

أعود اليوم إلى قصيدة عبد الوهاب البياتي التي سمّاها: “المعراج الأرضي” لأقف عند هذا التضاد الدال الذي اعتاده الشاعر في نتاجه الشعري الغزير، وهذه المزاوجة المنتجة بين الخيالي والواقعي، أو بين الأرض والسماء، ومن عليهما وفيهما وما بينهما من تواصل أو انقطاع، ولا بدّ للأنثى من حضور مؤثر في ذاكرة البياتي وفنه فتراه يحضرها لتكون نديما للرجل المهزوم، وقد استعادها من حضن التراث العريق فيأتي باسم: “أميمة” مستدينا إياها من سلفه المخضرم أبي ذؤيب الهذلي وهو يسمع قول عاذلته المختلقة ليفرغ في سمعها المفترض ما تجيش به النفس التي امتلأت أسى ولوعة وقد خسرت زينة الحياة الدنيا إذ ودع فيها خمسة من أبنائه:

أَمِنَ المَنونِ وَريبِها تَتَوَجَّعُ

وَالدَهرُ لَيسَ بِمُعتِبٍ مِن يَجزَعُ

قالَت أُمَيمَةُ ما لِجِسمِكَ شاحِباً

مُنذُ اِبتَذَلتَ وَمِثلُ مالِكَ يَنفَعُ

أَم ما لِجَنبِكَ لا يُلائِمُ مَضجَعاً

إِلّا أَقَضَّ عَلَيكَ ذاكَ المَضجَعُ

 

والبياتي هنا يقف موقف الخسران نفسه، فهو الذي أودع في التراب بعضا من فلذات كبده، وهو الذي استودع باطن الأرض خيرة محبيه، فصار مشدودا إلى التراب أكثر من تحليقه الذي اعتاده في سماء الخيال بعد ما أمضى فيه العمر كله، لذا تراه يقلب فعل القول الصادر من المرأة من الماضي المنقطع: (قالت) إلى الحاضر المستمر: (تقول) ليضع المستقبل تحت طائلته أيضا، ولا يقتصر هذا التحويل على نطاق التوقيت الزمني بل ينطلق إلى التوجيه الدلالي، فمأساة أبي ذؤيب قد وقعت وانتهى أمرها بذلك الفقدان المحدود في زمنه، أما فقدان البياتي فهو وجودي مستمر منذ أن وجد الإنسان في هذه الحياة حتى رحيله النهائي عنها، إنها مأساة وجود لا مأساة فرد.   

ها هو البياتي يعود – إذاً – إلى الجذور التي نبت منها، ليؤكد دورة الحياة التي عادت إلى حيث انطلقت شرارتها الأولى موافقا لفيلسوفه الأثير: فريدريك نيتشه فيستعين بطريقة الشعر البيتي أو العمودي وهو الذي طالما ازدراه وأوقع بدعاته وأعلامه، فكأننا أمام واحدة من قصائد ديوانه الأول: “ملائكة وشياطين” .. وكأننا أمام ذلك الفتى  الذي ما جاوز الدراسة الإعدادية بعد وهو يطرق أبواب الشعر المهيبة بيد مرتجفة، ويجر إلى عتباتها رجلا متعثرة.

لكن البياتي الذي عرك الحياة وعركته، قد امتلأ جرابه بما لذ وطاب من خيرة الرموز الإنسانية، وحاز من الخبرة والقدرة والدراية ما أمكنه التصرف الخبير بها، ومنها الرموز الأنثوية الثرة، وليست الأنثى في شعره إلا ذلك الرمز الحياتي المتجدد، المنبعث من الموت إلى الحياة، المثقل بعبق الحب وحبات العشق التي تسيل من جوانبه، فالأنثى هنا تأتي امتدادا وتكرارا لما عهدناه عنها في جلّ شعره، أنثى ذات محمول رمزي تؤدي وظيفتها الشعرية بتألق، وتستوفي كامل صفاتها الأنثوية وطاقتها الرمزية وقدرتها الفعلية على إغناء الحياة والقصيدة بالإيحاء الدلالي المنفتح على التأويل مع جمال الصياغة والانفتاح على عالم الحلم والخيال الصوفي المحلق في عالم الرمز المجازي ذي الصبغة الروحية العميقة.

تكاد القصيدة أن تمتلئ بعالم متشابك من الرموز المستقاة من أفق ثقافي واسع هو بعض حصيلة رحلة عمر أمضاه البياتي في ميدان القراءة ودروب الحياة الزاحرة بالأحداث الجسام، فالمنافي القارصة بشتائها ولوعة غربتها تحمل وجهي الحقيقة والمجاز إذ عانى البياتي منها ما عانى منذ مطلع شبابه، ثم أمضى جل عمره بعيدا عن الأرض التي ولد فيها، ولكنها يمكن أن تكون دالة أيضا على هذا الكون القاسي الذي وجد الإنسان نفسه مقذوفا فيه، مكرها على العيش من دون خيار، فهو منفى كوني للنفس الإنسانية، وما هذا الشتاء اللاصق به إلا الشعور بافتقاد دفء الحب الإنساني النزيه، فكأنه الجليد الذي يجمد شرايين الحياة فتحتاج إلى شعلة الحب لتوقد العواطف في القلب الجريح..

لا نستطيع قراءة القصيدة ما لم نتسلح بحصيلة ثقافية كبيرة، فهي تستقي من الكتب الدينية كالتوراة والإنجيل حيث النبيذ والخبز المقدسان، وحيث التفاحة والخطيئة والتكفير، ومن عالم الروحانيات حيث التصوف والاندماج الروحي بين الخالق والمخلوق فنرى صور الحلاج، وفريد الدين العطار، والسهروردي، تتراءى من بين سطور القصيدة.

ونعود إلى الحضارات القديمة إلى زمن كلكامش ورحلته في البحث عن عشبة الخلود – تلك الزهرة البيضاء القابعة بين الصخور في أعماق البحر – وخيبته بعد العثور عليها إذ تسرقها الأفعى في أثناء غفوة قصيرة هي رمز الغفلة، أو المسافة الخاطفة بين حياة المرء وموته، تلك الرحلة التي تقوده في بعض رواياتها إلى أرض “دلمون” أو الفردوس المفقود حيث مدينة الآلهة والملوك، أو المدينة الفاضلة التي تخيلها الفلاسفة الطوباويون الحالمون وهي التي تختفي ما إن يراها أحد فهي مدينة عاد أرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، أو جنة عدن كما وصفتها المخيلة التاريخية المشبعة بالحس الأسطوري المهيمن، فهي رحلة الإنسان الباحث عن جدوى وجوده، ولغز مروره الخاطف بين الولادة المتعسرة والموت الأليم، رحلة الخسران والافتقاد المقدر الذي لا سبيل إلى الإمساك بريشة من جناحه الهارب الخداع.

وحيث تقابلنا “صافو” تلك الشاعرة الإغريقية اليونانية القديمة التي اتخذت من العاطفة الجياشة والغرام المتوهج ميدانا لجرأتها التي لم تسبقها إليها امرأة قبلها حتى ارتفع الواصفون بشأنها إلى مصاف الآلهة فهي ربة الإلهام العاشرة.

أما القصيدة من حيث البناء فقد جاءت بصوتين متوازيين هما: صوت الأنثى بكل محمولها الرمزي الرصين، والصوت الذكري المقابل، أو المكمل لثنائية الوجود، وكل يروي مأساته من رؤيته وبلسان حاله، غير أن المفارقة التي يحدثها البياتي تكمن في هذا التنويع الموسيقي والدلالي باختيار بحر قلق كثير الحركات والسكنات هو المتقارب، وفي تنظيم القافية التي استند فيها إلى روي القاف بصوته القلق الحاد المقيد بحركة السكون ليضمن له الاصطدام بحاجز أو مانع لا يمكن اجتيازه، ثم جعل الأبيات الأربعة الأخيرة مخالفة لما درجت عليه القصيدة إذ حرر القاف من قيدها ووضعها بين ألفين دلالة الانفتاح والامتداد اللا نهائي للحياة هما: ألف التأسيس التي سبقت الروي، وألف الاطلاق الشعري التي لحقته، وهذا ما يتيح للقصيدة عبر رنين الروي وموسيقاه ذلك الانفتاح الذي استجد عليها نتيجة لتلك العلاقة المثمرة بين الأنثى والذكر، وكأنّه يضع قارئه في موقف نهائي قائم على الإيمان والتسليم بطاقة الأنثى الخالقة للحياة التي تبدو فارغة، أو خالية من المعنى إن هي غابت عنها، هذه الأنثى التي تزينت بكل ما يمكن أن تقدمه الأسطورة من زينة لها أفادت بكثير من التنوع الدلالي، والخصب الرمزي الذي ما زال يفتح من الأبواب ما يجعلها قابلة لتعدد قرائي، وحدسٍ تأويلي قادر على تعميق الحس الشعري بالحقيقة عبر طريق الخيال، والشعور بواقعة الحب الإنساني العظيم عبر المجاز وغابة الرموز الكثيفة التي اشتبكت فيها أشجار هذه القصيدة الباسقة المكتنزة بكل الثمار الشعرية اليانعة التي تسقط في حضن القارئ المتلهف لتذوّق طعمٍ آخر مختلف عمّا ألفت نفسه في هذه الحياة الفجة القاسية.

وأخيرا أقول رحم الله شاعرنا الكبير عبد الوهاب البياتي الذي ما زال شعره حافلا بكل هذا الجمال الذي لا ينضب أو يحول ، وبكل هذه الروعة الأخاذة التي لا تزول..

                                              حســـــن الخـــاقـــانـــي  25 / آذار / 2023     

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *