| د. عايدة الربيعي : مسرحية “ميت مات” السهل الممتنع الصعب الممتنع .

 ليس من السهل التجديد في عالم الفن، أو في اي نوع من انواع الابداعية، ومنها فن المسرح. ان محاولات التأصيل والتحديث والتجريب بما انطوت عليه الحركة الفنية المعاصرة في العراق لم تسعف في تحقيق صيغ متبلورة تشير إلى خصوصية فضاء بيئي (محلي) يمنحها شرعيتها، ويمكّنها من تجاوز آنيتها وظرفها، بل على العكس من ذلك، ظلت تراوح في مناطق نقل وتكرار تجارب الآخر (الغرب)، وإعادة صياغتها وقولبتها بأشكال مجترة، ومفاهيم وتقنيات مقتبسة. بدأ واقع المشهد المسرحي في العراق يزداد بمظاهره الفنية المجددة او بشيء من التجديد يوما بعد يوم ولكن، اقتصر فعل التجديد على اسماء معينة مبهرة بصيغة الفعل الفني المعاصر ضمن فكر حديث ومابعد الحداثة.. بدأ مسرحا يخاطب ذهن وعقل تحرر من الشكل المحلي السائد، ولعلّ هذا التحديث في الطرح يحمل في ذاته استمرارا لمراحل سابقة تحمل تجارب ومحاولات تبحث عن مميزات وخصائص تنضج من شكل المسرح في العراق، تطرح قراءة جديدة، تمثل خطاباً فنيا موجها يختلف في أسلوبه حينا وفي طرحه حينًا آخر. هكذا تظهر التحولات الباحثة عن مفاهيم جمالية جديدة تلائم العصر ومن هذه الاسماء (علي عبد النبي الزيدي) المؤلف والمخرج المسرحي المترهب في كتاباته باتجاه حديث بفلسفة التأمل ركز على زاوية نظر تتطلب ذهن يتلقى هذا التجريد المختزل بدرجة محددة في مسرحية ميت مات، معتمدا الرمز كمادة مرئية تتمثل للعقل وكمظهر خارجي لحالة او لشيء ما معين ندركه نحن المتلقين للعمل عبر علاقة ذاك الشيء والرمز، انها السيميائية التي تعكس معنى باطن غير ظاهر، معتمدا بذلك التعبيرية الرمزية بشكل السهل الممتنع والصعب الممتنع. جاءت الفكرة الصعبة تتلاءم مع بساطة الفعل المسرحي لتقريب المتلقي من ميزة التشبيه والرمز، اشتغل المؤلف على ثنائية الرمزية والوضوح، الحضور والغياب، الافكار القديمة وتطلعات الحاضر. كما يلاحظ في مشهد  المسرحية مصطبتين، رجلين، جدارين، مصباحين، صورتين .. لقد اشتغل (عبد النبي) في ميت مات وفق هذا الجانب بلغة اشارية، فهولاينوه بواقعية الاشياء مباشرة انما يعبر عنها بطريقة إشارية يعتمدها كأداة فكرية ذهنية حدسية، يتمكن من خلالها ان ينظم قانون المطابقة وفق رؤية خاصة يريد ان ينقلها للمتلقي (المعاصر المتفاعل) مع خصوصية النص الجديد بصريًا ولغويًا، المتلقي الذي يميل هو الاخر لهذا التحديث الشكلي والفكري، فلابد اذن ان يمتلك هو الاخر ثقافة الفن المعاصر، الثقافة المجتمعية لنوع الحضور (المتلقي) ان يقوم بترتيب الوعي لشخوص المسرحية واحداثها، هنا تتحرك ذاكرة المتلقي في قضية ضاربة في اعماق الانسان وديانته وتراثه الثقافي في قضية مهمة لاستحصال المعنى. فالفن صار فكرة واسلوب يصيغ تلك الفكرة، انه فن ذهني تفاعلي مباشر بين العمل الفني والمتلقي له. بني العرض المسرحي (ميت مات) على مفاهيم مثل الرمزية، التناظر والتماثل، وهو نوع من التعبير الذي يعتمد السكون الحركي الا ماندر عكس الدينامية في العمل، واعني هنا الدينامية الذهنية، لذا عليه _المتلقي_ ان يبقى متفتح ذهنيا ليتحقق ذلك التفاعل الذهني الاني المباشر مع العمل الفني النص والأداء التي اعتمدهما المخرج والمولف عبد النبي لإظهار طبيعية التماثيل في المتحف مثلا.. ابتعد عن الحركة الا بما يقتضي المعنى، ابتعد عن التنويع في التكوين العام معتمدا السينوغرافيا التي اثث بها خشبة مسرحه، بتأطير الفضاء الدرامي للعمل وتصويره بتفضية المكان من خلال وضع مناظره في المشهد باقتصاد مقصود، كذلك ببناء الديكور. لذا اقترن العمل ككل بالعلم والفن الذي يستوجب الخبرة الفنية.. تم تقسيم الموضوع إلى أجزاء متساوية والنقاط المتطرفة من جهة تكرار نفس العكس، شيئًا حيال ذلك ليمكن المتلقي من رؤية متناظرة، انه يولي اهتمام الكثير من الكمال في قضية التماثل التي وظفها جدا في هذا العمل الفني.. فكثيرا ما يستخدم التناظر والتماثل في التكوين العام للمشهد العام. كما انه كمؤلف ينظر للغة بوصفها انعكاسا لروح النص لروح الفكرة، كما الشكل روحا اخرى للنص، انها حالة مثالية متوازنة للعمل، سعى عبد النبي بهمة العارف لتنفيذ قوانينها. ومن جانب جمالي شكلي وظف عبد النبي النسبة الذهبية في الالوان كالاحمر البرتقالي والابيض المتهالك في القدم (لون ترابي) الاقرب الى الاوكر عبر (الدشداشة) الزي الذي ترتديه الشخصيتين ما سهل على الجمهور مفهوم الماضي السحيق (اشارة لفكرة المنجي المخلص، الانتظار، الزمن)، فضلا عن لون الحقيبة الشذري التركوازي القديم، طبيعة الانارة خلف الشخصين المؤديين، لون المظلة، لون الارائك المصطبات، لون الخف، لون شعر الشخصية الاشعث، الوان ملابس الشخص الثالث (عامل النظافة) بين الاسود والاحمر والقبعة الصفراء.. جميعها مثلت دلالة على وجود سابِق رَثّ، يؤكد فكرة قديمة يؤمن بها مجتمع كامل. كما يلاحظ على خشبة المسرح القطعة الفاصلة بين الجلستين الوحيدتين في المسرحية، ولايفوتني تقسيم المستطيل خلف الممثلين الأول والثاني التي قسمت الى ستة اقسام في وسطهما علق اطاريين لصور غير موجودة، كذلك المسافة الفاصلة بين الشخصيتين بما يقارب المتر تقريبا، المكنسة الكهربائية (اشياء حديثة) لمكان يضم تماثيل قديمة في متحف الحضارة القديمة، جاءت جميعها بشكل متمم للمعنى العام. ان قضية التاليف الحركي والتوظيف التعبيري بالايماءات والصوت في ميت مات جاء ببعض اللفظ في بعض كلام الشخوص كمؤشر ودلالة على البطئ والتراخي والاتكال على قضية الانتظار كدلالة وضعية لفظية تفسر معنى الفكرة في النص. ان هذه الاشتغالات الدلالية سواء لاداء الشخصية والتعبير الادائي للممثلين انما هي فكرة لايصال دلالات المعنى الفني والفكري، فضلا عن الفعل الجمالي الذي اثار الجمهور المتفاعل مع العمل داخل زمن العمل، تحقق عبر امتلاك الممثل القدرة على خلق صور حسية فكرية في الوعي الانساني عبر ادائه الصادق لقضية واقعية وتحويلها من انطباع عام الى اعادة  تشكيلها فنيا لاعتقادٍ وطرحٍ خاص داخل عرض مسرحي لمهرجان مهم ومدينة مهمة في ظرف اشكالي. في نهاية المطاف مثلت مسرحية ميت مات عملا فنيا لصورة تعكس مستوى التجربة المسرحية في ذي قار وما آل اليه المشهد في ارض بدأ من عندها التاريخ.

 

6-6-2022

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| نــجـيـب طــلال :  في رحاب المسرحي” حَـسـن المنيعي “.

بالمكشوف: مبدئيا ندرك تمام الإدراك : بأن هـذا المبحث سيستهجنه ممن كانوا جنود الخفاء، وخـدام …

| نـجـيب طـلال : من صفرو:لَـكِ الله يا سَـيِّـدتي .

صور بديعة ؛ وخلابة بطبيعة خلـق الله ؛ كانت مترسخة في ذاكرتي منذ الصغـَر عَـن  …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *