| د. شعبان عبد الحكيم محمد : النص الطازج والقصة القصيرة الشعر قراءة فى مجموعة ” حواس زهرة نائمة ” لسامية غشير.

صدر للدكتورة سامية غشير أول مجموعاتها القصصية ” حواس زهرة نائمة ” عن دار النشر المكتبة العربية للنشر والتوزيع بجمهورية مصر العربية ،   وهذه المجموعة لها تفردها فى الأداء

شعبان عبد الحكيم محمد

الفنى الجميل ، وتنبىء بمستقبل باهر لكاتبة واعدة ، كاتبة تجدل الشعر بالنثر فى صورة فائقة مدهشة ، والقصة القصيرة الشعر أحد أنواع التجريب فى فن القصة القصيرة ، ولا يقصد بالقصة القصيرة الشعر اعتماد المبدع على لغة الشعر التى تعتمد على التشكيل المجازى ، والاستفادة من طاقات اللغة فقط ، ولكن يقصد بالقصة القصيرة الشعر القصة الاعتماد على تقنيات الشعر مندمجة بتقنيات السرد فى ربقة فنية متناغمة ، ففى هذه القصة نجد التلميح إلى الموقف ، لا السرد له بدقة ، ولا نجد الاهتمام بالسرد بالصورة المحكمة المقنعة بقدر الإيحاء بحالة نفسية ما ، ولا نجد الكاتب يهتم بمنطقية الأحداث بقدر الولوج إلى أعماق النفس للتعبير عن خلجاتها وأنينها ، بعيدًا عن التصريح والتقرير ، ناهيك عن القدرة الفائقة فى استخدام اللغة فى أرقى مستوياتها ، حتى أن أحدهم اختزل الأدب بأنه لغة المجاز …ولعلنا من عناوين قصصص المجموعة نلمح هذا الملمح الفنى ، فالمجموعة مكونة من أربع عشرة قصة هى  : حواس زهرة نائمة ،  موعد الحبّ مع المطر ،  همس الحرير ،  ستائر غراميّة ،  خريف الذّكريات ،  حلم باريسي ،  حكاية اللّيل ،  أشواق تنزف في صمت ،  أحلام تنوح في ضبابيّة النجع ، أوراق من ذاكرة الحياة  ، حروف الظّل ، رسائل الشّوق ، مدينة الأشباح ، حلم الفراشات.

وقد أشار إلى هذا الملمح الناقد العراقى الأستاذ ” عامر الساعدى ” وعقب على تقديمه بقوله ” تلك العناوين وحدها قادرة على صنع نص شعري ، لأن العنونة وضعتنا تحت طائلة الاختيار الأصحّ، لوجود حسّ شعري فيها، ثمّ خلق الجمال  “

من البداية ومن عنوان القصة الأولى ” حواس زهرة نائمة “ نجد ملامح القصة القصيرة الشعر ، فالكاتبة لا تسرد لنا أحداثا بطريقة محكمة ، حيث مراعاة التسلسل فى أحداثها ، ومنطقيتها ، وإقناعها الواقعى ، بقدر ما تتجول فى أعماق نفسها ، إنها تصور لنا مشاعر الألم ،أو بتعبيرها ” الوجع ” وجع الأنثى الذى كانت تحلم بحياة زوجية هادئة جميلة ، تستمتع بالحياة مع زوجها ، عاطفيا وروحيا ، وجنسيا عبرت عن هذه المشاعر بأسلوب يوحى ولا يقرر ، أسلوب هامس ، فى قولها ” وأنشر متاع غواياتي الأنثويّة ” ولكن لعبة القدر حالت دون ذلك ، لم نعرف ذلك من سرد مباشر لأحداث ، ولكن من تلميحها بذلك ” سلب منّي زوجي بهيج الأمنيات، تركني على أرصفة القهر ، أعزف أوتار عطر تنهداتي الصّماء ” إنها تصور مشاعر أنثى نابضة بالحياة ، فالكاتبة لا تروى أحداثا ، بقدر ما تصور مشاعر بطلة القصة ، ولا ترسم لنا ملامح الشخصيات بقدر ما تصور عالمها الداخلى ، نتيجة احتكاكها بالواقع ، ولا تركز على منطقية سير الأحداث ، بقدر التلميح إليها فى لغة شفيفة رقيقة ، تعتمد على المجاز ، الذى يعيد تشكيل المعجم اللغوى …وهناك ملمح فنى فى قصص الكاتبة القصيرة الشعر ،أنها ترتبط بجذور الواقع ، ولكن لا تحاكيه المحاكاة الفوتوغرافية ، فعمر يخون حبيبته ، ولكن الكاتبة لا تعبر عن هذه الخيابة بأسلوب مباشر ، ولكن من خلال هذا الإيحاء ” كلّ يوم يأتيني ساكرا يفوح بأريج العطور الأنثويّة، وبقايا الكرز الأحمر يشرق من قميصه، ويأتيني حاملًا في جسده درن العهر…”  فالكاتبة لم تسرد عن الخيابة وبأسلوب رافض (كأنثى يدفعها حمية النوع )  ، ولكنها صورت هيئته عند العودة ، ليكون لهذه الصورة الواقع الأكثر تأثيرا فى النفوس عن السرد المباشر .

مأساة امرأة ظلمها مجتمع بانحلال أخلاقه ( تجسد هذا فى سلوكيات عمر زوجها ) وأفكاره المتخلفة التى أقرَّها العُرْف ( فِكْر الأم : طلاق المرأة العاقر ) فالمرأة ولدت للإنجاب ، لا لسعادة زوجها ، ورسم لحظات الحب والجمال فى حياته ، وامتدادًا لهذه الرؤية لعرف المجتمع أنهم يحملون المرأة – دائما – مسئولية عدم الإنجاب ، ناسين أن العيب قد يكون من الرجل ، وهذا ما حدث بالفعل بعد طلاق البطلة ” نضال ” وزواجها من ” جمال ” أنجبت بنتا جميلة أسمياها ” هبة الرحمن ”

وتبدو روح الكاتبة الشفافة فى معالجة قضاياها باللجوء إلى الله ، وانتظار الفرج بعد العسر ” ، فاحتمت بأحد المساجد واستطاعت من خلال حضورها الدّروس الدّينيّة أن تربّي نفسها على الصّبر والتجلّد وهي تسمع النّصائح الدّينيّة للإمام “إنّ بعد العسر يسرا، إنّ بعد العسر يسرا.”

ولعلنا نلاحظ هنا انتقال ضمير الروى من المتكلم إلى الغائب ( هو ) لتروى الكاتب على لسان الراوى بحرية عن بطلتها ” نضال ” وترسخ مبدأ المصداقية الفنية ، فلا تجعلها تروى عن نفسها كما بدأت القصة ، ولعلنا نلاحظ – أيضا – اهتمام الكاتبة بأسماء أبطالها فغالبا ما يتوافق الاسم مع دلالة الشخصية ، فالبطلة اسمها ( نضال ) وفى القصة تحملت كثيرا من المتاعب ، والوجع على حد تعبيرها ، وزوجها الأول ” عمر ” هذا الاسم يعبر عن أمل نضال فى حياة عامرة جميلة بعد الزواج  ، عبرت عن هذا فى قولها ” تزّوجت وكلّي أمل في أن أعيش ترف الهناءات …  وأخيط من وهج فرحي أعشاشا من ياسمين زهر البهجة  ”

واسم زوجها الثانى ” جمال ” يتماشى مع دلالة الأحداث ، فقد حقق لها جمال الحياة وروعتها ، والطفلة ” هبة الرحمن ” فالأولاد هبة من الله ، و هذه الطفلة هنا جاءت بعد طول انتظار ، وتجاوز عقر صاحبها فى الزيجة الأولى .

ولكن الكاتبة تعود وتنسج صفحة ثانية من صفحات ” الوجع ” الذى أحاط بنضال ، يسافر زوجها إلى أمريكا ، ويموت فى أحداث سبتمبر ، وإن يؤخذ على الكاتبة ، رغم إجادتها فى تصوير صلابة نضال جعلتها تنتحر فى النهائية ، قائلة على لسان الراوى  ” اشتهت الاحتراق وهي تئن وسط كومة من الأشواك التي نبتت في شموخ، تعالت ضحكاتها وهي تعانق الأنين، وصرخت بأعلى صوتها: الآن أنا آتية يا “جمال”.   

ففكرة الانتحار غير مقبولة ، هذه الفكرة التى سيطرت على الكاتبة فى بعض قصص هذه المجموعة ، وفكرة الانتحار فى هذه القصة تأتى متناقضة مع ملامح شخصية نضال كما صورتها الكاتبة فى هذه القصة ،  فهى تلجأ إلى الله فى المحن ، ناهيك عن رزق الله لها بطفلة جميلة هى أمل الغد ، وتحتاج إلى من يرعاها ، لا من يغرس فى قلبها سيمفونية حزن إلى آخر الأمد ، بعد فقدها أبيها وأمها .

وتكاد السمات الفنية لهذه القصة تنسحب على كثير من قصص هذه المجموعة ، والتى ذكرناها ،  الحكى بطريقة طازجة ، لا الأحداث المنطقية التى يراعى فيها المنطقية والتسلسل ، ورسم ملامح الشخصية ، كما يتماشى مع رؤية الكاتب ، فيصف الطيب بالملائكة والمخطىء بالشيطان … ولا نجد انتزاع القصة من مجرى الحياة … دون نسج الخيال لجزئياتها …إلخ

وهذه الملامح  نجدها فى قصة  ” موعد الحبّ مع المطر ”  لنجد النص الطازج ، لا النص الذى سبقت معالجة فكرته ، أو نقرأ خاتمته من بدايته ، وفى ظنى أن الكاتبة تمثلت خيوطها بعدما قرأت قصيدة أنشودة المطر لبدر شاكر السياب ، وجاءت بتضمين من هذه القصيدة فى مستهل القصيدة :

  أتعلمين أيّ حزن يبعث المطر؟

وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضيّاع؟  ….  بدر شاكر السّياب

تتخيل الكاتب قصة حب جميلة ، تحت زخات المطر ، وتبدأ قصصها كالعادة بوصف شاعرى شفيف ، يسافر فى أعماقنا وهجا إبداعيا جميلا ” هو المطر الشّفيف يأتينا مرتشفًا بقبل السّناء، ليمسح على شغاف تضاريسنا آثارًا من وهج قرمزي ، يتلوّن في متاع ليمنح الكون قرنفل الأحلام الزمرديّة ”

ويأتى الحكى هنا على لسان السارد بضمير الغائب عن قصة حب ” لؤى ” تحت زخات المطر ” لؤي ” يقف على عتبات الطّلوع، يمدّ يديه في انحناء لقطرات المطر التي تصببت بنفسجًا مترقرقًا في سماوات الرّوح…. لقد أخذ الفتى يقصّ على نفسه حكاية حبّه المجنونة مع أروى تلك الفتاة المصنوعة من المطر حيث أحبّها في يوم ممطر، وكان المطر مؤلف قصّة حبّهما ومخرجها، آه من تلك الذكريات… آه من ذلك الحبّ الجارف ” يصادف فتاته الجميلة تحت زخات المطر ، يراها كئيبة خائفة ، ويسترها بمطريته وقد كان ذلك بداية الحبّ .

استجمع ذلك العاشق الولهان شجاعته وقال لها: لماذا أنت كئيبة ألم يعجبك قدوم المطر؟ أخذت الفتاة مسرعة في دربها لا تدري بالضّبط ماذا قال ذلك الفتى ولا تعرف من يكون ، تبعها مهرولّا وكأنّ الحبّ ناداه هذا موعد حبّك هذا عنوان سعادتك أجابته بهدوء من تكون أنت؟…هكذا أخذ لؤى فى تذكر قصة حبه الأولى مع ” أروى ” هذه القصة التى نسج أحداثها المطر ، كان هناك هاجس فى أعماقه ينبئه بأن قصة حبه ستبدأ من هذا الشارع ، وقد كان ينسج حلمه الجميل بهذه الفتاة التى برزت فى مكان وزمان غير معلن عنه وغير متوقع ” تحت زخات المطر ” …وعندما اقترب منها وكلمها عن النشوة التى تغمره ، من المطر صانع القصص الهولامية التى تدغدغ المشاعر وتلهب الأحاسيس … شكت له حزنها وكآبتها لافتقادها محبوبه ” أيهم ” هذا الحب الذى مات تحت  المطر …وتهتز مشاعر الفتاة لرحلة القدر بحب آخر ومع لؤى …. لتعيش تجربة جديدة مع محبوب جديد …” لقد كرهت المطر لأنّه أخذ منّي بهجة روحي حبيبي “أيهم” في يوم ماطر…لكن الآن فتحت ورقات جديدة في تواريخ حياتي، تواريخَ مغروسة بهدير المطر الذّي يسكن تجاويفي ويتغلغل كحدائق سندس التألق، وكياسمين الألق ”

فالمطر الذى يبعث النشوة فى الحياة ، فتزهر وتخضر ، هو الذى يبعث فى النفوس شعورًا جديدًا جميلًا ، لبداية يوم جديد وحياة جديدة ، والحياة لا بد أن تُعَاش ، وبنبض جديد ، وماء جديد يسقى القلوب ، فترعرع زهورا ورياحين …. هذه القصة المنسوجة من وجدان الكاتبة ومن تلافيف خيالها ، ترتبط بالواقع ن ولكنها فى صورة شعرية ، المطر رمز الطهارة والنقاء ، تطهرت أروى من احزانها ن المطر رمز النماء والخصب ، فتخصب فى قلبها حب لؤى بعد افتقادها لأيهم محبوبها الأول ، وسنة الحياة أن يكون هناك موات وبعث من جديد  ، التربة تتيبس ويأتى المطر فينعشها بالماء المترع فتحيا ، وتنبت الشجر والحياة ، كذلك القلوب ربما يتوقف نبضها بالحب فترة ، ولكنها تعود لتزهر من جديد حبا ونضارة وجمالا .

على هذه الوتيرة نجد الرومانسية الدافئة ، والكوكتيل الفنى الجميل من الشعر والسرد ، واختلاق الأحداث التى ترتع فى خيال الكاتبة لتنسج لنا النص الطازج لا النص المعلب الذى نقرأه قبل بداية تحققه فنيا  ، ففى ” خريف الذكريات  ” تبدأ القصة بالسرد عن ألم الذكريات … فى أسلوب شاعرى … يتغلغل داخل النفس ”  جاء الرّحيل يقطف آخر أوراقه وبين فواصل الألم بثّت تفاصيل الذّكريات، تأمّل ذلك المكان الذّي كان يعجّ بمسافري الجوى الجميل ، وتلك الكراسي التي كانت شاهدةً على ميلاد تراتيل الحبّ المجنونة وشظايا الأوراق المرميّة على مسافات جنون اللّهفة والنّشوة المغامرة، تأمّل قليلا تلك الكراسي الموشومة بذكريات من رحلوا فأضحوا سرابا يعانق غفوة الاحتراق ”

في ذلك المكان نمت قصّة حبّ بريئة بين “هيفاء”  و” ليث”، قصّة حبّ شهدت عليها خفقات اللّقاءات ” وبعدها يغادر ليث المكان لتحقيق حلمه … نجد هيفاء تناجى الأصيل وتطلب منه  فى عنفوان جريء غموض فيض السّحر: أيّها الأصيل الغاوي، هل تسمح لي أن أكون عاشقتك ورفيقتك؟…. ويتواصل الحكى بالصورة الرومانسية بين هيفاء والأصيل ، ويتجاوب الأصيل معها ” ابتسم الأصيل وتصاعدت صرخات مواويله تعمّ المكان: يا بهجة السّحر، أنا سعيد برفقتك، سأهِبك أريج روحي، ذكرياتي وبساتين البيلسان والسندس والياسمين سأرسم كرزا أحمرا على شفاهك، ورونقا متدلّلا في جداول عيونك ، ونكتب معًا على رذاذ الفرح المتجلّي مشاهدا من بذخ الشّوق… آه كم أنا منتشي بلقاء فاتنة اللّقاءات، وساحرة الأقدار….

مرّت اللّحظات تغازل غروب الهروب، وتثاقلت الخطوات أمام معابر هواجس الخطوب، و عندما رجع  “ليث” العاشق جاء مهرولا يباغت الوقت والمكان لعلّه يحظى بفرصة النزوح الأخيرة إلى مرافئ حلمه، حملق في ملامح المكان فوجده معربدا، تائها في دروب الكوابيس، فتقدّم إليه سائلا: أين هي عاشقة المساء؟ أين هي هيفاء الحكايات؟ أين هي؟

سمع صدى آتيا من بعيد، فوقف متأمّلا خطواته، فتلاقحت أسئلة النهايات وخيالات الذّكريات.

– لقد رحلت… لقد رحلت… لقد رحلت….

هيفاء… هيفاء… أين هيفاء؟ وامتطى دروب الغروب، فاتحا كفيه للرّحيل حاملًا كؤوس الجراحات والهواجس وعباءات النّهايات، سامعًا آخر قصيدة ردّدها الصّدى في تجاويف المدى.

أمام تيه السؤال

تنجلي نشوة الرّحيل

غبار حكايات النّهاية

فالكاتبة تعبر عن حالة رومانسية حالمة …. عندما نفتقد من نحب ، نبحث عن أى صفاء يضاهى هذا الصفاء … ونناجى الكون والحياة لتشاركنا مشاعرنا الندية ، ونعيش هذا الصفاء والألق …الذى قد يقضى علينا ذات ، إنها مشاعر يصعب التعبير عنها وتواجدها لذا صارت محالا ..وكان الموت مفرا عن ضيق النفس من عدم تحمل عذابات افتقادها واستحالة تحقيقها .

مناجاة الكون والالتحام بالطبيعة نجده فى قصة ” همس الحرير “ حيث تسرد برومانسية عن أسرة محمد ، هذه الأسرة التى تتمتع بطيب ذكراها واخلاقياتها الراقية ، فسرى بين الناس صيتها ، وهذه الأسرة مكونة من ” محمد ” وزوجته” عائشة” وأبناؤه “جهاد”، “ريماس”، “رهف”.

محمد يرتبط بأرضه ارتباطا روحيا كبيرا ، حتى أنه كان يخاطبها فى غنج : صباح الخير يا حبيبتى ، تزوج جهاد من فتاة من القرية اسمها “أريج ” وعاش معها سعيدًا ، بعد حفل زفاف فرحت له العائلتان والقرية عامة ، وبعد ذلك مرض محمد مرضا أشرف به على الموت ، فأوصى أولاده : وصيتي لكم أن تعتنوا بهذه الأرض بعد مماتي، فهي بمثابة أمكم الثّانيّة، ترفقوا بها جيّدا وامنحوها من حبّكم وشغفكم الكثير ”

وبموت محمد الذى كان يرتبط بأرضه ارتباطا روحيا ، ينفرط حبل الأسرة لتركهم الأرض … يهاجر “جهاد” إلى باريس و بعد وصوله عرض عمل هناك، و”ريماس”  تستقر فى المدينة ، و”رهف” تبقى فى منزل خالتها في مدينة أخرى …  وانقلبت أخلاقهم جهاد يتحول إلى سكير عربيد ،  وريماس تصاحب مجموعة من أصدقاء السوء ” فتحوّلت من فراشة حسناء إلى فاتنة السّكرات تعرّفت على جماعة أدخلوها عالم الدّرن والرّذيلة، فتركت مبادئ عفتّها، وأغرقت جسدها في وحل اللّيل ”

وتكون العودة إلى الاستقرار والسعادة بالعودة إلى الأرض والتمسك بها ، وقد كان فتتجاوب الأرض لجمعهم ،و” عاد الزّهو يرنو إلى تلك الأرض التي هبّت الأيادي تخدمها بلهفة وشغف، وكانت أغاني السّعادة تنجرف كجداول ضوء مهفهفة، ارتمى “جهاد” وزوجته وخالته وأختيه ” ريماس” و”رهف” على أحضان الأرض يستمدّون منها حبّات الجمال، والصّفاء والسّلام ”

وعندها كان صوت الأب ياتى كهمس الحرير :

– يا أبنائي، الآن أنا سعيد جدّا، لقد فزتم في الاختبار.

والقصة تصور الارتباط الروحى بين الإنسان والأرض ، فهذا نص له طزاجته فى فكرته ومعالجة هذه الفكرة معالجة فنية ، وإن كنا لا نوافق الكاتبة فى اختلاق أزمة كادت تضيع بالأبناء بعد انحرافهم ، فالانحراف ليس له مبرر ، خاصة أن الأب كان طيبا ، وسمعته عطرة ، وجهاد يعمل طبيبا ، أى له وظيفة له قيمتها الاجتماعية والمادية ، فكان يمكن أن يعمل فى طبيبا لأبناء القرية ، ويرعى أرضه ودخل الأرض كان يغنى الأسرة فى حياة الوالد ،أى كان قد أشرف على زراعة أرضه ، ولا مبرر لانحرافه أخلاقيا بالسكر والعربدة ، ناهيك عن  المزلق الذى وقعت فيه الكاتبة فى بيع ” رماس ” لجسدها ، فهذا منافٍ لخلاقيات مجتمعها وبيتها الذى نشأت فيه ، ولا مبرر لأى إنسان يمر بظروف مادية صعبة ، يبيع شرفه.

و قصة ” ستائر غرامية “ ينطبق عليها مواصفات القصة القصيرة الشعر ، من حيث بنية النص ، التى لا تخضع لسرد حدث بمقدار ما يكون التعبير عن حالة ، ومن البداية تقتبس الكاتب كلمة كوتيزى ” الألم حقيقة، وكلّ ما عدا ذلك خاضع للشّك “

موتيفة الألم …. هى الحالة الشعورية التى تترنم بها ” أسيل ” بطلة القصة ، والتى أحبت بجنون ، وتقدم الكاتبة لهذه الموتيفة بقولها ” ما أجمل شعور الحبّ! وما أقسى خيباته! أكبر خيبة في الحبّ أن تهب ورود حبّك لإنسان، وتنصبّه أميرا يحتلّ شغاف فؤادك وفجأة تضيع في براثين الغياب ”

بعدها تفوز فى مسابقة للرسم ، بلوحة رسمت فيها ملامحه وتضاريسه ، ولكن عندما تكتشف أن خطيبها ” جلال ” عرف هذا الحب ، قررت الانفصال عنه ،لأنها فتاة حالمة تعيش الحب من أعماقها ….إنها تعيش للفن وتجلياته … الفن للفن والحب لجماله وروحانياته لا بصورته المادية الرخيصة … عبرت عن هذه الحالة الشعورية فى رومانسيته الرقيقة الندية  الحالمة … ”  هجرت الرّيشة وخاصمت ألوان الأمل، وصرت بعدك أعشق الأسود…..لم يبق في دفاتر ذاكرتي غير تلك الستائر الغراميّة التي نشرتها على محرقة غيابي، شبابيك الأمل غادرتني، لم أكن أظّن أنّ عذاب الوجد محرق لدرجة الانصهار، أنا كنت امرأة حالمة لكن الحبّ كان أقوى من أحلامي ، لم أقدر على مواجهة انكسارات القلب، ولم أقدر على منحك فرصة الصّفح الأخيرة، أضحت حياتي قاتمة لكن عيناي كانت تتلهفان لرؤيتك، كلّ مدن العشق بعدك لم تستطع أن تلهم ريشتي. لم تستطع أن تملأ فراغ لهفتي…

وقصة ” حلم باريسى “ تسرد لقرب زواج حسناء التى غرقت حبا فى باريس مدينة الحب والجمال ، ولكنها وسط نشوة الصبابة ترفض أن تزف لمن لا تحب ” تذكرت لوهلة مصيرها المحتوم ، وبأنّها ستزف قدرها قريبا إلى مقصلة الحياة، آه…. لا يمكنني أن أتزوجه لا يمكنني أن أرم ورود حلمي التي نثرتها هناك على شوارع مدينة الضّياء مدينة السّحر ” باريس ” وعندها تسيطر عليها ذكريات حبيبها ” براء ” هذا المحبوب الذى ارتبطت به روحيا ووجدانيا ، فتسافر حالمة إلى مدائن الصّبابة المتدفقة سحرا غجريّا وتستيقظ على كلماته الغنّاء: أحبّك يا زهرة الرّوح، يا أفانين البهاء، ياياسمين حلمي المتوردّة الأشهى من البسمات، يا فراشة تتدلّل ندى وسحرا على مفاتن الزّهو بألوانها الربيعيّة لتبلي جنوني ورعشة روحي بنشيد التّدلّي…

وهكذا تصور الكاتبة لهذه الثورة المضطرمة فى أعماق البطلة  ، ويأتى السرد متماشيا كما ذكرنا عن تعرية المشاعر الرقيقة ، لا الحكى عن أحداث فى صورة تقريرية …فتناجى حبيبها ” جان ” الباريسى ، سآتيك يا حبيبتي باريس ارتشف من  ثغرك اخضرار مواجع انتظاري، سأرقص على مباهج سحرك وأرتلّ آيات عشقي ونجعي ودفاتري التي انتصبت في ليالي الدّجى…سآتيك على همس اللّقاء ألملم آخر تعاويذ فرحي

ولكنها عندما تعود إلى عالم الواقع تجد جاذبية ما نحو ” براء ” …وهكذا تتجاذب مشاعرها بين مد وجزر ، مشاعر نضرة لـ ” جان ” رمز الحب فى أسمى صوره ، كانت كلما ترتحل إلى شواطئه الهيفاء يسكرها رغدا من بنفسج عطاءات التألق، وزهو من فيوضات الألق وعندما تتذكر براء تداخل فى اضطراب نفسى رهيب فتتخيله فى صورة مؤسية فتقول له : ابتعد عنّي… ابتعد عنّي

ولكنها لحظات فتعود ، وتقول : أحبّه، أحبّ براء لكن… وفجأة تتراءى أمام عينيها مشاهد حبلى بأنين العثرات ومواجع الحسرات، أمّها التي فارقت الحياة لأنّها لم تكن تملك المال لمعالجة مرضها ورحيل والدها المبكّر حزنا على فاكهة روحه، فتترمل دموعها وتنسدل جداول الدم والقهر، فتنعت الحبّ والقدر وتنظر إلى مرآتها فتقرّر أن تخيط من وهج العذابات اشراقة تتدلل، تتعطر، تتغنج في شموخ مفاتن النهارات …

وتظل فى توترها فتلهث جريا وراء جان مرسلة رسالة لبراء تقطر شجنا وألما…تستقل طائرة له ، ولكنها تفاجأ بانه قد تزوج ، فترجع مصدوم منكسرة اروح والخاطر ” أحسّت أنّ الدّنيا أمامها تلحتف الحداد وتهطل غيث السّواد، وترملّ الحلم في عينيها: وداعا باريس، وداعا باريس، وداعا…

لترجع إلى الواقع ، فالحلم لا يدوم ،  ولا يفى بمتطلبات ما تريد …لتبق على براء بعدما مزقت رسالتها إليه ” إنّه حلمي، إنّه براء… ومضت تغترف من ياسمين اللّقاء تفاصيل عشقيّة تلونّها جنّات الرّوح التي أنبتت سلافة حكاية: “حسناء” و”براء”.

وقصة ” حكاية الليل “ تتذكر نوران نوران فى ليلها المنعش ماضى أسرتها التى شكلت حياتها ، تتذكر ما حدث لأبيها الذى عاش حياته لوطنه ، وألقوه على هامش الحياة ، وانحراف أمها فى مواخير العهر ، وتسرد القصة لتشتت هذا البيت ، بعد قتل أخيها عماد لأمها ، اعتراضا على خروجها المرفوض ، وهروب نوران من البيت ، لتعتمد القصة على التذكر فى صورته المشجية الحزينة ، لشعورها بفقد الدعم المعنوى والروحى لها …

حملت حطام فؤادي الذّي اندثر في صحراء عائلتي التي لم تهب لي غير سجائر الأسى وبحيرات من الدّموع المتساقطة التي كانت رفيقتي في خطوات دروبي .

منعت من الدّراسة بسبب جمالي، حرمت من متعة الحنان العائلي، ماهي غلطتي أنّني كنت أسيرة في مملكة تدعى الأسرة؟

وعند ذهابها إلى الشارع افتقدت روعها وجمالها وعفتها ، وحام من حول جسدها الوحوض إلى دمية …وعندما تحاول  التخلص من هذا المستنقع بالزواج من أحمد الذى أعلن بصراحة حبها ، فاخذت تعيش لذاذات الاحلام معه ، ولكنها لم تستطع أن تنهى ماضيها فى عالم الرذيلة …. وهنا كان رد أحمد صادما :

لقد وقعت في غوايات الجسد ولما استفقت من هشاشات اللّذة ثار ” أحمد” في وجهي قائلا: تأكدت أنّك امرأة ليل، امرأة مثلك تمنح نفسها ببساطة لأي شخص متعطّش للجسد، لا أستطيع أن أواصل معك، من اليوم جسور الوصال بيننا سأقطعها للأبد، لو كنت امرأة محترمة لحافظت على براءة جسدك …بعدها انطلقت فى عالم الخطيئة ، لتمتع جسدها ما تشاء …وفى النهاية قبضت الشرطة عليها …لتعيش لحظات الانكسار

تفيق من خيالاتها ، وتذكر أن كل ما ما روته كان مجرد حلم يقظة انتابها ،  وتشكر هذه اللحظات انها انتجت لها قصة جميلة بعنوان ” حكاية الليل ”

 هكذا نجد القصة تعرى مشاعر متناقضة داخل البطلة نوران ، متخيلة لو حدث ذلك فى عالم الواقع ، ماذا يكون رد الفعل ؟! ….

فى قصة ” حلم الفراشات “  تصور هذا الحلم الذى يرتاد المرء منا فى لغة هاربة من التحديد والإمساك بتلابيبها ” نسيم الشوق يعلو في سماوات أوردتي ، يتمدد على تجاويف الصّبا والأحلام الممزوجة بغبن النهايات ، التي تركت تفاصيلها هناك أمام محكمة تواريخنا المهرّبة إلى أزمنة القهر ”

إنها لغة تتماشى مع عبق الشعر وألق الذكريات الوضيئة ، التى يشكل فيها الخيال والوجدان ملامحها غير المحددة ، فى سرمدية شائقة تقول ” كنت أعيش في عالم الضّياء، ألّم ستائر الأحلام الدافئة وألاعب خصلات دميتي الجميلة التي تلونت بأطياف الألق، وأخيط من بهجتها حلما أسكن ترانيمه ، و أنام على تحف نغماته الهزجة بماء رياحين الضّياء…

ورغم ذلك لا تعيشنا الكاتبة فى مفاوز الخيال البعيد ، ولكن تضفى ميسما من الواقعية على قصتها ، لتعترف الراوية ” أمل ” بصداقتها لـ ” ضياء ” ولعلنا ندرك هنا مدى التلاقى بين الاسم ودلالته ، أمل التى تنشد طموحاتها فى الحياة ، وضياء التى تضيىء لها بعض جوانب حياتها ، بإدراكها لنفسية صديقتها الشفافة ، ومحاولة إخراجها من مأزقها النفسى ، بتحجيم حلمها الجميل فى هذا الوطن ، الذى تبدد لانكساراته ، وتخليه عن طموحات أبنائه “كلّ الأحلام في بلادي عاريّة تتماوج أمام شرفات اليقين ثمّ سرعان ما تغازل عباب المستحيل، نحن هنا كفراشات حالمة نخيط من جراح أوردتنا ضوء يرحل بنا إلى مرافئ السّحر، لكن سرعان ما تبتر خيوط حلمنا بجراحات العذابات والحسرات…

وبطريقتها الحالمة وأسلوبها الشاعرى تعبر عن مفارقة بين الحاضر والماضى ، الماضى بعطره الألق ، وحكاياته الأسطورية ، تجسد لنا هذا من خلال حكايات ألف ليلة وليلة ”

كنت مفتونة بعوالم ألف ليلة وليلة، ألّم كلّ ليلة حكايات شهرزاد وشهريار وأستلهم من قصّة عشقهما عطر الصّبابة وفاكهة الرّغبات وبخور الأمنيات لأصيغ بها وطني الأكبر…والطرف الثانى لهذه المفارقة الحاضر فى انتكاسته المريرة ، التى وأدت أحلام أبنائنا ، فضاع كل شىء جميل ”

ولعل من بلاغة الحكى كما مرنا بنا التلميح لا التصريح ، فالكاتبة لا تفصل صور الخيبات ، ولكنها تلمح إلى هذا التصدع ، الذى انكسر فيه كل شىء جميل ،ضاعت هيبة الوطن ، تطاول عليه البعيد والقريب ، ضاعت هيبة مواطنيه ، ساد الفقر والمرض والتخلف ، وسط أوهام مريضة تفرض علينا ألا نئن ولا نتوجع ، بل أكثر من ذلك تشعرنا بأننا ما زلنا فى روح النشوة والانتصار والعطاء .

لقد ضاع الأمل ، ووجدت أمل ترجع لطفولتها ، تتمسك بلعبتها ، وتحاول ان تستبدل واقعها بواقع ىخر ن واقع طفولى جميل ، تعيش فيه الحياة بوجدانها وعقلها الغرير هربا من واقع غير مألوف ، بعدما رأت الموت فى بلادها ، وقتل الطموح والحياة الرغدة الجميلة ” أضحت حياتنا مثل العبث، نحتلب فيوضات أحزاننا، وقنابل الألم تغزو سماواتنا … اليتم أضحى شريعة جديدة للأطفال، يُوشم على صدورهم، بهجة الحياة غادرتنا  والأحلام ارتدت رداء الرّحيل، حلمنا العربيّ تناثر كالسّهاد في ليالينا المحترقة…

على هذه الصورة من الحكى جاء السرد فى مجموعة سامية غشير ” حواس زهرة نائمة ” نص له وقعه الخاص وطزاجته العذبة ،  ولغة شعرية ، تبدع فى ارتياد منابع المجاز … لتسرد لنا قطعا فنيا ، لا نصا معلبا فى تركيب مجموعة من الأحداث فى تسلسل محكم ومقنع ، ويتنوع الحكى والسارد من رجل لامراة ، ولعنصر من عناصر الطبيعة كالأصيل كما مرَّ بنا ، والبحر فى قصة ” أحلام تنوح في ضبابيّة النجع “ حيث يروى البحر  عن خمسة كانوا على ضفافه ، يعيشون أحلامهم ، كان ” زكرياء”، ” جهاد”، ” أيهم”، ” رضا”، ” صهيب” يتسامرون أمام مباهج ضحكاتهم الشّاعريّة، وهم يسردون على بعضهم البعض حكاياتهم الحالمة.

بيد أن الكاتبة عندما انحرفت عن مسارها الفنى فى بعض قصصها ، وجاء تركيزها على عرض أحداث أكثر من تصوير الحالة النفسية والوجدانية خانتها القدرة الفنية فى افتقاد التبرير الفنى المحكم ، كما فى قصة ” أشواق تنزف فى صمت ”  بطلها إسحاق الشاب الصالح الذى تدخل للإصلاح بين شابين يتعاركان ، بعد جدل طويل ، وعندما يقترب لمنعهم …إذا بواحد يغرس السكين فى صدر الثانى ، فيسقط ميتا ، ويفرُّ القاتل ، ويتم القبض على إسحاق بتهمة القتل “جاءت الشّرطة وأخذتني مكبّلا كالمجرم، قضيت أيّاما هناك أذرف دماء النجع: رفقا يا ربّي، أنا بريء أريد أن أعود إلى حياتي الطّبيعيّة، إلى كتبي التي اشتقت إليها، إلى عائلتي التي لا تستحق ما يحدث معها ”

كان أبوه يصبره بقوله :

– يا بني، تأكدّ أنّ الصّبر مفتاح الفرج…. وتم الحكم عليه بعشرين سنة ، وهنا بدأت مأساته لتأخذ حياته منحنى شائقا ومتعبا ، وبعدها يهرب من السجن ليلتقى بامه ، وتقول له :إذا خانتك العدالة البشرية ، فلن تخونك العدالة الإلهية ….ويجمع كتبه وأشياءه ، ويرحل ، ولكن الشرطة كانت تتربص به ، فحاصرته وهنا قرر إطلاق الرصاص على نفسه والانتحار… وللأسف بعد فترة يتقدم شاهد غلى المحكمة ويبلغهم ببراءة إسحاق ولكن بعد الأوان …

 فالمعالجة الفنية خانت الكاتبة التى وصفت إسحاق بالطيبة والصلاح ، فهذا كان حريا بوقوف العناية الإلهية بجوار هذا المصلح ، وألا يُصاب إصابة يظنها المعاركان إصابة خطيرة فيهربان ، وفى المستشفى يعالج ويخرج فى ساعات او بعدج أيام …ناهيك عن فعل الانتحار الذى تجده الكاتبة عملا هينا ….فهو موقف صعب على أى إنسان …وكان أحرى بالكاتبة أن تجعله يسلم نفسه … وفى المخفر نفاجىء بهذا الشاهد الذى يثبت براءته ، ويكون هذا من عنصر المفاجاة الفنية الجيدة ، وظهور العناية الإلهية التى ترعى المظلوم ولا تتركه .

وهذا الخطأ الفنى رافق الكاتبة فى قصة ” أوراق من ذاكرة الحياة ” التى  تحكى لنا قصة من قصص الفجيعة والخلافات الأسرية ، وجاءت  نهايتها مفجعة ، هذه القصة تروى عن الوالدين ” سعيد  ” و ” سماح ” فكلاهما أراد الحياة كما يريد  ، دون مراعاة لما سيحدث لأبنائهم ، لذا كانت النتيجة سلبية … “إيّاد” أخفق في النّجاح فقرّر عدم العودة إلى مقاعد الدّراسة رغم أنّ عمره لا يتجاوز السّادسة عشر، أمّا “إشراق” أكبرهم ذات الثّمانيّة عشر عامًا قرّر والدها تزويجها لأحد أثرياء المدينة من أجل تحقيق مآربه الشّخصيّة، أمّا “نور” فرغم الجراحات التي تناسلت في داخلها إلّا أنّها قرّرت رفع التّحدي اتجاه خيباتها في الدفء العائلي وصمّمت على تجسيد كينونتها.

التمزق الأسرى الذى أدى إلى هذا مرجعه انحراف الوالد ، الذى كان يرجع كل ليلة سكران  ورفضه لمناداة زوجته البعد عن هذا ، وتزويجه لابنته دون مراعاة لرأى غيره (أو رأى الفتاة نفسها )  فرفض رأى زوجته واعتبار قراره نهائيا لا رجعة فيه … وقد تم زواجها من رجل كبير فى السن ( الشيخ إسماعيل ) وكانت نهايتها الانتحار ، وكتبت رسالة بذلك ” أعلم أنّ فقدانكم شيء يعذّب روحي ويرهقها، لكن الحياة خطّت قصّة بدموع آهاتي، لا أستطيع أن أتخلّص من أحلامي وأمنياتي من أجل الزّواج، سامحوني، وهنا نعترض على فكرة الانتحار الملازمة للكاتبة ، فرغم فارق العمر ، كان يمكن أن تعيش الفتاة سعيدة ، ويمكن أن يعوضها الله بابن بار له شأن كبير فى المستقبل ، ربما يكون شخصية بارزة سياسيا أو أو أدبيا …إلخ

ويتوالى السرد فى إبراز هذا التمزق الأسرى فى عراك الأبوين …ثم انحراف ” إياد ” الذى لم يجد الحب عند والده ، رغم منحه ما كان يكسبه ، لذا ترك البيت ..احتمى بالشاررع …تعرف على مجموعة من المفسدين أقرانه …فولج جحيم المخدّرات، لقد مارس الشّارع  المسخ  على روح الشّاب البريء فتحوّل إلى خارج عن القانون…وتنتهى حياته بقتل الشرطة لابنه ..ورغم تغير الأب بعد ذلك ولكن هذا جاء بعد الأوان …وكان أولى بالكاتبة أن تريح البيت من هذا الأب ويرجع للبيت استقراره حتى ولو بعد موقف صعب كموت أحد الاولاد …

وهناك ملمح فنى نجده مقتحما بصورة مرهقة للنص السردى ألا وهو طغيان الشعر فى كثير من القصص …نذكرها منها فى هذه القصص : موعد الحب مع المطر ( 15 سطرا ) وقصة خريف الذكريات  ( 11 سطرا ) وقصة حلم باريسى ( 11 سطرا ) وقصة أشواف تنزف فى صمت ( ستة أسطر ) وقصة حروف الظل ( أربعة أسطر ) وقصة مدينة الأشباح ( 13 سطرا) وقصة حلم الفراشات ( 26 سطرا ) وكان أولى بالكاتبة أن تكتفى بأسلوبها الشاعرى الجميل ، ولا تتحول القصة إلى أجزاء من قصائد ، أو قصيدة كبيرة فى آخر قصة فى المجموعة ( حلم الفراشات )

ورغم ذلك فقد أبدعت سامية غشير مجموعة قصصية فائقة ، لها تميزها وخصوصيتها وجمالياتها فى سردها باللغة الشعرية الراقية ، وفى توغلها داخل النفس الإنسانية ، واتصفت نصوصها الطزاجة والجمال … إنها نصوص ممتعة ، تقرأ غير مرة ولا يسام القارىء من تكرار قراءتها … وتترك بصمة فى نفس المتلقى ، نبارك للكاتبة ونهنىء انفسنا بهذا العمل القصصى الجميل .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| مهند النابلسي : سينما ارتجالية وشهرة مجانية وشخصيات سطحية:وصف دقيق لتحفة ترفو”الليلة الأمريكية”-1973/الفيلم الفائز باوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام:1974 .

*يلعب Truffaut نفسه دور مخرج سينمائي يُدعى Ferrand ، الذي يكافح ضد كل الصعاب لمحاولة …

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *