حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| مها عادل العزي : قبل ان تبرد القهوة .

-الخامسة فجرا بتوقيت مكان قصي خلف البحار والمحيطات-

اشعر بانهاك شديد.. او انها الحمى تداهمني مرة أخرى.. اوصدت جميع الشبابيك بإحكام الا ان ذلك لم يمنع الريح من اصدار صوت صفير لازمني طوال الليل.. عصف اختلط بأحلام ورؤى مشوشة، لا اذكر أيا منها، سوى صورة امرأة .. امرأة كانت هي الماء والنار.

يرن الهاتف منبها .. انه يوم جديد من العمل المضني، انهض متثاقلا.. اطل من النافذة .. المدينة لا تزال نائمة.. تغرق في ضباب شفيف.. من بعيد استطيع ان أميز النهر بتعرجاته العديدة، ليضفي على المكان مسحة تذكرني بماض قديم فيه عبق من نهر دجلة، حيث الذكريات والاحلام.. أعود الى الفراش .. أغمض عينّي وأبقى في السرير.

النظر الى الداخل قاس ٍ جدا .. تغوص عيناي في الظلام.. كيف تجرأت على وداع هذه المرأة التي تحمل رائحة النهر، وكيف سمحت لنفسي بان أقول لها باني سألغي كل شيء، وإذا ما فعلت، فكيف امحو الذكريات؟ ان الامر يحتاج الى الكثير من النكران!!

هذه المرأة انتظرتني يوما في احدى المطارات الطارئة التي مررت بها، اهديتها حينها عطرا برائحة خشب الورد، رائحة لطالما اعادتني الى خليط من ذكريات مدينة قديمة.. ضحكت وقالت بنبرة تنم عن الحزن، ان العطر يفرق المحبين.. بقيت صامتًا، لكنني لم أكُن أعمى، رأيت فيها امرأة صوفية تعيدني لإصلي.. امرأة قادرة ان تخبر الله عني .. امرأة لن أتمكن من الوصول اليها.

لقد سمحت لنفسي ان أشارك صديقي الوحيد في بلاد الغربة هذه، هذا الهم، وأستطيع ان أقول أنى شاركت هذا الرجل الكثير من الاسرار حول هذه المرأة العنيدة، وكيف اني سمحت لتسلطي بان يكسر عنادها، وان يكسر معه شيئا من نفسي، وبعد اليوم لا مجال للتراجع. فكل شيء انتهى.

لا مجال للتفكير فالعمل الذي ينتظرني قادر على محو كل شيء، فاربع وعشرون ساعة من التفكير في بحوث معقدة، كفيلة بان تنسيني هذه المرأة، وان تنسيني ما قلته لها بان حياتي لا تشبه حياتها، وان اقدارنا اختلفت. وان تنسيني قسوتي، وبأني بعد اليوم لن انتظر أيا من رسائلها المجنونة، كل ما اعرفه انها تفتقدني لكنها لن تبحث عني ، وانها ستظل كما هي، بصمتها القاتل.

انا لست بخير.. لكن المجد هو حياة الرجل الثانية.. والامر يستحق ان اضحي من اجله بهذه المرأة.. ومركز الأرض الذي كنت فيه، هو الان الطرف القصي منها .. الجحيم البعيد الذي أهرب منه.. وهي جزء من الجحيم.. ثم لا مجال للإحساس القاتل بتأنيب الضمير.

…………………..

 

-الواحدة ظهرا بتوقيت حي منسي في بغداد- 

هذه المدينة المجنونة المتطرفة.. والتي تحمل جميع المتناقضات، كل شيء فيها يبدو غريبا ومُنهكا الى حد اللعنة.

بعد جولة صغيرة في ازقتها القديمة، قررت ان اعود الى البيت، تتسلل نسمات باردة من الشباك المفتوح. نسمات تحفز على التفكير ..انها نسمات الشتاء الأخيرة، تأتي نداءات باعة جوالين .. تختلط باصوات غير مفهومة تنبعث من بعيد، ربما كانت سيارات اسعاف او عربات تكتك رعناء.. المدينة التي كانت رائحتها تشبه خشب الورد.. كم تغيرت!.

بعد كل تلك السنوات قررت أخيرا ان اعتذر لنفسي، نعم أنا المرأة التي اسكن في مركز الأرض، او كما اسماه يوما (الجحيم)، قررت ان اعترف لنفسي كم كنت واهمة، كيف آمنت بهذا الرجل الذي استطاع بكبسة زر ان يرسل لي تلك الرسالة القاسية وكيف انه سمح لنفسه بان يكون ألهاً عندما كتب (لقد قضي الامر ولا بد من الوداع) .. هل كان تضرعه الى الله كافيا للتكفير عن وعوده!.. لطالما اعتبرت الحب وعدا ، والوعد دين، كيف استطاع تجاوز هذا الدين الثقيل، وانا التي كنت احسبه ارق على قلبي مني، فلطالما امنت ان العشق هو ترك الاختيار.. 

في مثل هذا اليوم وقبل سنوات التقينا.. كان كل شيء يبدو وكأنه مسخر للقاء لا يشبه غيره.. المكان والزمان خرجا عن المألوف وبديا خارج أي حساب حسي.

التقيته في المطار ..وكان اللقاء حدثا تجسد في امرأة ورجل هما محور الكون.

لم تكن الشمس قد اشرقت بعد، جلسنا قرب نافذة المطار الكبيرة، ونحن نشهد شروقها المهيب، وبقينا نرقب السماء الممتدة امامنا وكيف ان الغيوم لبدت لونها الى رمادي في بعض اجزائها المترامية، فكرت بان اللحظة من العمق ما يكفي لتذكرها طويلا.

كان كلانا مستعد للسفر الى وجهة مغايرة، كان لقاء غريبا.. لا اعرف ان كان فرصة للقاء ام انه تمهيد للوداع.

في الدقائق الأخيرة من عمر اللقاء القصير، كانت عيناه تائهتين.. بدا مرتبكا، وفضل الصمت أخيرا، لامعنى من البقاء في محطة كلانا يعرف انها طارئة ومقتطعة من الزمن.. وفي النهاية لابد للواقع ان يفرض نفسه بقرار الوداع الذي تأجل الى حين. 

اليوم اصبح كل ذلك من الماضي، لكن الماضي لا يتركنا، فهو يحفر الندوب في ارواحنا، أتمنى ان اساله الان كيف انت من دوني انا؟  .. هل تنكر ان الحب هو ما حدث بيننا.

………………………

 

-الساعة تتبدد في الزمان والمكان-

صديقي الرئيس، رجل صعب ولن يسمح لي بالتدخل، كنت اعلم بتفاصيل قصته مع تلك المرأة، ومع انه حذرني من التدخل، فقد رضيت لنفسي بان أكون وسيطا مجهولا بينهما.. تبادلت معها رسائل معدودات، وبقي تواصلنا سرا بيننا، فالطبع الحازم لصديقي يقطع تماما أي وساطة من قبلي.

أصاب بالدهشة وانا اراه كيف يتحول من رجل ملأ وقته بالبحوث العلمية الجافة الى رجل لا يشبهه.. مستعد ان يتكلم طيلة الليل عن امرأة كانت تعبث بضوء قلبه.. امرأة بكت كثيرا عندما مرض بالكورونا، وطلبت منه في ساعة قهر ان لا يموت.

في اخر رسالة لها، بعثت تبحث عنه، وتسالني سر انقطاعه، اجبتها برسالة جافة انه بخير، واني لن أستطيع قول أكثر من ذلك، شعرت باني تورطت في علاقة معقدة بين رجل صعب المراس كان الإحساس بالذنب يقتله، وامرأة عنيدة ترفض ان تسلم بالبعد.

في الصباح رأيت صديقي الرئيس، كانت عيناه محمرتين، بدا أكثر هدوءا، تعامل مع الجميع بدون اكتراث، وباقل قدر من الحماس، كان يجيب باقتضاب، وحين قدم له الساعي القهوة نسى ان يشربها.

يرن هاتفه.. انها امرأة اخرى تتفق معه على موعد طارئ..  يجيبها بصوت ابح.. سأنتظرك الليلة.

انظر اليه، كان وجهه جامدا .. خلت ملامحه من أي تعبير، اقتربت منه ..سألته ان كان بخير.. امتدت يده الى القهوة الباردة وأجابني بشرود: انها الحياة.. وستستمر هكذا. 

 
تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| حاتم جعفر :  أهي خفقة قلب؟.

 ﻷمر طارئ إضطر صاحب البيت أن يترك زائره وحيدا وبشكل مؤقت. الضيف وفي مثل هكذا …

| د. قصي الشيخ عسكر : قارئة الشواهد “قصة لمحة”.

لم تكن تحترف الفنجنان من قبل… كانت تصحب أيّ زبون إلى مقبرة المدينة  تستعلم منه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *