| محمد الدرقاوي : قناديل الوجع… ـ 2ـ  / من قصص “انغماس” .

متمددة على فراشها ،لفيف هواجس ،تعتمل  في دواخلها بين  طيات السَّحَر، اعتمال  حفيف الشجر من حول البيت القروي بين رياح متقلبة في ليلة من ليالي الخريف، عيونها تحفرسقف الغرفة، تغزل أفلاما ،صورا وأحداثا،  تنبش عن آمال، رجاء وتوسلات، لاتغيب مسامعها عن  مؤذن الفجرالذي يزرع فيها نوعا من الأمن والشجاعة .  خطوات تكسر صوت الآذان ، تقطع الطريق الى المسجد الصغير المقابل لبيتها .تنهض من فراشها،  اطلالة على الطريق كأنها تتأكد من أن كل من  تعود السعي  الى الفجر قد دخل المسجد؛اهتزازات اضواء الشموع تؤكد لها أن الامام قد وقف للصلاة مع صدى الاقامة يردده أحد المأمومين؛ تتراجع، تحمل حقيبة صغيرة، تسير على رؤوس اصابعها الى الباب ، فترفعها  قليلا الى اعلى حتى تمنعها من  صريرمعهود وهي تحتك بالأرض ثم تنسل بلا حس، ترافقها دموعها وغير قليل من خوف تتعثربه بين كل خطوة وأخرى.

فجر مبلل بالندى ،تغشاه أصوات الديكة وثغاء الغنم في الحوش ، وبعض من نباح الكلاب ترد الصدى .. أمامها أزيد من ساعة قبل ان تشرع الشمس في التعري من سوادها ، هو وقت كاف للوصول الى موقف الحافلة التي تجتاز القرية  الى المدينة  .. تلحفت بإزار أبيض ، وعلى وجهها رمت شالا صوفيا مخططا ،لا تظهر منه غير عين واحدة ،  تتحاشى أن يعرفها أحد ،إذ عليها أن تحتاط من كل صدفة قد تهدم ما خططت ..

تشيع سكنى توأم روحها بنظرة  عميقة من أسى

وبحرقة تلهب صدرها ، ودمعات وهي تقطع الطريق الى مكان وقوف الحافلة :

“لحظة  عسيرة أودعك فيها آيمنو(حبيبي) ، وأنا مدثرة بالخوف من الهزيمة ، تمنيتك معي  قوة تحميني ،نرحل معا ، ومن قنديل وجعنا معا  نستمد القوة و الضياء ، ليتني ألملم جسدك بالقبلات،أشفي ذاتي من سطوة التحكمات وأبوية التأمرات .. أودعك وأنا بك واثقة،  وسأظل واثقة   أني في صدرك سأعيش  محمولة  كما أنت الآن والى الأبد ، لم يكن في مقدوري  أن أفرض عليك مرافقتي  في مغامرة ،أنانية مني ،ذاك ما  تأباه  تربيتك، وظيفتك ، ومسؤولياتك نحو والديك  وتقاليدك ، لأكن  الضحية ، المهم  أن تظل أنت  في أمان من أبي ، وممن زوجوني اليه بالقوة من بداية طفولتي  بلا ارادتي ولا اختياري . بك واثقة ،ثقتي بحبي الذي ملا كل ذرة في نفسي،  و من أجل  هذا الحب ، وما يتحرك في أحشائي  منك، يلزم أن أغادر، متحدية كل الضغوط ، أن أفك كل الخيوط بعيون مفتحة،  حتى أحررك من أن تصير  مضغة سائغة في أفواه الأغبياء  من أهلي “..

تسع ساعات والحافلة  تدك متون الأرض،  لم تقف غير مرتين للراحة والصلاة  ، كان الجوع  يحرك معدة يطو بغرغرات تقاومها بشرب الماء، فهي تخشى أن تنفق درهما مما تملك ،وما تملكه قليل  بالنسبة لبنت  تغامر بسفرة لأول مرة في حياتها  من شمال المغرب الى جنوبه  بقليل خبرة  وزهيد مال ..

تذكر يطو خالتها، صورة واضحة عن أنثى كانت تياهة بجمالها الأمازيغي ، ترفض أن يتحكم فيها أي كان بأبوية وتسلط  ، وكونها  كانت يتيمة تعيش في كنف زوج أختها بخير من  أبيها  فليس معناه أن  ترضخ لأوامر لا تلبي طموحاتها ، وحين فرض عليها أبو يطو  ابن عمه العسكري كزوج  رفضت باصرار ،  متحدية أن تصير رمادا يتطاير بأوامره ، من يومها بنت بينها وبينه جدارا اسمنتيا من الكراهية من شدة ما ضايقها ، وفضلت أن تغادر بيت أم يطو متنازلة عن كل ما تركه أبوها ،  متعلقة  بأستاذ أحبته ،ما أن  تم تعيينه في الدشيرة الجهادية  حتى رحلت معه بلا اذن ولا اخبار، حينها كانت يطو في الخامسة  من عمرها ، تلتقط الأحداث  بصمت حبة حبة..

تعرفت يطو  من حديث  عابر مع أمها أن الخالة لازالت في الجنوب الا أنها قد غيرت سكناها  ، كما استطاعت بذكاء ان تعرف اسم زوج الخالة ..

لم تكلف يطو نفسها كثير بحث ولا دوران ، فقد قصدت احدى المدارس  وسألت عن اسم زوج الخالة  ، من حسن الصدف أن مدير المدرسة دلها  على حارس عام إحدى الثانويات يمكن أن يكون المقصود بالسؤال .. وهي تنزل من سيارة الأجرة  رات خالتها مقبلة  تمسك بيد طفلة صغيرة  ..

استغربت الخالة من وجود ابنة أختها أمامها ، لم تلتبس عليها صورة الطفلة التي تركتها وهي تترك القرية ، عشر سنوات مرت ،تفتحت فيها أنوثة يطو وصارت صنما للفتنة ينتصب أمامها، يعيدها بالذكرى  الى يوم الهروب  ،  فأن تترك يطو القرية  وتسافر وحدها   فمعناه أن أبا يطو يكرر نفس تحكمه  مع بنته كما حاول معها، إذ ليس ليطو أي سبب يجعلها تغادر القرية وحدها  وهي التي لم يسبق لها الخروج ابعد من مدينة صفرو أيام السوق   ..

ظلت يطو في حيرة  ،هل تخبر خالتها بحملها ؟ كيف ستكون ردة فعل الخالة ؟ وزوجها هل يقبل ان تقيم عنده ويتحمل هذه المسؤولية ؟ “كيفما كان الامر فلخالتي تجربتها التي  قد تنفعني ، ويلزم أن تكون على علم لتتصرف قبل أن تكبر بطني” ..

لم تستغرب الخالة  من أمر بنت أختها ،فقد لاحظت منذ حلولها ضيفة عليها، تثاقلها الصباحي، وميلها للنوم ، وحالة  من الاكتئاب تهيمن عليها  بين حين وآخر ؛ لكن ما أقلقها  هو كيف تسوق الخبر لزوجها الذي لاتنكر تعلقه بها،  وعيه وتفهمه ، ومن الصعب أن يقيم ضجة قد تأتي على سمعته المهنية  في منطقة كل ما فيها يخضع لطقوس الأعراف والتقاليد، لكن هل يصمت على صاحب الفعلة  ؟

وفاجأها  :  لن أنسى سلوك أبيها معي فهو من النوع الذي يمهد للخطيئة ،يصر عليها ولا يحاول أن يتجنبها، استعدي لنرحل يومين الى تارودانت وتقيم يطو مع زهوة أختي الى أن تضع حملها  ..

عاشت يطو مع زهوة ، أنثى مقعدة ،لكن بقلب من رحمة ونفس من طيب الجنان  ، عوضت يطو  حنان الام التي كلما اشتاقت اليها بكت بين أحضان المرأة الطيبة  ..هما معا كانت تساعدهما طالبة يتيمة تتابع دراستها بالثانوي فكانت ليطو كأخت  قريبة من نفسها ، ساعدتها منذ الوضع  الذي أتى قبل الأوان بطفلة  على تربية الصغيرة  تيليلي  حتى استقامت حالها ..

استطاعت يطو  بمساعدة زوج خالتها  أن تجد عملا في دار دولية  للمسنين ، وقد وجدت راحتها في هذا العمل تقضي فيه ايامها بأداء الأنشطة اليومية  والاهتمام برعاية  عجزة  من مختلف الديانات والأجناس ، تسهر عليهم منظمة دولية  بنظام نصف تطوعي ..

كثيرون من انبهروا بجمال يطو  فتقربوا منها طالبين يدها ، لكنها كانت ترفض بإصرار فهي لا تتصور ان تحب  او تسرح عيونها  في عالم غير  من يقيم في كيانها ، يحفر صدرها وعقلها  بالليل والنهار، قانعة  بثمرة حبها تيليلي  حياة تطوي نفسها في ثناياها  ولو من خلال دموعها وغربتها، لكنه حب لذتها الملتهبة ورجاء  لن يموت في صدرها  …

قصة يطو صارت موضع  تساؤلات وتندرأحيانا،يلوكها أهل الحي بثرثرة ونميمة ، كل يؤولها حسب انتمائه الطبقي وما أكثر ما يثرثر الناس بلا علم وسوء ظن !! ..   لماذا  أنثى جميلة مثل يطو ترفض الزواج ؟ وفوق هذا  فهي ليست من النوع الذي يتحدث عن نفسه فتفصح عن مكنون شغل الكثيرين بفضول ..تعيش  يطو هائمة  مع إحساساتها  تملأ كيانها، منشغلة كوحي في حجر  عن كل ما تلتقطه أسماعها   باثر لحبيبها مكين  يحميها ممن سواه  ..

كانت يطو تسافر من وقت لآخر و خلال أيام العطل المدرسية  ترافقها  تيليلي في رحلات قصيرة عند خالتها ، أو لورشات تدريب  تنظمها المنظمة الدولية  في بلاد أخرى ، وقد تعودت أن تفرض وجودها كعاملة نشيطة تقرأ وتبحث ، تستوعب بسرعة وتنتج أفكارا جديدة  .. درست يطو  بالليل وتعلمت فصارت في ميدان عملها  اطارا بحنكة وحيوية وروح ابداع وقد واتتها فرصة فقبلت عملا تحت اشراف الأمم المتحدة في كندا وجدته مناسبا لطموحها فغادرت تارودانت الى كندا ..

تنمو تيليلي، تشب وتصير صورة من أبيها  لا تحمل من أمها غير لونها القمحي ، لكن بنيتها ضعيفة ، فولادتها  خديجا قبل الأوان قد اثرت في نموها وصحتها ؛ لم تستطع إتمام دراستها،  فدفعتها يطو  الى التدريب على مهنة  التمريض بإحدى المؤسسات الخاصة ..وقد تعرفت على شاب من أصول جزائرية  تزوجها ،لكن سرعان ما انقلب سلوكه نحوها ربما ضيقا بصحتها وطمعا في مال جدتها وراتبها الذي كان يفرض أن يمر الى حسابه البنكي  خصوصا لما أعلنت تيليلي  عن حملها ،  فشرع يستعمل معها غير قليل من العنف اللفظي  الذي ناهضته يطو، رفضته بقوة لأنه مسلط على أحب الناس اليها، ذكرى عمرها الوحيدة  وما خرجت به من دنياها،  قاومته  يطو الى ان اندحر الزوج  مدموما محكوما بسجن اثرعنف  يدوي مارسه على تيليلي بعد أن ضبطته يسرق حقيبة ذهبها  ذات ليلة 

أياما صعبة عاشتها يطو مع تيليلي  قبل ان تضع حملها ومن حسن حظها أن المزدادة كانت بوزن جيد لكن ما أن لفظها  رحم الام حتى لفظت الأم أنفاسها  ..

قدر يطو أن تهب الحياة ولا تحياها وأن تعتني بالمواليد اعتناءها بالعجزة  ،ذائبة في خدمة غيرها  لا ترى حياتها الا  سرابا تفنى بين الذكرى والأمل، قدرها أن تحيا بقلب يتصدع  بلاصوت وينفطر بصمت ، خانها الحظ في اكتمال سعادتها  بحبيب عمرها وها هو يخونها في موت اعز ما انجبت منه وبه فازت  .. لم تحس بانسحاق قلبها يوم سمعت بموت  أبيها ثم أمها من بعده    مثل ما أحسته حين أبلغوها  موت تيليلي بعد وضعها ، فتيليلي كانت حبلها السري بين قلبها وطيف  حبيبها.. هذا الطيف الذي يأبى أن يسأل أو ربما يسأل ولا يجد من يومض له بقنديل ، فهي تعمدت ألا تترك خلفها أثرا يدل عليها. أبوها كان قلبا من صخر لا يلين الا لرغباته، نارا لاتترك غير الرماد  .. أما أمها فكانت  أضعف من الضعف روضها الزوج منذ بنى عليها وهي بنت الثالثة عشرة ، طفلة محكومة بتقاليد الزواج المبكر  ..

أنهت يطو  عقدتها في كندا ،وفضلت العودة الى وطنها والحقيقة أن رغبتها أن تحيا فوق تربة يخطو عليها حبيبها تغنيها عن كل شيء ومعها الحفيدة ناديا بعد أن جمعت ثروة محترمة قادرة على  فتح بوابة مشروع امامها  ، ثم استطاعت أن تحقق في ناديا حفيدتها مالم تستطع بلوغه مع تيليلي لعللها وضعفها  ، دخلت ناديا كلية طب الأسنان وتخرجت طبيبة مولت لها يطو عيادتها في قلب أغادير ..

كان الحاج من زبناء عيادة ناديا ، المداومين على مراقبة أسنانه عندها ، منذ الزيارة الأولى أحست ناديا أن الرجل  لبق أليف ،وأنيق ، معاملته لها  بحميمية  جعلتها تتعرف على مساهماته في التأليف المدرسي

و ميولاته الأدبية  الى أن تبادلا حديث الانتماء ..

 رجعت ناديا من عيادتها في وقت غير ماتعودت عليه ، وجدت جدتها مابين دموعها تسيح على خدها وبين عمود الروح يكاد يفجر صدرها ، سقتها ماء ومسحت وجهها بقطير الورد ، بعد الحاح من ناديا قالت الجدة : أخذتني غفوة فرأيت  شخصا عزيزا علي في منامي يتوسلني أن أمسك  بيده  ، رفضت من قلق وخوف ،  فوجدته يهوي في وادي سحيق ، يتمزق أشلاء فندمت ندما شديدا ..

ضحكت ناديا وقالت : هو فعلا يمد لك يدا لكن اياك أن تمتنعي عن مساعدته  ..أليس هو الأستاذ  الفاسي؟ ..

تفاجأت  يطو، اتسعت عيناها من اندهاش  قبل ان تعرف سبب رجوع  ناديا قبل وقتها..لم تصدق ، واستغربت أن يكون القدر قد لوح اليها برضى بعد خمسن عاما .!! ..

حين رأته لم تخطئه ، هو نفسه  كما عاش ينمو ويشيخ  في دواخلها لحظة بعد أخرى مذ ودعته شابا وهي له عاشقة ، ارتمت بين أحضانه بلا تردد   داخل مكتب ناديا ، احست كأن قلبها سيتوقف عن الوجيب، فهوت على الكرسي،وما لبثت أن قامت لترتمي عليه وكأنها  في لحظة انتشاء من لحظات ليالي القرية ..

مرة وهي  بين أحضانه تستعيد صباها  ملتهبة  بعد خمسين عاما بنفس سوط الحب الذي لا يزال يعصر قلبها بشوق ودمعة عين.قال لها :

ـ  زوجيني نفسك

نظرت اليه طويلا ، لثمت خده وتركت  خدها لدموعها ثم قالت : وهل طلقتني حتى أتزوجك من جديد ؟ أنسيت ليلة الفض !! ؟؟..

قلت لي : فعلتها يايطو وانا لا أدري ..

أتى ردي : أحسست وانكتمت ، كلي لك حبيبي ، اعصر واشرب وسدد رجومك في أحشائي ..لا تبالي ..

قلت لي : زوجيني نفسك

كان ردي : نفسي لك هبة وسخاء الى أن نلقى الله ،أنا زوجتك بلا اعتراض، و جسدي محرم على غيرك  والله علي  قولي شهيد ..

استعاد الحدث فشرع يقبل يديها ويعتذر ..قالت :

لم تكن المرحومة  تيليلي الاثمرة ذلك العهد ، وما أخذت مني غير لوني القمحي ، أما  لك فكانت  الشبيه بكل تقاطيعك ،لهذا كنت بها متيمة في حين  أني وناديا كالتوأم المتطابق.

 

لُحمَة … ـ 3ـ

أن تهاتفه يطو رغم علمها بعزمه على السفر، بعد أن قضيا أمس يوما ممتعا معا ،أمر يوحي بالقلق خصوصا ويطو  متعودة أن تبعث له رسالة على الوات ساب قبل استعمال الهاتف ..

أتاه صوتها خافتا متثاقلا  كهمسات الأنين ، تجاهد على تبليغ ماتريد..

ــ مابك يطو حبيبتي ؟

بسرعة ترد  : لا شيء، فقط كنت نائمة ، أنا بخير..

لفته بعض  السكينة  وهو يرد  رغم ما ظل يسري في نفسه من هواجس :

ـ خيران شاء الله ، ناديا بخير ؟

ـ فقط اشتقت اليك،واليك تملكتني رغبة في غذاء معك..  لكن تذكرت سفرتك؛ المهم تسافر وتعود الي  بالسلامة..

ـ بسرعة حبيبتي  نصف  ساعة وأكون عندك ، أجدك بالباب ..

ـ لا ، لا ،  سفرك أولا اذا كان أكيدا   ؟..

ـ أنت أوكد من سفري أؤخره الى غد ..

بعد عشر دقائق تصله رسالة على الواط ساب :ناديا تصر على ان تكون معي، ألا يقلقك هذا ؟

كتب ردا : ناديا حفيدتنا بضعة منا ،كيف اقلق ؟ !! ..

رسالة أخرى من ناديا تصله : فضلت أن أترك عملي وآتي مع جدة ،فقد  قضت ليلة سيئة وحالها لا يطمئن

 (بيني وبينك )..

كانت يطو في المقعد الخلفي  داخل سيارة  ناديا ، وقد أسندت ظهرها بتراخ  وكأنها ترتاح من تعب، أركن سيارته، وبادر اليها بطلب من ناديا التي شرعت مازحة  تقلد صوت فقيه   :

ـ اركب معنا فلن تكون من السائقين..

ارتمت عليه يطو وكأنها مأخوذة بلهفة غياب قد طال   ، وجه ممتقع يكسوه التعب :

ـ مابك يطو ؟ طمنيني !! ..

ـ لا شيء ، توحشتك وصافي  ..

أرخت راسها على  كتفه وطوقته بذراعيها  ، فضل أن يصمت ، لثم جبهتها؛كانت باردة  تنز بعرق خفيف ،  وضع يده على خدها فبادرت الى تقبيل يده..

 “ترى ما بها ؟تركها أمس بخير  فأي شيء داهمها”  ؟ بسرعة شرعت  تتنفس كأنها قد غفت، هم أن يسأل ناديا لكنه  فضل الصمت بعد اشارة منها …

وصلوا مطعما على الشاطئ تعودوا الأكل فيه ، كان النوم قد استغرق يطو متوسدة صدره ، ففضل ألا

يتحرك حتى لا تصحو ، شرع يسترجع كلمات ناديا  في رسالتها  أن جدتها   قد قضت ليلة سيئة  ..

همست له ناديا من مقعدها :

عاودتها أزمة قلبها ليلا ، اتصلت بطبيبها فأوصاني الاكتفاء بما لديها من دواء واستعمال بخاخة التنفس .. تصر ألا أخبرك بمرضها  ..

بعد نصف ساعة تقريبا، تصحو يطو ومحياها مشرق ببسمة ساحرة   ، قبلته وقالت :

الحمد لله  !! .. ارتحت ، كنت في حاجة الى نومة بقربك ..

وهم  يغادرون السيارة الى المطعم رن هاتف ناديا تدعوها مساعدتها لزبناء في العيادة ، تركتهما وعادت.. 

فضل أن يتمشى مع يطو قليلا على الشاطئ قبل الغذاء، مستغلا راحتها بعد نومة السيارة  . تتشبث بذراعه كشابة في العشرين ، تلتصق به جذلى يغمرها السنا والحبور ، وكأنها أسقطت عن نفسها وقار أنثى  تجاوزت الستين  ، وللحقيقة كان  يغبطها على سلوكها ، فالتي معه لم تعد الأنثى التي تتوجس نظرات الفضوليين،   كان ينتشي بهذا السلوك من أنثى مزقت طوق التقاليد ، صانت حبا وعنه ذادت أزيد من خمسين عاما بلا كلل ولا محاولة تغيير قناعاتها ، كل خطوة  وهو يتمشي ملتصقا بها ، يلف عقله  في  دوائر حلزونية، مسترجعا كيف قطع أبوها  حبل علاقته بها  ؟ كيف انسلت من جمراته ، قاومت وصمدت تتحدى الزمان والناس،

فنجحت فيما  فشل هو فيه ، فتزوج وأنجب، ورغم ذلك لم يسمع منها عند اللقاء عتابا، فلحظة اللقاء والعودة كانت لديها لحظة  اشراق تعيد لها شبابها ، وتطوي عن عقلها كل معاناة قاستها ولا تحب ان تجترها حتى لا تحسسه بالذنب او تلومه ،كانت تؤمن أن ما مر مجرد  زمن لم يستطع فيه  أي منهما أن ينفلت من حِجره أو يتحكم في أسوار  حياته،  اذ لم يكن يعيشا نفس ما يحييانه اليوم من حرية واستقلالية، وغير قليل من التحدي؛  و هي تعتز بما تحرك منه في بطنها لأنه نفسه تحدٍّ ولحمة رابطة هي السبب الذي اعادهما لبعضهما ..

اثناء الغذاء قالت  له: تصور لو أنتَ التقيت بناديا ولم أكن على قيد الحياة ،ألا تأخذك شهقة شوق وغصة الم ؟

أحس كأنها تريد أن تقول :”غصة ألم وشهقة ندم “ناولها قطعة  سمك في فمها  وهو يقول : أنا مبروك يطو، وقد أراد الله الا أموت واعماقي تغلي باحساس الذنب نحوك، كيف انجرفنا  في زمن قيم الظلام ؟  .فأنت الأنثى التي لم أحاول أن أنتزعها من عقلي ووجداني ، وهو ما تجلى من أول لقائي بناديا ..

قريبا منهما كان زوجان شابان يتناولان غذاءهما، يختلسان اليهما النظر ثم يتضاحكان، فشيخ وعجوز لايجوز لهما ان يعيشا الحياة بنفس الرومانسية التي يعيشها الشباب ، وكأن الرومانسية ليست بنتا للنفس البشرية لاتعترف بالأعمار   ..

وهما  يشربان قهوة، وصلته  رسالة من ناديا على الوات ساب ” متى أحببتما الرجوع فاخبراني ”

لها كتب : لا تقلقي نفسك ، سنأخذ تاكسي الا اذا أحببت أن يكون العشاء والسهرة على حسابك  ..

تبادره برد : لا تغامر،يطو  جد تعبة، يلزم ان تعودا باكرا الى البيت خصوصا اذا صعد الضباب كليلة أمس  ..

بين حين وآخركان نوع من الذهول  يتلبس يطو فتشرد،  وكأن أمرا ما يبدد فكرها ، تعلو صفرة وجهها ثم لا تلبث ان تستعيد صفاءها فتضحك في وجهه..

ـ مابك يطو ؟ يفاجئها  !! ..

ترخي راسها على كتفه ،تقبل عنقه  وتتمسك بذراعه :

ـ لا تقلق ، مجرد ألم بسيط بين كتفي، يبدو أني أخذت ضربة برد بعد حمام أمس..

ـ هل نعود ؟ ما رأيك ؟

تزداد به التصاقا كأنها تريد أن تخترق جزيئاته :

هل شبعت مني ؟

ـ حرام عليك ! ..أشبع من كل لحظة قد  تبعدني عنك ..

في طريق عودتهما بدأت يطو تئن،ومالبثت أن شهقت شهقة كادت تسلب روحه من صدره ،  ثم  أخذتها غيبوبة بعد أن وضعت راحتيها على فكيها  تشكو ألما  شديدا ، بسرعة طلب من سائق الطاكسي أن يغير الطريق  الى عيادة طبيبها ، بادر الى ناديا بهاتف  أن تلحق بهما فهي على اطلاع واف  بحالة يطو   وتستطيع ان تتفاهم مع الطبيب حول مايلزم فعله باستعجال..

خمسة أيام ويطو تلازم العيادة تحت المراقبة والخضوع للأشعة والتحاليل  ، كانت ناديا ملفوفة في قلق ابعدها حتى عن عيادتها  مما أكد له الحالة الحرجة التي توجد عليها يطو ..

أصرت يطو أن تنتقل الى البيت لمتابعة علاجها ، فصار لا يغادر بيتها، أنثى تنغرس في أنسجته ، منطعنا بآدميتها..نظراتها ، نبرات صوتها تجعله عاجزا عن التخلي لحظة عنها، لا ينتقل الى بيته الا بعد أن تكون ناديا حاضرة، ورغم ذلك يحاصره  ظلها كضباب رخيم  لا يلبث أن يحرضه  على العودة  اليها   ..

حكت له  ناديا الكثير مما  عانته يطو  :

ـ  مذ وعيتُ ، كانت تباغثني بلحظات من هستيرية تتلبسها ، تتلظى بلوعاتِ فَقدٍ لا أحد كان يعرف من المفقود ..

تصمت كأنها تسترجع أحداثا كم لفتها باثر بليغ :

ـ  كانت تنجذب لكل من يذكر اسم فاس وأهل فاس بانتباه فتشرد أو تغيب ، ويلزمها وقت طويل حتى تضبط انتباهها من جديد..

قلت لها يوما  وأنا طالبة بالثانوي : الزمن جراح عظيم جدة  فكيف لم يعالج ذكرياتك  ؟

كانت تحدق في وجهي طويلا و وجهها يتلون  بصفرة : ـ تربيت بين الأمر والسوط ،وعشت وانا أرى القهر يمارس على خالتي، تُسجن و يمنع عنها الزاد والماء ، ويتم تهديد أمي بالطلاق اذا لم ترغم خالتي على الزواج   بلا ارادتها ولا رغبتها  من جندي  ذميم وهي الجميلة،   أغرى أبي بأرض مقابل صفقة زواجه بخالتي.. كان ابي ـ غفر الله له ـ جمرة حارقة لا يصفو له خاطر حتى  يحول كل من في بيتنا القروي الى رماد ،أمي رماد بضعفها وخوفها ، وخالتي رماد لانه هو من رباها وينفق عليها رغم أن من خير ابيها كسب في القبيلة جمره وسطوته   ، وكنت أنا في الطريق لأصير رمادا  لوما إصراري على الدراسة ، وحرص السلطة على تعليم إجباري  لبنات القرى ولو كن كبيرات ..

كانت يطو  تحتاط من كل ما هو بدوي حتى ولو كان مثقفا، لان العرق دساس كما كانت تقول، والتربية  تحفر بنقش؛ بعد تخرجي أتى لخطبتي شاب تاجر متعلم وميسور  من نواحي أغادير ، كان لطيفا أعجبني فوافقت، لكنها اعترضت قبل أن تتركني لاختياري  وقالت لي : تحملي مسؤوليتك ،انت راشدة وواعية.. حين سألتها ما يخيفها  : لم تكشف عن الحقيقة وقالت : لو أنك جلست لحظات مع المايستروـ وكانت تقصدك ـ ، يسمعك كلمات الحب وينقر على جسدك بايقاع الإحساس واللطف والتقدير لادركت معنى أن يكون الانسان متحضرا واعيا يتذوق المرأة ويعي  قيمتها التي تصير بين يديه ..فادركت السبب ،وقد صدق حدسها من الشهور الأولى،فقد شرع يمارس سطوته فطلبت الطلاق  ..من يومها آمنت أن الزواج اغتيال لحرية  المرأة، وحبائل من الرجل  للايقاع بها ، وما عاشت يطو بعزيمة المقاومة والحفاظ على أناقتها وجمالها الا لأنها كانت تحيا بحب رجل لا يعايشها، هكذا فكرت لاني لم أكن اعرفك فاقدرك مثل ما أقدرك الآن ،وتقدرك جدتي  …

كانت  يطو لا تخجل من صراحتها رغم انها كانت  لا تفصح عن الكثير، لكن جميع  سلوكاتها كانت  تشهد انها كانت أنثى عاشقة متيمة، دموعها اذا فاضت  تصير بحيرة أوجاع حسرة على الانسان الذي هامت به ومنها  ضاع.. مرّة هي الذكريات ومتوحشة حين كانت تطبق على صدرها فتمنعها عن النوم والأكل، لاترتاح الا على صورة جماعية  مع تلميذات وتلاميذ القسم وهي في الوسط ضاحكة  قريبة من معشوقها المايستروكما كانت تسميك..  

كانت  في كندا تقتل نفسها في عملها ، تصرف كل اوجاعها في ابداع كيف تجعل من العجزة أيادي فاعلة واقداما متحركة ، وعقولا لا تشيخ ولا تموت ، كانت تشجع كل علاقة صداقة وحب يربطها هِرم بعجوز، علاقة توثقها الإنسانية بلا مذاهب أو اعتبارات غير إنسانية ؛   كان اسم يطو  على كل لسان لان صدرها كان يسع الكون بلا تمييز ،  فحصدت بذلك الكثيرمما حقق لنا الكرامة و العيش الرغيد ، لكن في عقلها وتفكيرها لم يندثر وطن ولامات أهله ،كان ذكر فاس، وأصالة فاس  نبضها الحي الذي ربتني على حبه والاعتراف به ،رغم أن أول لقاء لها بفاس لم يتحقق   الا بعد عودتنا من كندا ، قضينا أسبوعا هناك ، كم تجولنا بين الدروب والأزقة ، بين المساجد والآثار ، بين الأولياء والأضرحة ، في عقل يطو شيء ما كانت تبحث عنه باصرار دون أن تفصح أو تشرح ،   أما  أغادير فقد كانت  أملا به تعلقت، ذكرى  من حديث مع حبيب قلبها، أنت يعني  وقد قلت لها يوما : يتحدثون عن  اغادير بعد الزلزال أنها صارت جنة، مارأيك نتزوج ثم أطلب الانتقال اليها ، وهناك نتابع حياتنا.. حدس ظل يحرك دواخلها الى ان تحقق بلقائك من جديد، وعلى يدي في أغادير .

كان حديث ناديا شريطا ناطقا يستعيده بالمكان والزمان و حتى الرائحة ، فيهز نفسه بذكرى حية  وحفقان يحرك صدره وكان  يطو بين أحضانة تناجيه برأي ولهفة الى أن تحيا العمر معه  ..

مرة أخرى تنتقل يطو الى العيادة في سيارة اسعاف على استعجال ..وقد  فقدت القدرة  على الحركة والنطق .. فجزء من عضلة قلبها  قد ضعفت   ..

في ليلة ظلماء ،تموت  يطو، تغادرالحاج   في وداع أبدي ومنها لم يشبع من نظر ، كانت أجمل أحلامه ، أكثر من خمسين سنة وصورتها محفورة في سويدائه ، نبلا ووفاء وحبا لم يبل ولم يتوان ، ولم يتضبب له اثر..

وصارت ناديا تلاطم الحياة من حولها بخوف وتوجس : ـ كيف أعيش بدونك جدة ؟ من يحميني ، يوجهني ، ينير دروبي ؟..

صار كلما  احتضن ناديا  وهي بضعة منه كجد الا وتبكي فقد يطو من حولها  :

ـ  موتها باغتني، فقلب موازيني بلا استعداد قبلي..

قال لها مرة : ألا أكفيك جدا  لم تحلمي به من قبل ؟

ترد: أنت قارب النجاة الذي باغتني  برحمة، فاياك أن تبتعد عني يوما والا خنت عهود يطو، وعشق يطولك !!

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| حسن سالمي : “آثام البنادق” وقصص أخرى قصيرة جدّا .

آثام البنادق        حين شردت عنزتي عن القطيع كانت الشّمس تسقط وراء التّلال. وكان لا …

| حسن سالمي :  ” محلّك.. سِر ”  وقصص أخرى قصيرة جدّا.

رقيق أبيض     الهواء بارد والسّماء ترشح قليلا قليلا حين خرج من الحانة واللّيل في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *