ما الذي يمكن أن تشكّله مجموعة من القصص القصيرة جدا ضمن أجواء النصوص التي تصدر بشكلٍ بومي ومتسارعٍ، ليس في العراق فحسب بل في العالم أجمعه؟ ما الذي يمكن أن تمنحه مثل هكذا مجاميع

للذائقة القرائية والتلقّي الثقافي؟
إن الأسئلة ربما تتوارد وتضع نفسها في سلّة الكتابة كلّما أوغلنا في التفكير، وهو الأمر الذي يمكن إمساكه مع مجموعة (طبشاروم) لطالب عمران المعموري، وهي مجموعة تحمل قصصًا قصيرةً جدا، تبدأ لعبتها السردية منذ العنوان (طبشاروم) الذي سيكون رأس الرمح في صناعة السؤال الذي يطرح، ماذا يعني هذا العنوان الذي لم يكن عنوان قصّة من القصص القصيرة جدا، لكنه حين يستعين بالمعلومات التاريخية، فسيجد ما هو مرتبط بالحكاية والأسطورة، وكأن القاص يريد الربط ما بين أسطورة الواقع وأسطورة الماضي لأسطرة كتابته في هذا الاتجاه، كون هذا العنوان يعني (الكاتب أو الناسخ على الألواح) في اللغة الأكدية، وبالتالي فإن الإسقاط الذي يشكّله العنوان، أنه بداية اللعبة السردية للقاص داخل المجموعة، لأن الكاتب الذي يصل الى مرحلة الاحتراف يتحوّل لديه النصّ الى لعبةٍ يشكّل فيها مفرداته، لإنتاج نصٍّ مختلفٍ عن السائد، أو على الأقل يكون بمستوى ما هو متقدّم منها كي لا يقع في محضور السلبيات.
إن هذه النصوص القصصية التي تعتمد في لعبتها على ثلاث مساحات مهمة.
الأولى: مساحة العنوان/ عنوان النصذ الواحد، الذي يكون جزءًا من المتن السردي وليس ثريا النص. بمعنى إن فلسفة العنوان هنا أكثر فاعلية منها في القصة القصيرة، لأنه جزءٌ من معترك التدوين والفكرة والارتباط التأويلي العام، ولا يمكن تركه والبحث عن مكامن الإبداع في المتن.
الثانية: امساحة الشكل القصصي الذي مازج ما بين شكل قصيدة النثر لينتج نصًّا سرديًا قائمًا على وحدة الموضوع، باعتبار أن هكذا نوعا من القصص لا تمتلك حكاية تحكى، بل فعل حكاية لجزءٍ مختار من جزء الحياة/ الواقع/ المخيّلة. وإذا ما تمّت حكايتها (سالفتها) فإنها تتحوّل الى قصّةٍ قصيرة، وإن كانت بعدد كلمات أقل، بمعنى إنها تحكى كتأويلٍ أكثر منها فعل حكاية.
الثالثة: هي مساحة إفعال الدهشة لتقرير فاعلية المستوى التأويلي الذي ينتج لنا روح القصص القصيرة جدا ووجودها، باعتبار أن هذا النوع القصصي يعمل على تفعيل وتثوير عنصر الدهشة من خلال اللغة القادرة على الإتيان بعناصر التأويل والقصدية وحتى المعنى المراد طرق أهدافه.
إن هذه المجموعة تمنح لذعتها عبر متونٍ فكريةٍ تعمل على إدخال أكبر قدرٍ من المستويات السردية لتخرج من جبّ النصّ النثري، خاصة وأن هذه الخاصية التي تعتمد في هيكليتها على المفردة التي تقود الفكرة لإنتاج النصّ السردي باعتبار أن اللذعة هنا ترتبط بالدهشة التي يصنعها شكل النص ومساحته ومفرداته القليلة، وهو بالتالي لا يأخذ حيّزًا معينًا من الحياة، كما هو في القصّة القصيرة، بل يأخذ جزءًا من الجزء ليجعله عاما.
إن الاحتكام الى فاعلية اللعبة تعطي مدلولًا على مقدرة الكاتب، لكي ينتج لنا نصوصَ الحياة، نصوصًا يريد أسطرتها ليس في بعدها الأسطوري، بل في بعدها الواقعي الذي يمتحن القدرة على استغلال الهواجس من جهة، والتعبير عنها بلغةٍ واضحةٍ ومرتّبةٍ تبدأ بالعنوان الذي سيّره القاص في المجموعة، ليكون من كلمةٍ واحدةٍ إلّا في قصة واحدة، وهو ما يعني أن واحدةً من أهم علامات هكذا نوع سردي، إن النص يبدأ وينتهي في بوتقةٍ واحدةٍ ويكون جزءًا من معترك التدوين والفكرة والارتباط التأويلي العام، ولا يمكن تركه والبحث عن مكامن الإبداع في المتن ما بين الاستهلال والنهاية. ولهذا نجد إن الكثيرين من متعاطي هذا الجنس يجعلون العناوين وكأنها عناوين قصصٍ قصيرة. لكنها في هذه المجموعة، تبدو وكأنها جزء من المتن وهي واحدة من غايات النص القصير جدا.
إن اللعبة السردية في المجموعة لا تبحث عن مبرّرات خضوع الوعي الى النص، بل خضوع النصّ الى الوعي. فالقاص يستلّ حكايته عبر منطقة الوعي الخاصة به، ولهذا نرى أن المفردة لديه متسارعةٌ ملتصقةٌ ومتراتبة هيكلها، لتصير مفاتيح النص، وعلى القارئ فكّ الشفرات وتقشير المعاني للوصول الى قصدية النص والتأويل. ولهذا فإن اختيار الشكل ارتبط بالفكرة، لتراوح بين كونها مفرداتٍ سرديةً بثوبٍ نثري، وبين كونها مفرداتٍ نثريةً بثوبٍ سردي، وهو ما جعل الثوب النهائي مكوّن من وعي الفكرة ونصّ الكتابة وهيكلية التناول والمقدرة على ترتيب المفردات لإنتاج المستوى التأويلي، ولهذا نرى أن الإخبار كمستوىً طاغٍ على المجموعة، وهو مستوىً يعمل على تثوير الفكرة ليدخل في المستوى التحليلي للمفردة. فهو لا يختار حكايةً ويرتبها (أرسطويا) بل يختار وعيًا لإنتاج وحدة قياس لمفاعله النصي، أي أن الحكاية هنا لا تكون هي القمّة العليا في اللعبة، بل هي الحمولة التي تمنحها المفردة وشكلها لتكون مكتنزة بالتأويل. ولهذا فأن المفارقة التي لديه تكمن في نهاية القصة/ الفكرة.. كما هو مفهوم النوع السردي كون نهاياتها تختلف عن نهايات القصة القصيرة، لاعتمادها على المفارقة، وليس على تصاعد الحدث في الحكاية. أي وجود المفاجأة التي لا يتوقّعها المتلقّي. وهو ما يعني أن التفسير المباشر غائب، وعليه تحميل النصّ ماهية الفكرة المراد طرحها، وبالتالي التماهي معها.
إن غياب الحكاية بشكلها المتعارف، لا يسقط عنها فعاليتها السردية لأنه أردها هو أي القاص أن تبدو لعبته هكذا في طريقة طرحه التي تحتاج من المتلقّي أن يفكّر معه ويفكّكها ويحكيها مع نفسه.. ولو أردنا أخذ أنموذجا من هذه القصص لنرى فاعلية المساحات الثلاثة التي لعب فيها المعموري.
(إيجاب
استدعاها، لامست هدوء ملامحه ،
قطف ثمار كلماته…
أهداها ، همس في أذنها كلمات ناضجة ، تبسمت على استحياء!)
هناك نقرأ فاعلية العنوان الذي يعد جزءًا من المتن، ومن ثم وجدنا إن المساحة الكلية للنصّ تخلو من الاستهلال المتعارف عليه، ونرى أن المفردات سريعة، رتّبها لتكون ثوبًا نثريًا بقصدية سردية، ومن خلال الضربات أنشأ فاعلية اللعبة التأويلية التي تجد ضربتها الكلية وفاعلية الدهشة واللذعة في النهاية التي تتراوح ما بين المفارقة والتحليل النهائي.
إن هذه المجموعة تحمل قوامها السردي والنثري معا، حين انتهج لعبته الخاصة التي لا نقول تفرّد بها لكنه أخذ مفتاحا من مفاتيح النصّ القصير جدا، ليفتح أبواب التفكير مع النص.