حــصــــــــرياً بـمـوقـعــنــــــــا
| د. حسن الخاقاني : في الطريق إلى اليباس.. قراءة في بعض قصائد عبود الجابري .

اتجهت الشعرية الحديثة في عصر ما بعد الحداثة إلى استيعاب التحولات العميقة التي أصابت نسق الثقافة السائد الذي لم تعد فيه الحياة سوى لوحة بلهاء، جافة يغلفها الرماد، ويحاصرها

حسن الخاقاني

 التصحر من كل صوب.
لقد تلاشت الآمال العريضة التي انخدعت بها أجيال سابقة كانت تطمح بكل قواها المنظورة والخفية إلى إحداث تعديل مؤثر في مسار الحياة الإنسانية، وتحطمت على صخرة اليأس حتى عادت أشلاء مبعثرة في الأرض اليباب، ولم يجد الشاعر نفسه – وقد تسلم راية الهزيمة – إلا بوق يأس شاهدا على ما أصاب الذات الإنسانية بصفتيها الفردية والجماعية من خراب عميق لم يعد بالإمكان تداركه، أو إصلاحه كلاًّ أو بعضا.
ولعل في مقدمة الأصوات الشعرية الحديثة التي تمثل خير تمثيل هذا النسق الثقافي الموسوم بالعدم والضياع شاعرنا الأثير عبود الجابري (ولد 1963) الذي غادر بلده مضطرا وهو في مقتبل العمر ليشيب في غربته على سياج وطن موصد الأبواب ينظر إليه بعين الرؤية والرؤيا فلا يبصر في داخله سوى الخراب الذي استحال إلى طريقة عيش فرضت على أبنائه المستلبين، وهذا هو الشعور المهيمن على قصائد عبود الجابري التي تتحول فيها إمارات الحياة إلى نماذج للخيبة وفقدان الدليل في قافلة ضياع تسير مرغمة واعية نحو يباس الحياة وجدبها جذورا وأغصانا وكأنها شجرة معمرة فقدت قدرتها على مجابهة مصيرها الأسود، بعد أن عاثت دودة الخراب في عمق عروقها الممتدة في جوف الأرض.
كان عبود الجابري على وعي برمزية الشجرة التي جعلها بموازاة الحياة نفسها، شجرة يحاصرها الجفاف والموت حتى تتيبس أغصانها وتذوي أمام أنظاره العاجزة عن فعل شيء سوى افتراش عشبة الحزن الخالدة:

من يدلّني
على عيون الشجر؟
كي أرسم شجرة مغمضة العينين
وأجلس قرب وسائدها
ريثما تصحو
يكفيني أن أخفق مرارا
في رسم صورتها
يكفيني هذا اليقين الجارح
كل صباح
لأعرف أن وجهها وحده
أكثر اتساعا
من مخيلتي اليابسة
تكفيني كل هذه الأنفاس
ساخنةً
وهذا اللهاث المر
لأشعر بوضوح
أنني غارق في تفاصيلها
مثل تراب
يوجعه عطش الجذور
……………
لم يكن هذا العطش إلا نتيجة فعل إنسان ضل سبيله ليلهو عن واجبه الرئيس في تغذية الحياة والحفاظ على عناصر ديمومتها، فقاد ذلك إلى انحسار الخضرة – رمز الحياة – وحلول السواد – رمز الموت المحقق – وكأنه فعل عقم، أو فعل قتل:

قتلنا الأحاديث بالتأويل
فرسمنا نخلا عاقرا
في الوقت المتاح
بين شجرة وشجرة
وملأنا الفراغات بالعشب
وحين لم نعثر على الأخضر
في علبة الألوان
سقينا الأرض
بالفائض من الأسوَد
ومضى كل منّا إلى بيته
لم ننتظر تمرا من النخل
ولم نضرب موعدا
على العشب
حتى أننا لم نكترث
لأحاديث يتداولها الناس
بشكل يومي
عن الحديقة السوداء
يزودنا الجابري بما يكفي من إشاراتِ سيرٍ دالة مساعدة في الوصول إلى سبيل الموت السالكة، ومنها الإشارة إلى الأحاديث والأقوال كناية عن الجدل العقيم، والسرديات الجوفاء التي أغرق فيها الإنسان نفسه من دون جدوى، فالجدل بديلا عن العمل، والركون إلى الإيمان بأيديولوجيا خادعة تصرف الإنسان عن مهمته الأساس في رعاية شجرة الحياة والمحافظة على أغصانها من التكسر والتهدل والسقوط، وعلى جذورها من العطش والجفاف واليباس جعلا الموت يأتي صادما صريحا في موعد لا يخلفه، ولا يقبل الانصراف عنه أو التأجيل فيه:

أمّا نحن
فقد قلنا كل شيء حين اقتربنا من الموت
لكننا لم نمت
ولم يعد بمقدورنا، أن نغير أقوالنا
فصرنا نحب الموت أكثر
من الأغاني
صرنا نتودد إليه، كي يقول شيئا
يحمل ألسنة الناس
على الصمت
فليس من الحكمة
أن نحاول إقناعهم، بعد هذا العمر
أن الموت يمكن له
أن يخلف مواعيده
أسوة بالفصول
والأصدقاء
…………
وإذا كان الموت هو النهاية المحتومة لكل حياة فإن السبيل إليه مقطوعة أحيانا بأنواع من العذاب، أنواع من الغربة والضياع، والتحول إلى شيء من الأشياء.
فالغربة والشعور الناتج عنها بالوحدة في عالم جاف تدفع بالإنسان إلى أن يكون خارج نطاق حسابات الحياة وإن قيل عنه إنه على قيد الحياة، فهو قيد مؤجل أو غير مفعّل، بل هو البرزخ الفاصل بين الموت والحياة، معلق بينهما للدرجة التي يستثير بها عطف الآخرين وشفقتهم، لكن كل هذا في النهاية لا يعدو أن يكون وجها من وجوه العذاب الكثيرة:

تبرع لي صاحب المقهى
بحبتين للصداع
وحين بكيت
حمل إلي النادل كأسًا من الماء
والرجل الغريب
حتى ذلك الرجل الغريب المتجهم
أشعل لي سيجارتي
بينما كان ابنه
يقرّب مني منفضة الرماد
فعلوا ذلك
دون أن يعرفوا من أنا
أنا كذلك
لا أعرف أحدًا منهم
وكل ما عرفته
أننا جميعا غرباء في المقهى
تجمعنا أغنية واحدة
أغنية نكرر سماعها
لأنها تشبه دمعة ساخرة
……………
قد تكون المقهى هنا كناية عن الحياة بضجيجها أو سكونها، وقد يكون مرتادوها والعاملون فيها هم أبناء الحياة، وقد تكون الأغنية المكررة كناية عن الفكرة المهيمنة، المعادة المكررة في نشيد أزلي، لكنها جميعا في النهاية تفضي إلى الشعور بالوحدة، فكأن الإنسان المنغمس في ضجيج الحياة الصاخب يعود بعد حين فردا أخرس لا يسمع ولا يجد من يسمعه، إنه يركض في زحمة الحياة وحده، يعاني آلامها وحده، ليموت وحده في لحظة وجودية بائسة يسوّرها العدم:

مات عدّاء المسافات الطويلة
لم يرشده أحد
إلى خط النهاية
فظل يركض طوال عمره
كان يلتفت
فلا يجد أحدا وراءه
يحدق في الأفق
فلا يبصر أحدا أمامه
لم تكن على جانبي الطريق
شجرة يستظل بها
ولم يكن هناك
من يناوله شربة ماء
حافيا كان يلاحق ظله
عاريا كانت المسافة
تقطع من لحمه
لتطعم وهم انتصاره
لكنه ظل يواصل العدو
والتلفّت
كما لو أنه الفائز الوحيد
…………….
تفضي الوحدة إلى شعور بالعزلة، وتصبح الحياة وقد أشرفت على نهايتها بئر دموع يستنزف ما تبقى من طراوة العيش الهزيل:

أسكن وحيدا
في الطابق العلوي، من لساني
وأسقط منه كل صباح
جملة ناقصة
تبحث عن حرف هارب
ربما نايا أعزل
يبكي في حديقتها
ويجرح الشجر بالمناديل
……………..
لكن الأشد وقعا من شعور الغربة والوحدة شعور آخر يتحول فيه الإنسان إلى شيء من الأشياء، شيء تافه، متحجر أو متصلب مات فيه نسغ الحياة وهذا ما قد تختزله الصورة السردية العريضة التي استعان بها الجابري للتمثيل وهي صورة الشارع الضيق الذي تنتهي به الحياة التي تحاصره إلى كومة من ركام:

أنا شارع ضيق
على جانبيّ رصيفان من الحزن
وعشب ذابل، يتلصص على خزائن الندى
رصيفان بلون كالح
يلونهما عمال البلدية مرة كل عام
بالأصفر
يسلب بهجته طغيان الأسود
وقد يترك على قميصه لطخة من سواد
شارع واضح أنا
تخنقني شاخصة تشير إليّ
عربات تصطف كالوحوش على أطرافي
ويقلق نومي
أنهم سيهدمون مبنى آيلًا للموت
ليملأوا حياتي بالركام
…………………
لم يقتصر التحول إلى شيء على هذه الصورة وحدها إذ ينتقل الشاعر إلى صنع حوارية خاصة مع الذات، وتصبح الحافلة المزدحمة كناية أخرى عن الحياة، الحافلة وما – ومن- فيها وبكل هذا التزاحم والتدافع الذي لا يستريح منه الإنسان إلا وقد وجد نفسه أمام باب كبير يفغر في وجهه، باب الموت أو النهاية الموجعة:

أزاحم نفسي كي أنزل من الحافلة
لا الطريق انتهى
ولا أنا وصلتُ
أزاحم نفسي لأجني سخط الباب
وضغينة من ينزلون بسهولة
كما لو أن أحدا يرمي بهم
في عرض الطريق
أزاحم نفسي لأوهمها
أن هناك من يتعلق بأكمامها
ويشدها إليه
أزاحمها
كي لا يسبقني إلى الباب
– كثيرا ما حلمتُ بأني باب
يريد النزول –
دونما صرير، ينزّ من مفاصله
كلما توقفتْ في مخيلته
حافلة متعبة
……………
وعندها يصيبه شعور عميق بالخيبة يجعله غير جدير بالحياة فيذهب معتذرا إلى رمزها الشجرة، فليست السبيل سالكة أمام الأحلام لتتحقق بسهولة ف:

– الطرق عرجاء
– نادما قال ذلك، وبكى
رجل كسر عكّازه
وذهب ليعتذر من الشجرة
…………….
وقد اجتمعت ملامح اليباس والموت في هذا النص القصير المكتنز بكثافته اللغوية والفكرية، فالعكاز عود من الشجر جفت به الحياة، وهو رديف العجز والشيخوخة الموجعة.
وإذا كان من دأب الغريق أن يتشبث بأية قشة فإن الإنسان وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة يبذل محاولة يائسة يستدينها من خزينه الأسطوري المخدر ليقدم مرافعته الأخيرة، وإن جاءت على سبيل الافتراض لا الحقيقة:

سأفترض أني حمامة
أو غراب
وأزرع منقاري في قلب الطين
عسى أن يعشب
ولو بعد عمر طويل
تلك هي الخلاصة
أيها الجياع من معشر الطير
لا جدوى من هديل
يموت في شروخ الجدران
ما من نعيب
يجعل السنابل تبكي
…………….
لكن الأسطورة التي طالما خدعت الإنسان في مسيرته الطويلة تخذله في عصره الحاضر أيضا، وهنا لا يجد الشاعر سبيلا سوى التوجه إلى مرجع الأسطورة نفسه، أي الآلهة التي كانت مدار الخلق في حياة الفكر والأدب على مدى العصور الطويلة الماضية ليتجه إليها بالخطاب المباشر متسائلا عن جدوى وجودها، أو لا وجودها في عالم يمتلئ بضجيج صاخب يفضي إلى سحق الفرد وموته في الحياة من دون أن يرف للآلهة جفن، أو تفكر في التدخل بقواها الخارقة لإنقاذه:

سيدي
أيها الهادئ كموجة كسولة
ألا تفكر مثلنا بالنافذة؟
بحنينها إلى شظايا زجاج
كان يستر عريها؟
ألا تفكر ولو لبرهة، بالثريات؟
تلك التي صارت أجراسا
حين لاعب الهواء عناقيدها
ألا تفكر؟
قل مرة:
إنك لا تفكر فحسب
كي أستريح
من عبث اللغة بما لا يوصف:
نافذة يتكسر حنينها
وهواء
يلعب كالمجنون بطين مصائرنا
قل إنك كذلك
كي نشطب اسمك
من عقارب الساعة
ونشطف ساحات أعمارنا
من آثارك العالقة
في أجنحة الأغاني
…………
وبقدر ما ينتهي التساؤل إلى الاستسلام بين يدي اليأس فإن مسيرة الحياة في قصائد الجابري تنتهي إلى الذبول بعد أن تمر عبر طريق غاص بأشواك العذاب، وإلى نوع من الموت البطيء أو المؤجل، بعد أن تيبست جذور شجرة الحياة وتدلت أغصانها ذابلة كسيرة لتُجمِل صورة حزينة للوجود الإنساني المسكون بالياس والخراب.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *