| مها عادل العزي : وجبــــــة فطـــــور .

في ليالي قلقه الكثيرة كان يدير وجهه إلي الحائط فيخربش عليه بأظفاره الناعمة الصغيرة كان يصدر عن ذلك صوت يقشعر له جسد الجدة التي ينام بالقرب منها اذ لم يكن غريباً عليه أن يقفز إلى جانبها.. يغفو يتناهي اليه صوت صرير

مها عادل العزي

السرير الذي يهتز لارتجافها فيحاول ان يوقف اهتزازه لكن قدميه الصغيرتين لا تصلان إلي الارض. عند انتصاف الليل كان الانين هو الشيء الوحيد الذي يستطيع ان يميزه من عتمة تلك الغرفة الغارقة في صمت الليل فلا يعرف ان كان يصدر عن جدته التي انهكها التعب ام عن امه التي انهكها المرض فيعمد إلي غرس اظفاره في حفر صغيرة احدثها في الليالي السابقة ثم ينام بعد ذلك بدون ان ينبس بكلمة واحدة.

مرت بالبيت ليلة لم تكن مميزة أي شيء من تفاصيلها بل علي العكس كانت هادئة جداً علي نحو لم يعهده أحد. ولعل هذا هو تميزها الوحيد. ثمة احساس خفي طرأ علي الفتى اطمأن له كان فرحاً لشعور غير معين وربما وجد سبباً معقولاً لسعادته تلك فأخذ يردد:

– انني نظيف..

طيلة الليل راودته فكرة نظافته التي جعلت من نومه عميقاً فما ان يصحو حتي يتذكر بأنه نظيف فيتململ وهو يشعر بجسده الطري خفيفاً معطراً فالاستحمام هو اكثر ما يزعجه خاصة تلك الحرقة الشديدة في عينيه والتي تبكيه طيلة بقائه تحت يد جدته.

في الصباح كانت هناك حركات وئيدة لتلك الجدة التي أتعبها السهر اقتربت من الصبي قالت له:

– انهض هيا بسرعة.

نظر الصبي اول ما نظر إلي تلك العقدة الكبيرة التي ربطتها في مقدمة رأسها، كررت عليه قولها:

– هيا.. هيا بسرعة.

كان في عينيها شيء مبهم شيء لم يتعرف عليه قبلاً لكنه يشعر به بقوة، فللكوارث طعمها المميز والاطفال كالطيور يشعرون بذلك بالغريزة لم يتثاءب الصغير بل نهض في مكانه بسرعة بعد ان غادره اخر احساس له بنظافته ومع هذا فقد قال لها:

– لــــــــــكن الــــــوقـــــــــت مبــــــــكــر!!

استدارت الجدة بسرعة وانحنت علي الارض لتعيد ترتيب السجادة التي تجعدت تحت قدميها ثم اخذت تصف الوسائد مسندة اياها إلي الحائط كانت المرآة تتحرك بخفة علي الارض علي غير عادتها فتلتقط ما تبعثر من اغراض غير ضرورية وتعيدها إلي مكانها فلم تلق بالا للصبي الذي كان يتعثر في فوضي النظام الذي فرضته في هذا الصباح بالذات.

بدت جدته عجفاء إلي حد يثير الشفقة بل انه الخوف من ان تتكسر عظامها تحت وطأة حركتها المفاجئة فخيل للصغير ان حدة عظامها الناتئة ستشقق الجلد المتيبس. في الدقائق التي اخذت تمضي ببطء كانت ثمة كآبة مستترة بوضوح يغرزها القدر.. كآبة مخيفة من الممكن ان تجلب النحس لسنوات كثيرة قادمة كان كل ركن من البيت معداً لاستقبال شيء لم يتعرف عليه احد .. شيء كالح فيه خيط من السعادة الخفية بل وأكثر من هذا سعادة خجلة تخشى ان تفصح عن نفسها فتقبع في مكانها حتي يحين الوقت المناسب عند ذاك ســـتعلن نفسها.

حين دخل الصغير إلي غرفة امه التي نقلت اليها قبل ايام من ذلك كان جسمها يصعب تمييزه من الفراش الذي وضع تحته ليبدو وكأنه قطعة منه عندما اراد ان يقترب منها فوجئ بجدته فوق رأسه اقتربت من المراة الراقدة التي طالما حرصت عليها فأغدقت عليها بحنانها ودموعها نفضت الغطاء الذي يغطيها واعادته علي وجهها، صرخ الفتي وهو يحاول ان يزيح الغطاء عنها:

– ما بها؟ انــــــــــها نـائمة ستختنق هكذا.

امسكته الجدة بقوة من مرفقه وبعد ان اعادت الغطاء علي وجه ابنتها اخرجته من الغرفة وأوصدت الباب، بكي الصغير خوفه وصمت امه فبقي واقفاً عند الباب، اشتد في نوبة البكاء فبرزت عروق رقبته وجحظت عيناه كان يصرخ بها يريد ان يدخل ليري امه كما في كل صباح لكن العجوز بقيت واقفة في مكانها تنظر اليه وبعد ان نفد صبرها صاحت به.. امرته بأن يصمت ثم جلست علي الارض تندب حظها فيكفيها بؤساً انه لا يوجد من يواسيها أو يشعر بها صرخت انه لم يعد ضرورياً بعد تحمل كل ما يجري.

كانت عيناها دامعتين لقد اختفت تلك الطاقة العجيبة التي تحركها انها منهكة ضعيفة تشعر بالهرم وكانه لعنة خفية حلت بها تواً. تحركت الجدة تحت ثقل عجزها إلي أبعد مكان يمكن تصوره في تلك اللحظة فهي برغم حزنها وبكل بساطة تريد ان تتناول الفطور فوجه الموت بكل قسوته وبشاعته لم يكن أقوي من رغبتها في الطعام. وفي تلك اللحظات بالذات لم يكن هناك ما يعيق رغبتها الغريبة تلك غير صراخ الصغير.

في زاوية معتمة من المطبخ فرشت بساطاً من القماش السميك ثم اتت بصينية صغيرة لا تحوي الا قدحاً من الشاي ملأته إلي نصفه وقطعة خبز في وسطها شريحة من الجبن ترددت في اكلها بسبب طعمها المر قرفصت في جلستها ثم بدأت تلتهم الطعام بصمت وكأنها حيوان انزوي في جحره.

علي غير انتظار يطل رأس امرأة تسكن بقربهم هي الوحيدة التي تتفقدهم ما ان رأتها الجدة حتي تكورت في مكانها حين سلمت عليها لم تستطع ان تنبس بكلمة واحدة كان صوتها قد انفصل عنها فأصبح ابعد ما يكون ارادت ان تبكي ان تنوح ان تقول ان ابنتها قد ماتت لكن ذلك كله لم يحدث حشرج صوتها حشرجة مكتومة، بكى الصغير الذي انزوي بقرب الباب فدخول المرأة يعد نجدة بالنسبة له اقتربت المرأة منه وهي تسأله عما به فلم تتبين من كلامه الذي اختلط بالدموع غير كلمات قطعها النشيج.

– امي غطتها جدتي.. غطت وجهها

تنهمر الدموع من عيني الجدة العجوز تختلط بالطعم المر في فمها تضغط ركبتيها إلي داخل صدرها الذي تقعر في وسطه تنظر المرأة الواقفة اليها.. إلي تلك القطعة الباردة من الخبز تدخل مسرعة إلي الغرفة الموصدة وما هي الا لحظات حتي يعم النحيب البيت..

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| مها عادل العزي : قبل ان تبرد القهوة .

-الخامسة فجرا بتوقيت مكان قصي خلف البحار والمحيطات- اشعر بانهاك شديد.. او انها الحمى تداهمني …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| د. زهير ياسين شليبه : المهاجر .

كان علىَّ اليوم أن أرى فيلم المهاجر! اتصلتْ بي شريكة حياتي، أو “نصفي الأفضل” كما …

تعليق واحد

  1. رائعة وخصوصا في الخاتمة التي حملت المفاجأة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *