
في تلك اللحظة سمع نداء من وراء جدار الباحة يعلن أن مامكي زيتونة وصلت. وحينما فتح حاسانلي الباب شاهد الشيخ المتداعي على سرير الحبال ينتظر ما سيحصل. وكان الرجلان الشابان يحومان وراء مامكي زيتونة كما لو أنها درع يحميهما من ضرر متوقع. شقت المعالجة طريقها، بقامتها القصيرة والتي لا يهدها التعب، وهي تتلو آيات بنبرة خافتة وعزيمة قوية، لتنظيف روحها ونفسها. ولم يتوقع حاسانلي الحشد المتجمهر في الخارج. فطردهم جميعا، بحركات عشوائية محاولا أن يتجنب أي مشادة مع أي شخص، ثم أغلق الباب وأحكم قفله.
قال حمزة:”هل كل شيء هناك على ما يرام؟”. وأسمع صوته للجميع كالعادة. فتح حاسانلي الباب مجددا وأبعدهم، ولكن أسعده أن يرى الكبار الثلاث واقفين على أقدامهم، والشابان يمسكان سرير الحبال بقوة وعلى وشك التقدم. لوح يودعهما وأغلق الباب بسرعة. سأل جمعان من وراء الجدار:”متى ستفتح حانوتك يا حاسانالي؟”. كانوا يريدون عودته إليهم بسرعة، ليتمكنوا من الاستماع لتقرير عما يجري. صاح مجيبا:”قادم يا أخوتي”. صاح علي كيبارا:”نحن بطريقنا إلى الصلاة”. ربما تعمد إغراء حاسانلي للانضمام إليهم. قبلت مامكي زيتونة أيدي ريحانة ومليكة، ولم تسمح لأي منهما بتقبيل يدها فعليا، ولكن أصرت أن تبادر هي بالقبلات. كان تصرفا يوهم بالتواضع، أن تقبل يد غيرك وتسحب يدك قبل أن يتمكن من تقبيلها. وهذا أسلوبها لإبداء التذلل حتى أمام أشد الناس تواضعا، ولم تسمح لأحد بتقبيل يدها، ويقال إن هذا من خصال بركاتها وسبب من أسباب موهبة العلاج التي منحها لها الله، وكان قد منٌ بها على أبيها من قبلها. خلعت ملحفتها، وهي تدمدم بآيات كأنها تصلي، وطوتها بتأن، كما لو أنها من حرير رقيق ومعطرة ببخور خشب الصندل، وليست من القطن العادي الذي يفوح برائحة الدخان والدهون. كان لفاحها القطني القديم ملفوفا بإحكام حول وجهها ولاحقا تدلى على رسغيها، ولم يعد مرئيا منها غير يديها ووجهها المتوتر الحاد. تخلت عن صندلها وداست على البساط، ثم دارت حول الرجل دون أن تلمسه، وهي منثنية ومحدودبة كطير مفترس عجوز. تلت صلاتها طلبا للعون والحماية من المجهول. ثم طلبت من ريحانة ومليكة أن تدخلا إلى البيت، فهذا يجنبهما،كما قالت، رؤية عيب الرجل المجهول. وكانت تتكلم بحدة وعصبية كما لو أنهما تقاعستا واقترفتا خطأ النظر بهدف متعة محرمة. كانت دائما هكذا، جافة وصارمة، ولا تقبل التساهل بالقواعد. وصدر عن ريحانة صوت يدل على عدم التحمل، ولكنها لم تعترض. وأصبحت مامكي زيتونة، بسبب ما تتصف به من وضاعة وخشونة، إنسانة صعبة. وكانت دائما حاضرة الذهن وتعرف ما هو أفضل لها. مزقت القميص بموسى حادة دون أن تقلب الرجل، وجعلته عاريا من ياقته وحتى كاحله. كانت بنيته خفيفة وأوروبية. وجثمانه رقيقا وبارز العظام، وبدا هشا وغريبا في الضوء الساطع. اعتقد حاسانالي، أول الأمر، أنه واحد من العرب الحنطيين الذين يسكنون في الشمال، والذين سمع بهم، وبعيونهم الرمادية وشعورهم الذهبية، ولكن حينما خلعوا عنه صندله وسرواله، لاحظوا أنه غير مختون.
قالت مامكي زيتونة تكلم نفسها: هذا مزونغو. أوروبي. كان مرضوضا وممزقا لكن دون جروح على مقدمة أو جانبي جسمه. وبطنه شاحبة وناعمة جدا لدرجة غريبة، حامت يدا مامكي زيتونة فوق هذه الأجزاء منه بتردد، ولاحظ حاسانلي أنها تؤدي مهمتها بحركات رائعة ومخيفة، كما لو أنها كائن فضولي. كانت تلك هما نفس اليدين اللتين تعجنان الخبز الذي تهيئه مامكي زيتونة وتبيعه يوميا، نفس اليدين اللتين تحملانه بشكل رقاقات وتلقيانه على الفرن، ثم تقلبانه ولاحقا تلتقطانه دون أن تحرق نفسها. نفس اليدين اللتين تدلكان الكلية الملتهبة أو تكويان عجلا ينزف أو تعالجان بثقة الألم البشري. والآن تحومان فوق بطن الرجل الشاحبة. قلبته بيديها على جانبه. حشرج وفتح عينيه، وتوقع حاسانلي أن تفوح رائحة منكرة منه، ولكن بلغته رائحة جافة معجونة بالغبار، رائحة أسمال تعرضت للشمس لفترة طويلة، رائحة ترحال. لا بد أنه ضاع لعدة أيام، ويمكن أن تستنتج ذلك من شكله الجائع ورائحة الغبار والتراب والشمس. ووجد معظم الرضوض والجراح على ظهره، وكان لون أخضر قاتم وعميق على كتفه الأيمن، لكن دون جروح نازفة. قلبته على ظهره بهدوء، ثم غطته بالقميص الممزق وطردت النساء إلى الخارج. تحسست وجهه، فحشرج مجددا، وفتح عينيه المغبشتين. قالت بلهجة حادة كأنه أسلوبها بالكلام:”قدمن له العسل الممزوج بالماء الحار. ملعقة عسل وثلاث ملاعق ماء في كوب”. نظرت إلى ريحانة ثم صرفت عينيها عنها قبل أن يتم تواصل محسوس. وردت ريحانة على نظرتها بزمجرة. ليس أنا، تصور حاسانلي أنها تفكر.
قالت:”دعوه بعد ذلك كي ينام. لا يعاني من شيء خطير. هو منهك وعطشان بكل تأكيد. يوجد رضوض على كتفه، وربما كسر أو خلع. ادعوا مكسر السيقان لينظر في الأمر. أنا سأنتهي من تجهيز خبزي، هناك ناس بانتظاره. وسأحضر له بعض الحساء بعد ذلك”.
قالت ريحانة تستفسر باستنكار:”هل هو غير مصاب بوباء؟”
قالت مامكي زيتونة:”لم أشاهد أية أعراض. لا حمى، أو لا تبقعات، ولا رائحة نتنة أو إسهال. ربما هي لفحة شمس ودوار.
Limemkausha na kumtia kizunguzungu. وسأعود لاحقا بعد أن يشرب العسل، ويراه مكسر السيقان. أما الآن سأعود إلى خبزي”.
وبدا أن المرأتين لا تحتاجان إلى حاسانلي بعد الآن، وتبادلتا التعليمات بينما مامكي زيتونة تجهز نفسها لتنصرف.
غادر حاسانلي مكرها، وهو يأمل أن ينطق الرجل أو ينظر إليه أو باتجاهه. ولم يكن يرى أن المنطق يسمح له بتسليمه للآخرين. فهو من وجده أساسا. ولكنه لا يتكلم، أو على الأقل ليس حتى الآن. وفي الختام عبر حاسانلي من البيت في طريقه إلى الحانوت ليفتحه. وصاح:”اطلباني في حال الحاجة لي. ولا تنسي يا مليكة قهوتي”. قالت مليكة:”نعم يا سيدي”. وذلك بلهجة طاعة ساخرة.
وفي هذا الجو وصل بيرس الإنكليزي، وحرك المشاعر وخلق جوا دراميا، لم يكن منتبها له. كان حاسانلي رجلا صغيرا. وكان يعلم أنه صغير ومدعاة لقليل من الهزء بنظر الآخرين، لكنه مستدير القامة ووزنه يتجاوز المعدل. وحينما يبدأ المزاح يحاول أن لا ينتبه للغمز واللمز، ويلزم الهدوء ليتملص من المشاكل. وكان يعيش في هذه الحالة من الركود منتظرا السخرية والألم المرافق. ولم يتمكن من التغطية على قلقه، ومن يعرفه طيلة حياته يعرف هذا عنه، ويستغل ذلك للهزء منه. ويدعون أن ذلك له علاقة بجنسه، أسلافه. فالهنود جبناء، ويقال إنهم يطوفون في هذا المكان مثل فراشات خائفة. ولكن والده، وهو من أصل هندي، لم يكن رعديدا. كان رأسه في أيام شبابه عنيدا، ويغني ويرقص ويسابق الآخرين في الشوارع. ولكن الله خلقه من الهنود، لا شيء يمكن أن تعدل به جنسك، ومن هو ليجادل. الحمد لله. فتح عينيه، حذرا من المشاكل، إيمانا منه أن هذا أفضل ما بوسعه. خلال السنوات التي مرت تعلم أن يكون حليما مع من حوله، ولكن هذا لم يحفظه من المتاعب. كان يتقبل الهزء بروح طيبة، دون أن يسيء التفسير، ويعزو هذه المنغصات لمشكلة روحية أو لقلة التعارف. وخلال نفس السنوات احتفظ لنفسه بمكانة بعيدة قليلا عن زبائنه وجيرانه، لاختلافه عنهم. كان رجلا قصير القامة، دون شك، ولكنه قصير وماكر. كان حانوتيا، وهو عمل يتطلب الذكاء حتما، لتجبر الزبائن على دفع ما يزيد على الميزانية المقررة، ولتقدم لهم أقل مما يودون. وعليك أن تفعل ذلك بطرق ناعمة دائما، دون ضغط أو مشاكسة. وحينما سمع بالاتفاقات والصفقات التي يعقدها التجار والربح الذي يجنونه، انتفض من الذعر والحسد وخشي النتائج. لقد سخروا منه، ولكنه ابتزهم وأفرغ جيوبهم، ولو قليلا. ووضع خطة لتجارته. أحيانا كان يحسب أنهم يسخرون منه لأنهم انتبهوا لسعادته التي يجنيها من مكاسب قليلة ينتزعها منهم. وأحيانا يتمنى لو أنه شيء آخر، خباز أو نجار، شيء ترجو منه فائدة طويلة الأمد. لكنه ليس كذلك، فهو بائع في مخزن، مثل كثيرين غيره. وكان أبوه بائعا في مخزن، وابنه سيكون كذلك، حين يرزق بولد، وسيعمل بائعا في حانوت. فهم أشخاص صغار. حينما فتح الحانوت في ذلك الصباح، وجد بانتظاره ثلاثة من الزبائن. تسببوا له بالارتباك، كان أحدهم طفلا والآخران من الشباب، وهما من حمل الأوروبي إلى بيته، والآن يقفان بانتظاره ليقدم لهما شيئا مقابل ذلك. قال الشابان: كنا بانتظارك منذ وقت طويل، وتأخرنا عن العمل بسببك. كان بالعادة يفتح دكانه بتمهل، بعد الانتهاء من صلاة الفجر، ولا يكون أمامه أحد. وعمله ليس بسيطا. فواجهة الدكان من ألواح الخشب السميك، كل منها بعرض شبرين، وعددها الإجمالي ثمانية عشر. انتزع أول لوحين، ولبى طلب الصبي من هناك. أراد مغرفة من السمن. وأرسل تحياته لأسرته. لكنه منح كل واحد من الشابين مبلغ عشرة أننا. وتقبلا النقود لكن لم ينصرفا. ووقفا أمامه مع ابتسامة طفيفة. كانا شابين طيبين، وهما سالم وبابو. أتيا إلى دكانه بإلحاح من والدتيهما، مثل الصبي الذي باعه مغرفة سمن، وربما سيصبحان زبونين لديه مدى الحياة. أعطى كلا منهما عشرة أننا إضافية، ثم عشرة أخرى قبل الانصراف، مسرورا بنفحة الكرم هذه. كان ذلك لأنهما يعتقدان أنه أغنى مما هو عليه، وينظران لتقتيره على أنه تشدد. وهو شيء فظيع، أن تظهر بصورة إنسان شديد البأس، وتعصى تعاليم ربك، فهو يحض على أن تكون كريما مع المحتاجين. كان الناس يدفعون أنناتهم وروبياتهم القليلة للبائع الجالس على مؤخرته طوال النهار والليل فوق أكوام البضائع التي يرغبون بها، ويفترضون أن لا يفعل شيئا غير تكويم النقود. وهذا ما يقال عن الباعة، أنهم يعيشون كالفقراء والمتسولين ويخفون ثرواتهم في حفرة في الباحة الخلفية. خلع حاسانلي بقية ألواح الخشب الست عشر، كلا على حدة، وكومها على جدران المتجر من الخارج. ثم خلع الألواح المثبتة بمفاصل ووضعها على كومة الألواح السابقة. ورتب بضاعته للعرض بأمكنتها المعتادة. ثم جلس بين علب الزيت والسمنة والبهارات المنوعة، ونشر حوله سلال العدس والفول والتمور وأكياس الأرز والسكر. واستغرق وقتا بإنجاز ذلك. وأخيرا انتهى. وتحول تفكيره إلى القهوة التي وعدته بها مليكة وربما معها كعكة أو قطعة خبز. فكر وهو يلتفت للرجل المستلقي تحت المظلة في باحته. وانتابه الشعور بالتهور. ما نوع الرجل الذي يغادر بيته ليتجول في البراري على مبعدة ألوف الأميال؟ هل هذه شجاعه أم شكل من أشكال الحماقة؟ وما هو الأفضل هنا بالمقارنة مع ما خلفه وراءه؟ لم يتمكن حاسانلي من تصور أي حافز يدفعه للرغبة في جولة من هذا النوع. هل كان غبيا ليسمح لرجل غريب لا صوت له ولا اسم بالانتظار في منزله بوجود أخته وزوجته؟ ماذا تبين أنه شخص عنيف أو حاول اقتراف تصرف لا يخطر في الذهن، حينها ستكون لا مبالاة حاسانلي خطأ لا يغتفر. وقف على عتبة الباب التي تفضي من الحانوت إلى داخل بيته ونادى مليكة. قال:”أسرعي، هيا، تعالي حالا”. ردت: “قادمة، ومعي قهوتك”. كتمت صوتها الأكياس والصناديق المصفوفة في الممر الذي يقود إلى البيت. صاح بإلحاح :”تعالي حالا”. ولكن انتابه الاطمئنان من رنة صوتها. لم تكن تبدو خائفة، غير أنه رغب أن تسرع، ليتمكن من إلقاء تعليماته بضرورة الحذر، ولينبهها من هذا العالم الغدار. سألها حينما برزت ومعها إبريق القهوة وكعكة الدخن ملفوفة في قطعة قماش: “ماذا يحصل؟. ماذا يجري هناك؟”.
قالت مليكة: “حسنا، يبدو لي أنه شيطان اتخذ صورة بشر”. ووقفت على عتبة الباب ورأسها سافر بلا غطاء وكانت تنظر بعينين مذعورتين إلى حاسانلي.
قالت:”بمجرد أن قدمت له ريحانة رشفة من العسل مع الماء حتى تحول إلى رخ وهو الآن يجثم على السطح، بانتظار موت أحدنا ليسرق أرواحنا”.
قال حاسانلي:”توقفي عن هذه الحماقة”. لكنه ارتاح لأسلوبها في الإثارة. تابع يقول:”لا يمكنه أن يكون رخا. أخبرتك في السابق أزه للرخ اسم ولكن ليس صورة. ولا يستطيع أن يجثم على السطح”. وماذا فوق ذلك. الرخ روح لا تفنى وتغادر الجسم بعد موته، ولكنه ليس لص أرواح. كان المزونغو جسدا بلا اسم، وهو ليس رخا أبدا. لكنها لم تهتم، وكررت بعناد الخطأ الذي أثارت أعصابه به. كانت تزعجه كثيرا كلما اختلت به. وإحدى الخدع السرية التي تقوم بها مليكة هي تعنيفه ليعتذر منها ويعانقها. تبدلت حياته منذ قدومها. سألته:”ماذا تعتقد أنه سيحصل. الموزنغو يستلقي هناك، يحشرج ويرشف ما تقدمه له ريحانة، ويسيل الشراب من فمه ويتجشأ كالأطفال. مكسر السيقان جاء منذ دقائق وحاليا يتفحصه. لا تتعب نفسك فيما لا فائدة منه”.
قال وهو يقطب وجهه:”أنا لا أحمل نفسي ما لا فائدة منه”. ورغب لو يذكرها أنه يكبرها بالعمر مرتين، وعليها أن تظهر علامات الاحترام. وهو لا يريد المزيد من الاحترام، وإنما لا يريدها أن تستعجل الانصراف. قال:”أردت أن أعرف أنكم بخير. تأخرت بالقهوة، ونحن لا نعرف شيئا عن ذلك الرجل. وليس لدي فكرة عما يجري هناك”.
قالت:”الرجل يستلقي هناك ويتمسك بحياته بصعوبة يا سيدي”.
هز حاسانلي رأسه وسأل:”ماذا يقول مكسر السيقان؟”.
ردت مليكة:”لم يتكلم بعد. ولو فعل ربما لن يخبرنا بالحقيقة”. ثم أضافت همسا:”هو رجل كبير ومذعور”. قال حاسانلي وهو يلوح بتحية الوداع:”توخي الحذر الآن”. ورأى زبونا يقترب. أضاف بسرعة:”وأخبري مكسر السيقان أن يستشيرني قبل أن يفعل أي شيء”.
مكسر السيقان هو الذي يعالج العظام، وحمل اسمه وسمعته المخيفة لأنه غالبا ما يجبر العظام المكسورة بشكل خاطئ. وغالبا يضطر لتكسيرها مجددا ومحاولة تجبيرها بشكل صحيح. وأحيانا يحتاج لتكرار الجبيرة عدة مرات، وأن تسقط في قبضة علاج مكسر السيقان يعني احتمال مأساة صغيرة. والآباء يرتعشون إذا سقط ابن لهم، خشية من خدمات مكسر السيقان وما يترتب عليها. ولا يوجد غيره لتسوية مشاكل العظام. وتمنى أن المزونغو المسكين غير مكسور. وأعجبت حاسانلي فكرة وجود مزونغو في بيته. فقد شاهد أحدهم سابقا، منذ سنتين أو ثلاث، حينما ذهب إلى المدينة وتجاوز خزان الماء. حينما كان طفلا، ذهب إلى الشاطئ مثل غيره، ولكن حينها لم يكن يوجد مزونغو. والآن ليس هناك من يعتني بالحانوت، وقد كان يشتري مخزونه بترتيبات ثابتة مع الموزعين، ولم تعد لديه حاجة تدعوه لمطاردة أحد بعد الآن. وأحيانا في وفاة جار أو شخص معروف، كان يغلق الدكان وينضم للجنازة حتى المقابر. وفي رمضان لا مدعاة لفتح الدكان في ساعات النهار، فلا أحد يغادر بيته. كذلك منذ حضور مليكة كان يغلق الحانوت للغداء ويستريح قليلا حتى المساء. وفي غير هذه المناسبات، أو مناسبة أو اثنتين مثلها، يفتح دكانه يوميا منذ الفجر بعد الصلاة وحتى ساعة بعد الغروب. ونادرا ما يترك موضعه قرب صندوق النقود لأي سبب. وغالبا ما يمرن قواه العضلية لتكون تحت طوع هذا النظام القاسي. وتصادف يوم رحلته إلى الشاطئ مع يوم العيد، والعادة تقتضي إيقاف كل النشاط التجاري على الأقل لقسط من اليوم، وقد ذهب إلى الخليج برفقة الجميع ليشاهد سباق القوارب السنوي. وهناك التقى بمزونغو، يجلس على دكة بين نبلاء من العرب. وكان مظهره كتيما وطويل القامة، بسترة خضراء وسروال أشهب، وواحدة من قبعات القماش التي سمع عنها ولم يشاهدها. وعلم أنه الرجل الذي أوفده السلطان من زنجبار ليدير المزارع، والذي حرر فجأة العبيد وأضر بثروة الملاكين. وكان مزونغو بعيدا جدا حينما قابله حاسانلي، مجرد سترة خضراء وقبعة، ويبدو أقرب لشخصية خيالية وليس حقيقة. ولكنه الآن ضيفه، ويستلقي وهو يحشرج على بساط الطعام في باحة بيته. والضيوف مدعاة للاهتمام دائما، وبالخصوص في الأيام الأولى. وكل شيء يتحول لفوضى مرحة ويحصل الجميع على وقت طيب لفترة من الزمن. وارتاح لذلك. ولكن ضيفه مختلف تماما. أوروبي، مزونغو. ماذا يتوجب عليهم فعله بالأوروبيين؟ عليه أن يترك لحمزة أن يستضيفه. لدى حمزة حجرات فارغة في بيته، بالإضافة إلى الإمكانيات والمفروشات التي يرتاح لها المزونغو. أما هو لديه حجرتان وعلى حاسانلي أن يتشارك على غرفته معه. ومما سمع عنهم ينفرد الأوروبي في غرفة خاصة، وأحيانا يعيش في بيت كامل بمفرده. وماذا عليهم أن يطعموه؟ وكيف يجب أن يخاطبوه؟ ربما هو إنكليزي أو ألماني أو لعله إيطالي. ولا يعرف حاسانلي كلمة من هذه اللغات. ولماذا يعرفها؟ فهو مجرد حانوتي في بلدة متهدمة تعيش على هامش الحضارة. وفكر وهو يوضب سلاله وأكياسه في الدكان: ربما عليه أن يرسل كلمة إلى حمزة ويطلب منه الحضور ليصحب معه الغريب سواء هو إنكليزي أو غير ذلك. وانشغل بهذه الفكرة، وبدأ قلبه الواثق يتسارع بنبضاته. عليه أن يرسل رسالة قصيرة فورا. يقول فيها: رجاء تفضل ورافق الإنكليزي، أنا لا أمتلك غرفة في بيتي المتواضع لضيف من هذا النوع. ولكنه خشي أن يستغل الآخرون ذلك ويسخروا منه، كم سيضحكون عليه لهذا السبب. سيقولون إنه بخيل وضيق الصدر ومقتر، ويكره تقديم الضيافة لغريب جريح، مع أنه يحتفظ في بيته بكنز مخبأ عن الأنظار، هذا النوع من الهراء. والحقيقة أن المبلغ القليل الذي وفره سرا لا يرقى لدرجة كنز. ثم هو من شاهد الرجل الذي جاء من ظلمات الفجر واعتقد أنه طيف جمده الضوء القريب. وعينا الرجل الضبابيتان والرماديتان هما من نقبتا عنه ووجدتاه. كأن قدرا إلهيا جعل الأمور تأخذ هذا المجرى، والله يدبر ويمكر لكنه لا يغامر. إنه عبء وعليه تحمله، ربما اختاره الله لذلك لامتحانه أو لمعاقبته أو اختبار قدراته، وتلبية لحكمة لا يعرفها غير ربه حاليا. كيف يمكنه التفكير برفض استضافة الرجل الجريح وعلاجه؟ بعد أن اقتنع أن التخلي عن الأوروبي معصية لله، شعر حاسانلي بعودة الحنان الهادئ الذي انتابه سابقا حينما رأى الإنكليزي في بيته. كان كأنه امتلك حيوانا أليفا غريبا وكاد أن يفرط به، لو لا أنه نظر بالمسألة بشكل منطقي في الوقت المناسب. وبدأ تيار زبائن الصباح ينهال عليه حينما غادر مكسر السيقان بيته. جاء من الداخل وعبر الممر وهو مستودع ملحق بالدكان أيضا. منحه حاسانلي نظرة سريعة وشكاكة، خشية من أن ينتشل شيئا ما وهو في طريقه. كانت نظرة عفوية، نتيجة انعدام ثقة معتاد. كانوا دائما يخدعونه، جميعا. قال حاسانلي لنفسه: من نصحه بالمرور من هذا الطريق؟.
ولا يوجد من ينادي مكسر العظام علنا بهذا الاسم وبحضوره، ما لم يكن قادرا على الجري السريع أو لا يخاف من كسر بالصدفة. سأله:”كيف حال ضيفنا؟”. كان مكسر العظام شيخا كبيرا، ببطن واسعة ومنتفخة تحت قميصه. وقصص الشجاعة وتهوره الجنسي في أيام شبابه جزء من أسطورته، وحتى وهو في عمر متقدم وجد من الصعوبة بمكان أن يقاوم سلوكه الاستعراضي مثل محارب مغوار. كانت الطاقية القطنية الضيقة والسميكة التي يرتديها قد أضفت خشونة على مظهره وجعلت رأسه يبدو مثل قذيفة المدفع. كان يحتك بالجميع، ويسرع في الشوارع بكتفين مشدودين للخلف، وبطن مندلقة للأمام، وهو يجدف بذراعيه كجندي، بطريقة لافتة دون أن يشعر بهيئته المضحكة. كان الناس ينادونه بلقب الكابتن (النقيب) ليسعدوه. ولكن السخرية تتم من وراء ظهره أو من مسافة بعيدة، فحماقته معروفة، وله سمعة رجل خطير. وكان يحيا بمفرده في غرفة أرضية مستأجرة، لها نافذة مفتوحة على الشارع. وفي نومه يشخر بغضب وسمعه عدد من المارة وبعض الجيران ليلا. ولكن لم يجرؤ أحد على إيقاظه خشية من غضبه المخيف.
وكان بين طليعة جنود بلوشستان الذين أرسلهم سلطان زنجبار لحراسة المزارع الجديدة. كان سلاطين البوسيد يعولون على المرتزقة البلوشي، لسبب ما، واستخدموهم منذ البداية في غزو الساحل. وحينما قرر السلطان ماجد استثمار الأرض الممتدة وراء هذه المدينة البعيدة عن سيطرته، أرسل مجندي البلوشي مع ألوف من العبيد للعمل في المزارع. وهناك في المزرعة حصل مكسر السيقان على سمعته كمجبر عظام. ارتجف حاسانلي من صور العبيد المساكين الذين كانوا أوائل مرضاه.
انتظر الزبائن، الذين سمعوا بحكاية الأوروبي، رأي مكسر السيقان. وأمكن حاسانلي رؤية الثلاثة، حمزة، وعلي كيبارا، وجمعان، قادمين من جلسة الصباح الباكر في المقهى، وكانوا يعبرون الفسحة وأنظارهم على مكسر السيقان في الدكان. كانوا يرغبون بمعرفة ما إذا هناك حاجة لخدمات مكسر السيقانالمرعبة. سأل أحد الزبائن مكسر السيقان:”يا كابتن، هل صدق من قال إن عظام الأوروبيين تشفى من تلقاء نفسها؟”. كان شابا نحيلا ينقل المنتجات في البلدة لمن يدفع له. كان يقف كل صباح أمام الدكان للحصول على حفنة تبغ يمنحها له حاسانلي مجانا، كي يكسبه ويستغله لاحقا في واجبات خفية هو بحاجة لها، ولأنه يتعاطف معه. ولم يسمع حاسانلي أنه ينتمي لعائلة أو لديه مأوى. ويبدو دائما مرتبكا، على شفا حفرة، تكشيرته قاسية، ويضحك كالمجانين، ومزاحه مقرف وصاخب. ويتعاطى الكثير من الحشيش، بإقرار الجميع.
ابتسم الجميع مدركين من نغمة السؤال أن مهاترة تقترب، وأن مكسر السيقان سيفقد أعصابه ويرد باهتياج أو بما هو أسوأ. قال مكسر السيقان بفتور:”ما هذا الهراء”. وفهم الجميع أن لحظة الانفجار الميلودرامي قريبة. أضاف:”عظام الأوروبي ضعيفة بسبب البرد والرطوبة في بلده، ولأنه يأكل لحم الخنزير دون طهي، الكل يعرف ذلك”.
قال الشاب:”هذا يعني يا كابتن أنه يسهل كسر عظامه عدة مرات خلال علاجه”. ثم قفز وهو يدمدم مقلدا جراحة مكسر العظام. وبدا الاهتمام على مكسر العظام، وهو ينظر نظرة ثاقبة وسريعة إلى الشاب الهزيل. ثم استدار مضطرا وببطء نحو حاسانلي الذي سأل :”هل من كسور؟”. رد مكسر العظام بحزن:”لا، لا يوجد كسور”. وهز رأسه لهذه النتيجة المؤسفة وأردف:”رضوض عميقة فقط. دهنت كتفه بمراهم مغذية وسأحضر لاحقا لأفحصه. وربما عليك إرساله إلى المدينة المأهولة بالعرب. سيعتنون به حتى مجيء سفينة. أو يعرضونه على طبيب في مومباسا أو غيرها”. قال حمزة:”نعم”. وكان قد وصل بالوقت المناسب ليسمع هذه الملاحظات الأخيرة. تابع:”أرسله للمدينة المأهولة. نحن لا نريد أن يتعرض لمكروه وهو في بيتك”. قال علي كيبارا:”هذا آخر شيء تفكر به” وهز أصبعه للتأكيد. قال حاسانلي:”لكنه يحتاج أولا للراحة”. ولم يكن متحمسا لمفارقة المزونغو الذي يستضيفه. حضر قيراطا من الأرز ولفه في قطعة قماش، ربطها بحزمة أنيقة وقدمها إلى مكسر العظام، الذي استلم اتعابه بصمت وغادر الدكان. وحالما فهم الرجل الشاب النحيل ما يجري، قبض عليه مكسر العظام من ياقته، وقرص أذنه دون رحمة. شخر يقول:”لديك أسلوب أيها الزنديق الموبوء الوسخ، أنت ابن كلب ينبح وحفيد حيوانة بأربعة أثداء”. وشد على أذن الشاب بقسوة أكبر. وسأله مكسر العظام وهو يشد على أذنه بوحشية لمرة أخيرة:”أنت قرد، غوريلا بلا دماغ، كلب متشرد. هلىفهمتني الآن؟”. ثم انصرف وعاصفة من الضحك وحشرجة خانقة تأتي من كبار السن. وكان يلوح بذراعيه مثل جندي في استعراض، بينما الشاب الهزيل يتحسس أذنه الجريحة ويشتمه شتائم قذرة وهو يبكي بحنق ومهانة. خدم حاسانلي زبائنه، وبعد الزحام حل الهدوء والصمت، وانصرف الناس ذاهبين إلى أعمالهم، أو إلى بيوتهم لتناول الإفطار. وكان يعلم أن المصلين الشيوخ سيعودون في الصباح ليجلسوا على الكنبة التي وضعها أمام الدكان لأجلهم، بمجرد أن تختفي الشمس وراء البيوت المجاورة. ولاحقا حينما تظهر مجددا في منتصف اليوم، سيذهبون بعيدا لمكان ظليل آخر، أو ربما يعودون أدراجهم إلى المقهى، ثم إلى المسجد وبعد ذلك يرجعون إلى الدكان في وقت متأخر من بعد الظهيرة. وفي برودة العصر والمساء ستخف الإشاعات، وتطول الحكايات عن ذكريات الأزمنة القديمة. وهكذا هو الحال دائما، منذ أيام أبيه. فالشيوخ أنفسهم يتبدلون قليلا، وينشطون أو يتقاعسون وفق ما تمليه درجة الخرف أوقوة الذاكرة، ولكن الكنبة تبقى في مكانها، هناك دائما، ولا تخلو من زائر يجلس عليها. وفي هدوء الصباح بعد الزحام، يتوفر له الوقت للتفكير بضيفه. وعندما يستيقظ الرجل، وبعد أن ينال قسطا من الراحة، سيسأله أين يحب أن يذهب: إلى العرب أو إلى حكومة مزونغو. أما الآن فيجب أن يرتاح. لم يحل عليهم من قبل ضيف غريب وغير متوقع مثله. منذ زواجه قبل عامين، كانت أم مليكة تأتي كل عدة شهور لتمكث برفقتهم لفترات طويلة. وكانت خالتهم مريم، كبرى أخوات أمهم، تأتي كل عدة شهور أيضا، وأحيانا يتزامن ذلك مع مجيء أم مليكة. كانتا صديقتين منذ الأيام الماضية، ومن خلال هذه الصداقة القديمة دبرت الخالة مريم زواج حاسانلي ومليكة. وكل ما كان عليه في النهاية أن توافق على إجراء الترتيبات، وفي هذا التوقيت ظهرت محبوبته مليكة. كان من المقدر للأمور أن تتدهور، ولكن لم يحصل ذلك. وهذه معجزة. حينما تجيء الخالة مريم يرافقها دائما ابن أو بنت خال أو خالة أو ما شابه ذلك. واقتنع حاسانلي أنهم يثقلون عليه. أبناء الخال هم أبناء الخال حمادي الذي يعيش في مومباسا. ولم يقابل حاسانلي هذا الخال غير مرات قليلة، جاء مرة ليعزي بوالده بعد الجنازة بعدة أسابيع. وتأكدوا جميعا حينذاك أن الخال حمادي، الذي قال إنه أتى ليرى أن أخته ليست عرضة للهوان في ظل الترمل، جاء في الحقيقة بحثا عن أي مكسب مستطاع. وظهر مرة ثانية فورا بعد وفاة أمهم. وفي هذه المرة قال إنه جاء ليرى أن أبناء وبنات خالته ليسوا بضيق. ولكن لم يغفل حاسانلي عن الطريقة التي نظر بها إلى ريحانة. وكانت حينها في التاسعة عشرة تقريبا. وخشي أنه أزمع أن يطلبها ليضمها لبقية زوجاته مهما كان عددهن. وكانت الخالة مريم زائرة أيضا. وربما أخجله حضورها فلزم الصمت. كانت الأكبر بين ثلاث ولها عين ثاقبة تلاحظ السخافات، ومن المقدر أن تسخر من الخال حمادي لاحقا لو تطرق إلى زواجه من ريحانة. ولا يمكنه أن يتذكر إن قام بزيارات إضافية في شبابه، ولكن هم لم يلتقوا بالخال حمادي طيلة سنوات قبل أن يخص ريحانة بتلك النظرات المقلقة. وكانت الخالة مريم موضع ترحيب دائم. وبعد وصولها بلحظات تباشر وهي بالثياب المنزلية بتوزيع الأخبار والشائعات المرحة، ضاحكة.. وتغرق بالضحك والقهقهات. وتوزع هداياها الريفية من خضار وفواكه. وليس بعد مرور وقت طويل تجد شيئا تنشغل به، مثل تنظيف الأرز من الحصى، وكنس الباحة، وغسيل ملاءات السرير أو غير ذلك من الضروريات. كانت لها مزايا من هذا النوع. وتدخلها لا يعد تطفلا ولا إزعاجا، ويكون طواعية وللمشاركة. وحينما تكون بزيارتهم، ينجزون كل الواجبات المؤجلة منذ شهور بطريقة ما. وحينما تكون موجودة تكثر الأحاديث الضاحكة كل الوقت، ويأتي الجيران الذين لا يراهم أحد في الحالات العادية. غير أنها محرومة من أولاد من صلبها، وتعيش منفردة بنفسها منذ سنوات عديدة. وكانت تحب من أبناء وبنات أخوتها وأخواتها أن يأتوا ويمكثوا معها لعدة أسابيع في كل عام. وكان حاسانلي يذكر زوجها من تلك الزيارات، فهو قصير وبدين وودود مات فجأة بنزيف داخلي لا يعرف أحد أسبابه. وتقول الخالة مريم أن حاسانلي يذكرها به، وحتى في زمن حياة زوجها، هددته أن تهرب منه وتتزوج من حاسانالي عوضا عنه. وحينما كان والدهم حيا اعتادت الخالة مريم أن تغازله وتتقرب منه كل عدة أيام، وعرضت نفسها عليه لتكون ثاني زوجة له. وكانت تقول الوالدة عنها إنها لا تستحي، أما الخالة مريم فقد قالت إن من حق الرجال الزواج بأربع، وهي تفكر بأربعة أزواج وسيمين. وحالما تكره أحدهم تستبدله بالآخر، وفي الحقيقة بقيت أرملة كل حياتها بعد وفاة زوجها. والآن تأتي بأولاد الخال حمادي كلما جاءت ليمكثوا معها، وأحيانا أبناء خال أبعد من بنت خال أو خالة لا يعرف عنهم حاسانلي شيئا. ويبدو أن بنت الخال طلقت بسهولة ولديها عدة أطفال، ووزعتهم بين أقاربها ليعتنوا بهم. وقالت الخالة مريم إنها تريد من كل أفراد العائلة أن يتعارفوا على بعضهم بعضا، ولكن لم يهتم بهذا الشأن غيرها. ولو أن أم مليكة تطيل في زياراتها إن الخالة مريم تعلم بطريقة مهذبة متى تغادر. فالبيت بلا غرفة إضافية، وأي زائر يعني اتخاذ ترتيبات مزعجة تطال أمكنة النوم والطعام، وخصوصا في وقت استعمال موضع التغسيل. وتصبح الوجبات مطولة، والأحاديث مسلية وتتخللها الضحكات، على الأقل في البداية، ووجد حاسانلي أن الخطط الكثيرة وإعادة النظر بها مدعاة للاهتمام. وكلما تأتي أم مليكة تشارك ريحانة غرفتها، وتجبرها بأمراضها وشكاواها، للجوء إل الباحة معظم اليوم. في بعض الأيام تكون حساسة من الإضاءة، وفي أيام غيرها تتحسس من الحر. وفي بعض الصباحات لا تحتمل برد بواكير اليوم، وفي بعض الليالي لا يمكنها الرقاد بسبب الطنين قرب أذنها. وإن لم تكن تتألم من كل هذه التعقيدات ولا تشكو مر الشكوى، تدخل في حوار هادئ وتروي قصصا وأخبارا طويلة ومدهشة. وأحيانا يجلس حاسانلي بالجوار في الباحة، يسترق السمع لحوار المرأتين خلال جلوسهما أو تمددهما على بساط تحت جنح الظلام، كابحا رغبته بالتدخل والسؤال عن مزيد من التفاصيل. وهما تعلمان بحضوره، وتخفضان صوتيهما كلما اقترب الموضوع من ناحية شديدة الحساسية بالنسبة لسمع الذكور. ولم يكن يمانع لأنه يسمع ابتسامتيهما في العتمة. ويكون الموضوع أكثر تعقيدا إذا جاءت الخالة مريم مع الأبناء الصغار. وأحيانا لا يعرف حاسانلي أين سينام حتى يضرب رأسه بوسادته. ولم يعرف كيف سيفسر كل هذا لضيفهم المزونغو. وسيكون أسهل لو تخلوا عن غرفتهم له. يمكن لمليكة أن تنتقل إلى غرفة ريحانة، وهو ينام في الممر. ولاحقا حينما يستعيد مزونغو قواه يمكنهم أن يسألوه كيف يريد منهم أن يتصرفوا.
عبد الرزاق قرنح: كاتب بريطاني مولود في تازانيا لأبوين من أصل يمني. من أهم أعماله: الجنة 1994، مديح الصمت 1996، بجانب البحر 2001، الهدية الأخيرة 2011، قلب من حصى 2017، ما بعد الموت 2020. حاز على نوبل في الآداب عام 2021.