| أحمد شحيمط : الرواية العربية وتحولات القيم .

الرواية ملحمة بورجوازية حسب هيجل وذات أصول شعبية حسب باختين، إنها مرآة للشعوب والمجتمعات تعكس  واقعهم وتجاربهم، تعيد الرواية إنتاج الحكاية بناء على المزج بين الواقعي والمتخيل، رؤية استشرافية للمستقبل، وقراءة في ثنايا الأحداث، وعودة للماضي من جديد من خلال استنطاق التاريخ والتراث، ليست الرواية أداة لتفسير العالم إنما وسيلة تعبير وتصوير، بمثابة رد فعل ضد القساوة والتنميط، وتنبيه القارئ للمشكلات التي تعرقل مسار التحولات، وبناء صورة حالمة للعالم وفق ما ترمي إليه الحكاية، وما يهدف إليه السارد من وراء الحكاية، لأن الكتابة بدقتها لابد أن تحتوي على مضمون هادف ومثير، عندها نكتشف عمق الأزمات ومأزق الوجود الإنساني، نفهم الخلفيات وسياقات الحكاية في عالم متعدد الثقافات والرؤى. فالروائي يصنع من الحكاية عالما للتأمل، ويرسم في قلب الحكاية هواجس وأحلام، ويرغب في تجديد الرؤية لعالمنا رغم ما تنطوي عليه الحكاية من تعدد في الأصوات والرغبات، وما تكشف عنه الحكاية من تحولات في القيم وإيقاع الحياة، تحولات في المحكيات يساير إيقاع السرد وهموم الذات المثقلة بأوجاع مختلفة ينقلها الكاتب، ويتوارى خلف الشخصيات، يراقب دينامية المشاهد من شرفة عالية، بحيث يتمكن السارد من تسريع الزمن أو تبطيئه . انعطاف في فنون السرد يعني أن الرواية تساير إيقاع الفكر الجديد، كما تنقلنا الحكاية من مجال السرد الخطي المتصل نحو مجال السرد التصاعدي المنفصل، السرد الفسيفسائي، واختفاء السارد، وبناء مجموعة من الحقائق التي تثير نوع من الصدمة والدهشة، بحيث تجعل القارئ العادي يتيه في غابة السرد حينما لا يمتلك الأدوات المناسبة للقراءة دون الانجرار وراء ما يريده السارد .                                                                                                                       

الرواية العربية ديوان العرب الجديد بعد الشعر، الرواية جنس أدبي تخيلي وتعبير عن ظاهرة ثقافية ورؤية في قلب الوقائع التي يسكب عليها السارد نوع من العقدة والحبكة والإخراج في قالب ينقل القارئ نحو  التأمل والتفكير في الماضي والحاضر، لذلك يمكن اعتبار الرواية العربية بأنماطها المختلفة، من الرواية التقليدية والرواية الحديثة والرواية المعاصرة تعبير عن الوجود الإنساني بمختلف تجلياته، صورة معبرة عن تحولات القيم وكل ما يشمل المكان والزمان، أشكال من السرديات للتفكير في الذات، وأنماط من البناء للمتن الروائي، وللشخصيات الثابتة والدينامية، دفاع الرواية عن القيم الإنسانية النبيلة واهتمام بالمعضلات الخاصة بالواقع، روايات عربية للسرد الخطي المتصل وللسرد المنفصل . فكل رواية تقدم نفسها على أساس ما ترمي إليه من غايات وأهداف، يمكن إجمالها في الوعظ والإرشاد والتربية والتذكير بالقيم النبيلة، وكل ما يحمله الأبطال والشخصيات من فضائل ورذائل، وما ترمي إليه السرديات بلغة سلسة وأسلوب مرن في التعبير والوصف ونقل المشاعر الفياضة، روايات عربية من زمن الأمس البعيد، من بدايات السرد العربي ظل التماهي مع الأحداث الماضية الخاصة بالاستعمار ومظاهر القوة في المجتمع الميكانيكي . فالرواية العربية التقليدية شرارتها الأولى تعني الربط المتين بين القيم والشخصيات والبيئة. هناك دائما انتصار للبطل الايجابي، انتصار للخير على الشر، وانتصار للسرد الخطي والنهايات القطعية على النهايات المفتوحة، محتوى الرواية العربية الكلاسيكية تعني وجود السارد في قلب السرد وذاتيته لا تتوارى بل يتدخل في مجرى الأحداث، هذا النوع من السرديات لم يعد نافعا ولا مفيدا للزيادة في الإبداع، ومحاولة مجاراة السرديات الغربية .                                                                                                                    

بوادر جديدة للرواية العربية الحديثة خصوصا بعد نكسة 1967 والحروب المتتالية، نتيجة أخرى للتغير الذي أصاب الفكر الإنساني العلمي والفلسفي، تفكيك خطاب الهزيمة بالعودة للذات للحفر والنبش عن أسباب الإخفاق والهزائم العسكرية والنفسية أمام الآخر، أزمة مركبة للذات العربية بأبعادها الفكرية والسياسية والاجتماعية، قصف الفرد في وعيه، وتعطل الفكر من جراء القيود المفروضة على الكل، تمويه الهزيمة من قبل القوى المضادة للتغيير، مسار التاريخ الإنساني ليس سوى مسار لتطور الوعي البشري والوعي بالحرية والانفتاح على شروط العصر، الذين خبروا معالم الهزيمة والفشل تيقنوا بالفعل أن الرواية العربية يجب أن تكون تجريبية، يجب أن تلمس هموم الذات، لا يمكن الإحساس بمتعة الكتابة إلا بخلاص الروح وتطهير الذات من كل ما لحقها من أمراض، جرح الكتابة ومسألة التنقيب في عوالم منسية، التنقيب في تفاصيل الحياة الجزئية من تاريخ هذه الشعوب، السرد من الحياة الفردية والجماعية، من الدروب والشوارع والأزقة والمقاهي، من البيوت والعلاقات الاجتماعية، من السجون، ومن الخيال الشعبي والذاكرة الجماعية والأسطورة، وما يحمله السرد من حمولات فكرية، وظواهر تنخر المجتمعات العربية، وتكبل فكرة الحرية والتحرر .                                                     

 سؤال عن أزمة الذات وهموم الإنسان وحدوده في الفعل والتعبير بدون كوابح أو موانع، صورة العجز والشلل ظاهرة، يصورها صنع الله إبراهيم في رواية “ذات ” عن المجتمع المصري، ويحكيها محمد شكري ومحمد زفزاف عن واقع الحال والتهميش الذي دمر الذات والمجتمع، يحكيها الطيب صالح في علاقة صراع وتقارب يبن الشرق والغرب، كما يتوغل في أعماقها نجيب محفوظ، يرويها من قلب الحياة الدقيقة للفرد في كل الأمكنة، هذا الشرخ العميق في الثقافة والصراع القيمي من خلال شخصيات ووقائع يمزج فيها الروائي بين متعة الوصف ودقة تتابع الأحداث، بين الأهداف والغايات التي يرمي إليها. لعل الرواية العربية الحديثة حاولت بالفعل أن تشخص أعطاب الأمة، وتعري الواقع بكل ما يحمله من معاناة وقساوة، إنه التاريخ المعاق والصراع بين الأصالة والحداثة، وبين التجديد والتقليد، بين الصمت والتقدم خطوات للأمام، بين النبش والتعرية . أمام الشعور بأزمة الذات وأزمة الهوية، تم وصف وضيعة الفرد واغترابه، وتكرار الخطاب عن البطولات والتغني بالماضي وشهامة الشخصيات، انتقلت الرواية العربية المعاصرة نحو كتابة تاريخ جديد، الرؤية من الخارج والرؤية من الداخل، تكسير الزمن، والبداية من العقدة، وترك الشخصيات تقدم نفسها في عالم دينامي متعدد الأصوات، روايات بلا ضفاف كما قال محمد برادة، في تناول الناقد المغربي لأبرز الانتاجات الروائية المعاصرة من خلال تشريح الذات في السرد العربي، ومعرفة الخلفيات التي جعلت الرواية العربية تعيد النظر في علاقة السارد بالمسرود، كما تنفتح على مجريات الأحداث التي يمليها السرد وإيقاعه، ليس كما يرغب فيه السارد، قضايا متعددة نالت نصيبا من ذلك، الهامشي ومأزق الإنسان، وما تعانيه المجتمعات من سقوط وانهيار للقيم .

 تحولات في مجال العلاقات الاجتماعية وظهور ظواهر جديدة وإعادة ربط الرواية بالتاريخ والأساطير، محاولة المزج بين الخيال والواقع، مواضيع تتجاوز المسكوت عنه بحيث يتحدد السرد بالتسلسل والانفصال، تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة، وتصير الشخصيات نامية، تتحدد بناء على الحكاية، فغالبا ما تنتهي الحاكية بدون نهاية قطعية. رحلة البحث عن الذات تعني أن الذات تعاني من التصدع والتشرذم، أما التحولات الآنية فمردها للتغير الذي طرأ على العالم من جراء القيم المادية الاستهلاكية، وهيمنة نمط معين من الثقافة على العالم، أن التوجه العام للرواية العالمية يعني قدرة الخيال على الإبداع والابتكار بعيدا عن القضايا المألوفة، روايات بإيقاع جديد، صورة الفرد العربي ظل غائبا لأمد طويل، وشهرزاد التي كانت تهمس في أذن شهريار عادت من جديد للحكاية، للتعبير عن همومها اليومية، تحكي عن نوازعها النفسية، تحكي في متن السرد عن الأحلام والرغبات، والطموح عن رغبتها في تكسير الهيمنة الذكورية، رغبتها في ولوج عالم الكتابة لكنها وكما تقول أغلب الروائيات العربيات، من نوال السعداوي وفاتحة مرشيد وأحلام مستغانمي وغادة السمان وبثينة العيسى… أن المرأة العربية لا تكتب ضد الرجل أو تنتقص من قيمته إنما تكتب ضد اختلال العلاقة بينهما، تكتب ضد الهيمنة، وترغب في علاقة عادلة ومنصفة على أساس الاحترام والتقدير .

هناك قضايا تتعلق بالحرية والفساد وانسداد الآفاق وقضية الهجرة ومجموعة من الظواهر الاجتماعية والنفسية، لعل الروائي العربي اكتوى بهذه الأحداث لأنه يعيشها لكنه لا ينقلها حرفيا أو يقوم بنسخها، بل يعمل على ترميزها ووضعها في قالب حكائي، وبذلك جنحت الرواية نحو مسارات جديدة ممزوجة ين الإمتاع والإفادة، تترك الشخصيات النامية تعلو بأفعالها وأصواتها على صوت السارد من خلال استقلالية المواقف والتعبير عن ما يخالجها من مشاعر وأفكار تنم عن واقع معين، تترك للقارئ فسحة للتأمل والتأويل، القارئ الذكي والملم بأدوات القراءة المعاصرة حتى لا يتيه في متاهات الحكاية، يقتنص القارئ لنفسه الفرصة للتأويل وقراءة المشاهد والسفر في دروب الحكايات، يعود القارئ المتمرس في القراءة والنقد للتاريخ، يفكك رموز الرواية بما يليق من أهداف نبيلة تعيد ترميم هذا التاريخ وتنعش الذاكرة، ويلتف الإنسان على ماضية لأجل استيعاب الحاضر واستشراف المستقبل . إبراهيم نصر الله والكتابة عن الملهاة الفلسطينية، يطل الروائي من شرفة عالية حتى يحكي ما يراه سببا في الأوضاع القاتمة التي يعيشها الإنسان العربي من ضياع وتشتت، عالم الشتات الفلسطيني وعوامل مركبة كانت سببا في الهزيمة النفسية والفكرية، روايات ربيع جابر عن مدينة بيروت وعن التاريخ اللبناني من زمن الأمس القريب والبعيد، حكايات ممزوجة بالوصف ودقة السرد للتفاصيل، في زمن سردي قصير وطويل وحوار لا ينتهي بين الشخصيات المتعددة، داخل الحكايات تتجلى المعاناة الخاصة بالمغتربين ونتائج الحروب والهروب نحو الأمكنة البعيدة، ذاكرة مثقلة بالحنين للوطن وتاريخ جماعي من القهر والصراع مع الآخر.

 يتحرك السرد من النهايات للعودة نحو البدايات، يعود للوراء إلى زمن الأندلس، والى زمن الدولة العثمانية، والى حكايات العابرين والفارين والناقمين، يحكي عن وقائع جزئية نسيها المؤرخون أو تلك التي تعتبر من المسكوت عنه، يلتقطها ويعيد ترميمها من جديد، ويسكب عليها من الأدوات الجمالية ما يجعلك تعيش في أزمنة متعددة، تترك في ذهنك الرواية الجديدة أسئلة وحيرة عن النهايات المحتملة من السرد، تفكر مليا في القضايا المطروحة التي تتناول مشكلات الإنسان المعاصر من تيه واغتراب، من هيمنة وطغيان الثقافة المادية على الإنسان، والرفض لكل ما يمكن أن يساهم في تشييء الإنسان وتنميطه، تحولات القيم تعني تنصل الإنسان العربي كذلك من قيم الصحراء في مضمون الروايات الخاصة بإبراهيم الكوني وعبد الرحمان منيف، البيئة العربية وما عرفته من تغيرات مجالية وسكانية، ثروة نفطية وعمرانية جعلت هذه البيئة مجالا للتعايش واستقطاب الآخر للعمل والبناء، ظواهر جديدة تحولت لمادة روائية، لذلك لا تخلو الرواية الجديدة من التعدد والتنوع في الشخصيات والأدوار، لا تعني نهاية الحكاية بكل ما قطعي لأن الزمن متصل ومتدفق، تترك فينا الرواية انطباعا أن النهاية بمثابة بداية جديدة . فالاتجاه الجمالي في الرواية أكثر انفتاحا على التجدد والتطور، والقابلية للاقتباس المفيد عندما تستلهم الرواية الجديدة الأدوات الفنية وأسلوب الكتابة، وما يتعلق بالتناص والخيال والتهجين والتبئير، وأدوات أخرى مهمة يمكن أن تحمل الرواية العربية للعالمية حتى تتبوأ الصدارة والمكانة، ولن يكون ذلك إلا بالأعمال الجادة والرصينة، وبالترجمة الواسعة للروايات العربية إلى اللغات الأجنبية.                         

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *