حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| أحمد خيري : الكتابة وفضيلة أن نكون اجتماعيين “قراءة في كتاب اعترافات بلا كمامات” .

قد يكرّس المثقّف موهبته لحملِ رسالةٍ ما، أو تمثيلِ وجهة نظرٍ ما، أو موقفٍ ما، وتجسيد ذلك والإفصاح عنه إلى مجتمع ما، وتمثيل ذلك باسم المجتمع. هذا ما قاله إدوارد سعيد في دورِ المثقّفِ، وهو تكريسٌ يجعل الكتابةَ تتجاوزُ

أحمد خيري

قارئاً خاصّاً ومنتمياً إلى استهداف قارئٍ عامٍّ؛ فتتحقّق عبر ذلك فضيلة أن يكون الكاتبُ اجتماعياً فيما يكتب. وهي رغبةُ المثقّف عموماً في أن تكون كتاباته اجتماعية، لا تقفُ عند حدود القارئ الخاصّ. وإذا ما كانت هذه الكتابةُ اعترافاتٍ، يقدّمها الكاتبُ، فإنّها ستوفّر القيمةَ الاجتماعيةَ نفسَهَا، وتصنع وعياً بالممارسات والسّلوكيات والمشكلات الاجتماعية، وتُضيف خدمةً تنويرية – اجتماعية لدى القارئ، رغبة يسعى إليها كاتبُ الاعترافات، كثيراً؛ بأن يبنيَ وعياً بتلك المُمارسات والسّلوكيات والمشكلات التي قد يراها انحرافاً عن النّسق الفطريّ للفردِ ضمن مجتمعه، والسّعي نحو إيقاظِهِ، أو وسيلة تطهيرية من واقعٍ معتمٍ، إلى آخرَ مضيء؛ فالمعتمُ هو تجربة المعتَرِف المأساوية، والمضيء هي الخبرةُ التي تُكسِبُ قارئاً ما وعياً بتلك التّجربة، لم يكنْ حاصلاً من قبلُ؛ فقبل أن يكتبَ أحدٌ عن اضطهاد العبيد ما كان أحدٌ لَيُفكّرَ في أنّهم مضطهدون، بل العبيد أنفسهم لم يكونوا يفكّروا في ذلك، هذا ما قاله الأديب الفرنسيّ سارتر، في تمثيل دور الكاتبِ وفضيلته الاجتماعية؛ فإذا كانت القراءةُ تُتيحُ لنا فهم الحياة، تُحدِّثنا عما كان وعما يكون، وأيضاً عما كان يُمكن أن يكون بتعبير بيلا ماتاس، فإنّ قراءة الاعتراف تكسر حاجزَ الزّمنِ وتُتيح لنا الشّعورَ بالتّجارب الاجتماعية، وتؤدّي رسالتها، بما كان حاصلاً إثر تلك التّجربة أو المُمارسة، وعمّا حصل عنها، وما كان لا بدّ أن يحصلَ، بل قد تكون هذه الاعترافات – بتعبير مصطفى محمود – لحظة صراحةٍ من النّفس قد تشفي من داء عضال، تعجز كلّ الجّبال عن مداواته.

ويقف كتابُ اعترافات بلا كمامات، الصّادر عن دار الرّاوي – 2022، على واحدٍ وتسعين اعترافاً من الواقعِ، في حين أن تسمية الكتاب تتساير مع غاية المؤلّف في الكتابة؛ فالجّرأة التي يفصحُ عنها الكاتبُ عبّاس السلطان، وهو يخطو أولى كلماته، تنويهاً يلتمسُ عبره السّماح من القارئ، في تضمينه لبعضِ القصصِ المثيرة للجدل، والمفردات الجريئة؛ حيث إيصال ما يُريد إيصالَه، على حدّ تعبيره، قد توازي دلالة العنوان – اعترافات بلا كمامات = اعترافات صريحة + جريئة + غير مسكوتة – في التّعبير عن حرّية التّضمين، واستدعاء ما تنوّعَ من تلك الاعترافات، في مواقفها الخاصّة والعامّة، فالقارئ للكتاب لن يجدَ نفسَهُ أمامَ اعترافاتٍ ذاتية لجان جاك روسو يعرض على قارئِهِ إنساناً، بمساوئِهِ ومحاسنه، أو لتولستوي، بل هي اعترافاتٌ يعبّر كاتبها بأّنّها عبارةٌ عن قصص أباحوا بها إلينا من مختلف محافظات العراق… فهي اعترافاتٌ أُخِذَتْ من المجتمعِ وأُعِيدَتْ إليه، وبعبارة أخرى أُخِذَت من أفرادٍ خاضوا تجاربها، وأُعِيْدَتْ إلى المجتمع، لتمارسَ على قارئِها نوعاً من صناعة الوعي، بواقعه الاجتماعيّ وممارسات أفرادِهِ وسلوكياتهم؛ بوصفها اعترافات صادرة عن ممارسات أفرادٍ، ومن ثمّ فإنّها تختزلُ – على الأقلّ – تجربةً إنسانيةً، سواء أكانت تلك التّجربةُ ناجحةً أم غير ناجحة، قد تُسهِمُ معرفتُها في حلِّ مشكلةٍ ما أو تُنبّئ عن حذرٍ ما، قد يترتّب عن خوض تجربة مماثلة لتجربة ذلك الاعتراف، وهي بذلك تقتربُ في نوعيتها من اعترافات عشاق لمصطفى محمود، إذ يقول في توصيفه للكتاب بأنّه كتابٌ منكم وإليكم ولقاء طويل تلتقون فيه بكلّ مَن عشق وأحبّ وتألم. تلتقون بأنفسكم.. برسائلكم.. وأوراقكم وحروفكم.

ومن حيث الإجراء والآلية فالكاتبُ يستتبعُ ما يُدلي به من اعترافاتٍ وقفةً يتواصلُ عبرها – بشكل من الأشكال – مع مشكلةِ ذلك الاعتراف؛ فيمارس خلال تلك الوَقَفَات تقنيات الإلزام والتّوجيه والإرشاد والإصلاح، وهذا ما برز بوضوحٍ عبر توظيفِ الكاتب صيغَ الأمرِ، كقوله وهو يقفُ على الاعتراف (1) (عليكِ محاسبة والديك قبل أخيك)، أو ممارسة دور التّذكير والتأنيب كما في وقفة الاعتراف (4) (أنتِ فتحت الباب له واعطيته خارطتك بعد أن تغلغل في أرجائك وأراد الوصول إلى مفتاح شرفك)، أو السّخرية الهادفة ضدّ المثقف، عبر مخالفة المقال للمقام، كما في وقفة الاعتراف (19) (عليك بعمل أطروحة دكتوراه بعنوان “المقومات التي لا تمتلكها خطيبتي”)، أو ممارسة التّحذير والتّوبيخ كما في وقفة الاعتراف (17) (لا تعمّي تجربتك المحبطة علينا كون أن هذا الكتاب تقرأه الكثير من الفتيات المقبلات على الزواج، التجارب مختلفة من شخص إلى آخر).

ويوزّع الكاتبُ اعترافاتَهُ في ناحيتين، اعترافاتٌ تمّ استدعاؤها من الواقعِ، عبر شخصياته، واعترافاتٌ استدعتها ذهنية الكاتب، ورؤيته عن الواقع، وكلا النّاحيتين تقدّم تصوّراً وتجربة، تنخفضُ حدّتها تارةً وترتفع تارةً أخرى، أو تتضخّم تجربة الاعترافِ والمُمارسة تارة وتضعف تارة أخرى، أو تُمارس تأثيرهَا العاطفيّ مرةً وقسوتها مرةً أخرى، وقد انسحبَ ذلك التّأثيرُ على الكاتب نفسه، ففضحَ دموعَهُ في وقفته (9) بالقول (وأنا أكتب الإجابة لهذا الاعتراف امتزجت أناملي ومفاتيح الكيبورد بدموعي، كيف الحال بكم؟)، وجاء ذلك استجابة لحدّة الاعتراف ومأساويته المرتبطة بمظاهرات أكتوبر في العراق، التي راح ضحيّتها أولادٌ خسروا آباءَهم! كما عبّرت تلك الاعترافات عن بعض الممارسات المسكوتة، والتي قد يقلّ توقّع حدوثها اجتماعياً، كما في الاعتراف (61) الذي يتضمّن بَوْح المعتَرِف/ الفتاة بممارسةٍ فاقدة للقيمة الاجتماعية – الأخلاقية مع أمّها، أو الاعتراف (62) الذي يعبّر عن نوعية أخرى من الممارسة السّلبية. أمّا الاعترافات التي استدعتها ذهنيةُ الكاتبِ فإنّها لا تخلو من هدفٍ، وغاية، وتجربة يُريدُ الكاتبُ إرسالَهَا للمجتمع، كما في الاعتراف (45) الذي يتضمّن توصيفاً لشيخ العشيرة في المجتمع العراقيّ، والاعتراف (55) الذي يصوّرُ موقفاً ضدّ رجال الشرطة، يهدف إلى التّوعية بمسؤولية التّعامل الأخلاقيّ مع الأفراد. فما قدّمه الكاتب، في اعترافاته، قد يبثّ الوعي لدى القارئ، وتحديداً العراقيّ؛ بجعله أمام كمٍّ لا بأس به من التّجارب، الفاشلة والنّاجحة، يتوخى خلالها الحذر من الواقع ومنزلقاته، وهذه هي رغبة الكاتب الأولى التي أفصح عنها في مقدّمة كتابه بالقول: لست مصلحاً اجتماعياً ولا داعية إسلامية ولا راهباً مسيحياً… فقط أنوهكم قبل أن تغرسوا بوحل التّعاسة؛ ليحقق بهذه الكتابة فضيلة أن يكون اجتماعياً.

وإذا كان ما يجب إثارته حول عمل الكاتب، أخيراً، فهو أسلوبه في الكتابة وآليته المعتَمَدة؛ فالوقفة التي يُثيرها الكاتب عباس السلطان بعدَ كلّ اعترافٍ – رغم إيجابيتها – تركت مجموعةً من المؤشّرات، منها أنّ الكاتبَ يستعمل لغة الانتقاد، وهذا ما سيؤثّر سلباً على تلقي القارئ للمكتوب واستجابته له، فضلاً عن ذلك فإنّها تتعارض مع ما صرّح به الكاتب من أنّه ليس داعيةً أو مصلحاً أو راهباً، فيقول في وقفته عن الاعتراف (4) (ما أكثر العراقيين المزدوجين الشخصية، وأنت أولهم)، ومنها أنّ هذه الوقفة برزت خلالها ظاهرة التّحيز، فالكاتب في إحدى المواقف ينتقدُ فتاةً عمّت تجربتَهَا على الشّباب، فيرفض الكاتب ذلك، في حين يخلو الاعتراف (76) من وقفة للكاتب، رغم أنّ المعتَرِف صرّح بالقول (لا أثق ولا أحب أية امرأة)! وأدّت بعض الوَقَفَات إلى شخصنة الاعتراف، وتركه في مساحة مغلقة، لا تتجاوز الحوار بين الكاتب والمعتَرِف، كما في الاعتراف (9)، ومن ثمّ فعملُ الكاتبِ سيوفرُ على القارئ تواصلاً أكبر مع المكتوب لو تمّ التّركيز على الاعتراف وحده وصياغته بطريقة موسّعة، دون اعتماد الوقفة التي حدّت من العناية بالاعتراف، وقلّلت من دائرة العموم في بعض تلك الاعترافات، وأظهرتِ البعد الأيديولوجي للكاتب في اعترافاته، وهذا ما لا يراد أحياناً، فضلاً عن ذلك فالكاتب قد استبعد، ما زاد عن خمسين اعترافاً، دون وقفة، يرصد بها الإجابة عن تلك الاعترافات. أما أسلوب الكاتب فعلى الرّغم من أنّ الاعترافات صِيْغَتْ بلغة مؤدّية فقد برزت خلالها سمة التّكثيف والانتقائية، وهذا ما لا تُريدُهُ الاعترافاتُ عموماً؛ لأنّ ذلك سيبعث إلى القسرية وعدم الواقعية وإثارة التّشكيك، كالاعتراض على طريقة الحوار في الاعتراف (7) حيث تقول فتاة لحبيبها الحرامي ناصحةً إياه (ابحث عن عمل إيراده حلال لنجمع تكاليف زواجنا) فأجاب (لا استطيع، إنه عملي المفضل. لا أريد تركه…). أو التّكثيف لأجل عدم إثارة المسكوت، ممّا أدّى ذلك إلى جعل الخطاب حواراً مقنّعاً بين الكاتب والمعتَرِف، كما في الاعتراف (27) حيث يقول المعترِف/ فتاة (تم خطبتي من شاب من أتباع شخصية معروفة في العراق…)! فيستفهم الكاتب في وقفته: (حين يأمره ذلك الرجل الذي ينتمي إليه بترك خطيبته، هل سيبقى معكِ؟)، وخلافاً لما سبق فقد تُثيرُ إحدى الاعترافات أسئلة التّعارض لا الاعتراض، ممّا يستدعي إخضاعها للمساءَلة كما في الاعتراف (3) حيث الفتاة الأرملة التي أحبّت مدير عملها، فهي على حدّ تعبيرها لم تخض تجربة حبّ؛ كونها مؤمنة !!.. تصلّي وتصوم وتعرف الحلال من الحرام، وهو يخاف الله، ولكن اتضح أنّه لا يعرف الله، حيث بعد حبها له جاء يستغلها لإشباع رغباته، قامت بتوقيع عقد مضمونه الزواج المنقطع، ثمّ تصرّح بأنّها لا تعرف ما هو هذا الزواج! استمرت معه بذلك الزّواج الشنيع بتعبيرها، لم تخرج معه لأي مكان! مارست الجنس في الهاتف فقط! فالاعتراف، هنا، بفعل التّناقضات التي يحملها خطاب الفتاة، أقرب ما يكون إلى الوهم منه إلى الحقيقة الواقعية. والسّؤال: هل استطاعت هذه الاعترافات التّعبير عن مضمونها ونقل غاية كاتبها؟ والإجابة عن ذلك تُترَكُ للقارئ.

 

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *