كان علىَّ اليوم أن أرى فيلم المهاجر! اتصلتْ بي شريكة حياتي، أو “نصفي الأفضل” كما يحلو لزميلتي أن تسمي زوجها! كنتُ في عملي وأخبرتني بالأمر فجأةً. تطلعتُ إلى الاوراق المتناثرة

فوق منضدتي، شعرتُ بالإحباط تماماً. عاتبتُها قائلاً لها ” كان المفروض أن تخبروني قبل هذا الوقت”! قالتْ لي بلا اكتراث إنها أصلا لم تعلم بعرض الفيلم بالتلفزيون إلا قبل عدة دقائق. هكذا حدثت الأمور دون سابق إنذار. أبديت امتعاضي، بينما ردَّت هي عليَّ متهكمة :”أنت تحكي عن الحياة وكأنها حرب، صديقتي عفاف إتصلت بي تلفونيا، أخبرتني عن الفيلم وانتهى الأمر”.
رددتُ غاضباً: ” طبعا حرب، طبعا حرب “، وضعتُ السماعة بدون أن أودّعها. كنت حانقاً، لم أكن أرغب أن أُظهر فقدان توازني، عملت كلَّ شيء وكأن الامور اعتيادية، كنت متألما فعلا، بالتأكيد ليس بسبب العرض المفاجيء لفيلم المهاجر فحسب.
عدتُ إلى البيت مجهداً، أعاني من النعاس والضغط، والدوخة خائفاً أن تتحولَ إلى صداع، والأخير إلى شقيقةٍ.
تناولتُ أقراص الأسبيرين بعد وجبة الأكل مباشرة. مددتُ جسمي، تسطّحتُ على الكنبة أشاهد الفيلمَ بعينين شبه مغمضتين. قاومتُ التعبَ والنعاسَ، اندمجتُ مع الفيلم، كأني اعيشه بكل تفصيلاته، تذكرتُ اللاجئين، أعملُ معهم، ألتقي بهم، أتقاسم همومَهم وأحزانهم دوماً. لم يطلب أحد منّي هذا الدور، لكني لا أقوى على غير ذلك. فسحتُ لهم المجال لطلب العون والمشورة عند الضرورة، يتواصلون معي على مدار الساعة، تألمتُ كثيراً، بل شعرت بنار تلتهب في جسدي، أي حريق كان هذا؟ ثم انطفأتُ.
غابَ الفيلم عني وبقيت أفكاره في رأسي.. كان علىَّ ألا أستلقي على الكنبة، ولا على فراش النوم قبل وقته، بل عليّ أن أقوم بذلك في ساعة متأخرة من الليل وبعد أن ينهار جسدي ويدركني النعاس حقًّاً، عندها سأضمن النوم حتى الصباح كما أحلم وأتمنى دوماً.
هكذا قال الطبيب النفساني لأحد مرضاه اللاجئين عندما كنت أترجم له ، إنه شخص طيب وإنساني، مشكلته أنه يتحدث ببطء وصوت خافت وسكون وبرود، أبرد من ظهر السقّا، يسمّونه المعتوه! اليوم، أتذكر أنه قال له: لا تضطجع في الفراش قبل ساعة النوم المتأخرة، قبل الهجيع، وقبل أن تتأكد فعلاً بأن عقلك لن ينشغل بأفكار مقلقة لئلا يصيبك الأرق.
كرّرَ له لازمته: عليك أن تجهد جسمك عضليا في النهار، تشم الهواء الطلق في الغابة، لدينا غابات جميلة هنا، إنسَ همومك القديمة، إسترخِ قدر المستطاع، لا تَنسَ أن تمارسَ الرياضه! قال عبارته الأخيرة هازاً رأسه مغطيّاً شفتيه بكفّ يده اليسرى. متطلعاً إلى المريض بعينين حزينتين.
وكان المريض أيضا يكرر له نفس الإسطوانة كما في كل جلسة: هذا كلام سهل، جرب أن تعيش عندنا مرةً واحدةً وتعاني ظروفنا، جرّب أن ُتجبَر على الهرب من وطنك بدون عائلتك وأطفالك وأن تترك عملك وأصدقائك، أنا كان لي كيان وشخصية واحترام من قِبل الجميع، أما الان فأنا لاشيء، ينظرون لي نظرةً هاشمية، عفوا أقصد هامشية، ويعتبروني مجرد نكرة، على قولة المثل: اللي طلع من داره، نقص مقداره، كيف أسترخي وأنا مدمّر لا أعرف عن عائلتي أيّ شيء، أكلهم، شربهم، ملابسهم، صحتهم؟
وكالعادة ينهار المريض الغريب وينهمر في البكاء بعيداً عن دياره وأهله آلاف الأميال، بينما يردّد الدكتور النفساني: “مع ذلك جرب أن تشم الهواء الطلق والانشغال بأعمال يومية تلهيك وتجهد جسدك كي تنام في الليل”.
الذي حصل اليوم هو أني مددتُ جسدي قبل وقت النوم بكثير، لكني كنت خائر القوى، غلبني النعاس، لم أقاومه وإنتهى الأمر!
في النوم حلمتُ، رأيتُ رؤيا فيها أحداث كثيرة لا أتذكرها طبعا كلها، أعتقد أني شاهدت حلماً قديماً كأني جالس في صالة عرض أفلام، يعني سينما. إنها رؤية جديدة لمنام عتيق بقي يلازمني، طبعة محدثة لنسخة سابقة.
حلمتُ بأحد الزعماء من الذين تربعوا على العرش واستحوذوا على كل شيء، ومع ذلك ينادون بشعار كبير: الديمقراطية والسلطة والثروة والسلاح للشعب، ويرفع شعارات أخرى كبيرة وكثيرة مكتوبة على الحيطان والكتب المدرسية وتتردد في الاذاعات ومحطات التلفزيون والحارات والشوارع، وفي لافتات القماش المعلقة في كل الأماكن والورق ويرفعُ يدَه دائماً محيّياً شعبه العظيم مطالباً إياه بالثورة على الظلم!
يصرخ هذا الشعب يوميا: بالروح بالدم… ومع ذلك يحلم أكثر من ثلاثة أرباعه بالهروب إلى خارج بلاده حيث اللجوء، ويعاني أكثر من نصفه من الفاقة والعوز والحرمان والحالات والأمراض النفسية. وقسم صغير يعيش على الهتافات والفتات، أما الباقي منه فهو مجرد وقود للحروب والقتل والدمار والإضطربات والفوضى. حاولت أن أقوم بمسائل الطرح والجمع والضرب والقسمة لأكتشف من يقف مع هذا الرئيس، ومن يحب أن يعيش في كنفه الثوري، لم أخرج بنتيجة غير أن الجميع معه وضده في الوقت نفسه! إنه أمر أكثر من محيّر وعجيب وغريب ورهيب ومريب.
المترجمون والأطباء العامّون ونظراؤهم النفسانيون والمحللون النفسانيون الإجتماعيون والممرضات والممرضون والشرطة والمحامون والسياسيون التقدميون والعنصريون المعادون للأجانب والمتعاطفون معهم وأعضاء البلديات والبرلمانات والصحفيون هم أكثر من ينشغل بهم في “بلدان اللجوء” كما يسمونها.
أتذكرُ أن هذا القائد الثوري والزعيم الفذ قال لي، في الحلم طبعا فأنا، والحقيقة ُتقال لم يحصل لي الشرف أن تحدثت إليه مباشرة، إنه يعلم جيداً كيف يتعامل مع أبنائه. وقال لي بالحرف الواحد: “هؤلاء ليسوا بشراً، بل بهائم، أيوه، نعم هذوله بهايم ما يستحقون الحياة حتى في الحضائر، أصلاً هذول مايعرفون مصلحتهم، وعلينا أن ننقلهم نقلة نوعية ونحولهم إلى رجال ثوريين بكل معنى الكلمة، فهمت؟ الذي يعجبه أن يصير ثورياً يبقى معانا، أما من ينكر علينا هذا الحق والواجب والمسؤولية ويتنكر له ولنا ولا يعجبه، خلِّه يورّينه عرض كتافه، الباب توسع ألف ألف جمل، واللي مش عاجبه، يبلط البحر ويشرب من ميته ويغور من وجهنا في ستين داهية، ويطلع برّه يعيش على فتات الاخرين ويصير من الكلاب السائبة”.
أعتقد إنه قال: في ستة وستين ألف داهية. بالمناسبة، كان هذا الزعيم يستخدم سبابتَه اثناء الحديث، ينطق نصف الجملة ويبقى نصفها الآخر في رأسه، أو يعبر عنها ويشير إليها باشارات وإرتسامات على المتلقي ان ينتبه لها، ويخاطب حاشيته بعينيه وشفتيه، يقلب على كل الموجات، وعيناه تتحركان بطريقة يصعب وصفها، رجل معتوه بكل معنى الكلمة، لكن أهم ما يمكن أن يقال عنهما إنهما تتطلعان إلى السقف والأرض تراقبان كل شاردة وواردة، والأهم من ذلك أن هذا الزعيم الفذ صاحب المواهب، عاشق الحمايات من الرجال والنساء والمواكب والجلسات والمناقب، مهندس وطبيب، مدرس وحبيب، يتقن جميع لهجات العرب العاربة والمستعربة ولغات العالم الثالث الحية والميتة ولهجاته المعروفة والمجهولة.
وإنه، والحق يُقال كان يتحدث إليّ بنوع من الود والتواضع والإحترام، أو على الأقل أنه كان يتظاهر بذلك، يبتسم عندما يقول كلماتٍ عربية ًمن لهجات أخرى متطلعاً إلى رجاله الملثمين وغير الملثمين من الشباب والكهول، وكان لسان حال عينيه يقول: ليجرب من تسوّلُ له نفسه أن يعبث أو أن يصطاد في الماء العكر.
طبعا لم أجادله رغم شعوري بأني صاحب حضوة وإحترام لديه، بل أردت وفكرت فقط أن أنبس ببنتِ شفةٍ مقاطعاً إياه لأساله عن سرِّ إنعدام الطحين في السوق. أردتُ أن أنقلَ له معاناة جماهيره ليس إلا، أردتُ أن أقدّمَ له خدمةً لا أكثر ولا أقل، كنت أفكر في طريقة طرح السؤال من منطلق ودّي وأخوي، “رفاقي” أو وطني، أو بسبب الرعاية التي أحاطني بها، لكن السؤال بقي متخمراً في رأسي ولم أجرؤ النطق به!
* * *
فجأة وجدتُ نفسي في مكان آخر، غارقاً في أكوام الطحين وفمي مملوء به. حاولت أن أصرخ، دون جدوى!
الدقيق الأبيض يسد كلّ منافذ فمي. وهناك من يركل مؤخرتي قائلاً بسخرية ” كُل وإشبع يا حمار، يا بهيمة … “، يبدو أن عيون الثورة ساهرة حقاً. لكن ياترى كيف علموا ما في داخل عقلي؟ أمرٌ غريبٌ للغاية!
* * *
هذه الرؤيا قديمة! حلمتُ بها أيام زمان أكثر من مرة، لكن بالأسود والأبيض، أما اليوم فإني شاهدتها بطريقة أكثر عصرية، سكوب ملون! بإختصار مثل الأفلام القديمة عندما تلونها شركات السينما.
كان الزعيم الثوري يرتدي ملابسَ مليئة بالنياشين، يعتمر نظارةً سوداء، يضع عصا تحت إبطه ويمسك بيده الثانية رواية على غلافها صورته الشخصية، يتحدث عن الأدب والتاريخ والجغرافية ويتفوه ببعض الكلمات الهزلية متعمداً إضحاك المستمعين.
وكان أزلامه يتطلعون إلى شفتيه، يضحكون، بل يقهقهون لمجرد إرتسام إبتسامة صغيرة عليهما ويهتفون بين فترة وأخرى: عاش! يعيش! الرفيق! القائد! الزعيم! بينما يؤشر هو بيده مبتسماً دلالةً على الرضا والتواضع والأبوة والأستاذية والقيادية، وكانت عيناه تتراقصان وتتحركان وتنطنطان” على كل الاتجاهات.
* * *
فززتُ من النوم. إحترقَ الفيلم. إنقطعتْ مشاهد الكابوس وضاعت خيوطه. تطلعت إلى الصالة، وجدت الهدوء والظلام يخيمان عليها، الجميع نيام، تطلعتُ إلى ساعة الحائط، كانت تشير إلى منتصف الليل، قلتُ لنفسي متشائما: “لا إله إلا الله، يبدو أن رحلة الأرق بدأت”.
صارت مشاهد الكابوس تتوارد عليّ كالخواطر. بدأت أتذكر بعض مقاطعه. حاولتُ تصورها. لم أفلح. لكنني تذكرت غرقي أو بالأحرى دفني بالطحين وصورةَ الزعيم قائلا لي: إهتم بأمورك ودروسك وأنا خير من يفهم بهذول البهائم اللي يفكرون بالأمور السخيفة مثل الدقيق والخبز ويتركون قضايا الوطن والثورة والسلاح!
الصحراء الكبرى- الدنمرك
1987-2000