| محمد الدرقاوي : حصار .

تتعمد حليمة أن تتأخر في المطبخ، متباطئة في غسل اواني العشاء قبل أن ترتبها على مهل فوق رفوف خزانة جدارية ، ثم تمسح المغسلة وّتجففها من آخر قطرة ماء ، عيونها بين لحظة وأخرى اطلالات خاطفة من أن عبدوس قد أوى الى سريره وغاب في نومة تؤكدها سامفونية شخيره، تتعالى فتملأ البيت، بهدير قوي عنيف ، ومخيف أحيانا ؛ذلك سبب أرقها وعذابها الليلي ؛ كم حاولت أن تنام خارج غرفة النوم، بعيدة عن شخيره واصوات بطنه وكوابيسه، لكن كلما صحا ولم يجدها بجانبه ،قام مذعورا باحثا عنها، يدمره الشك وينتهك سوء الظن كل كيانه ، فتصيرأقدامه أداة يرد بها الاعتبار لأمره المنتهك عن سلوك كثيرا ما حذرها منه كلما وجدها خارج غرفة النوم ..
كم ساءلت نفسها اية اسقاطات حياتية تحرك زوابع الشك في اعماقه عنها ؟ حتى استحال الشك لديه مرضا يخرجه عن الطوق، وخوفا متطايرا من عينيه الجاحظتين بشرر، يتفاقم يوما بعد يوم ؟ ليتها تعلم مماذا يشك و يخاف بالضبط ؟، فهي لم تغادر بيته مذ دخلته من سنة وعدة شهور ،ولم يطرق الباب أو يدخل البيت أحد غيره يمكن أن يشكل شكا في نفسه!!.. الى متى تستطيع أن تقاوم هذا العنف منه ،والعنف ما طوح بها اليه ؟؟..
كثيرا ما تصحو مفزوعة على كوابس أحلامه وهو يصيح ، يلعن ويشتم ، يهدد ويتوعد ، حين تساله صباحا ، ينظر اليها بشزر ويردد لازمته :” كوابيس معدتي المريضة ، اهتمي بنفسك وكفي عن الدخول في ما لا يعنيك ”
عند عودته الى البيت زوالا ،وفي المساء ، اول ما يبادرها به، استفسار عمن أتى او طرق الباب بسؤال .. تحملق فيه وتردد في أعماقها”غبي من يجرؤ على الاقتراب من باب بيت، أنت صاحبه ، وحدي تبددت أسرتي ، هدني السير، وكسرني الجوع، فوقعت في فخك ” ما اقتنعت به حليمة أن عبدوس كرة لحمية ضخمة من شك وخوف، حقد وبطش ،يبرق كل ذلك في عينيه من غضب، ويكشف تقاطيع وجهه ،فيصير وحشا على أهبة الانقضاض ..
…….
حين طرقت حليمة بالصدفة باب عبدوس كشحاذة، لم تكن غير طفلة قاصر في الخامسة عشرة من عمرها ، اقبلت من قرية نائية بعد أن فقدت الاب والام اثر معركة طاحنة بينهما، انتهت بدمهما معا، مراقا في مجزرة تبادل خلالها الرفس ثم الضرب بأسلحة بيضاء ، كل منهما كان يريد أن يتحكم في البيت حسب هواه ، وبمزاجيته يسير.. أب يتاجر في كل شيء من المتلاشيات الى السمسرة ، وأم جمالها شد اليها العيون فلم تتورع عن فتح كوات من خلوة تسرقها من انشغالات الزوج عنها … سلوك يغض الزوج عنه الطرف مقابل ما يجنيه من فوائد مادية …
حين قابلت حليمة عبدوس لم تكن تتوسل غير قليل من طعام تسد به الرمق بعد يوم كامل من سير و مسغبة ، رآها عبدوس وهو يهم بفتح باب بيته ، قادما من عمله ، فتحركت في نفسه رغبة طالما فشل في بلوغها ، أغراها بالدخول الى البيت ، قدم اليها ما يملأ بطنها ويفتح عيونها على ما قد يستهويها ويزين لها الاقامة معه ، وما كان يلتمع في عقله .. ناولها عبدوس ألبسة نسائية واقترح عليها حماما دافئا فلم تمانع، متوسمة الخير في رجل أكبر من أبيها ألمقتول ، أبلغها أنه يعيش وحده بلا أبناء أو مؤنس بعد أن ماتت زوجته ..
صارت حليمة بعد الحمام أنثى أخرى غير ما دخلت ، وضيئة زهراء، وجهها المستدير يتلألأ نظارة بغمازة على الخد الأيسر ، وظفيرتان مشدودتان فوق رأسها تلمعان عند انكسارات الضوء عليهما ، عيون حجلية بأشفار طويلة ، أكسبت العيون نظرة ناعسة تزهو بقد مياس يعطي لحليمة سنا أكبر من عمرها..
بكل ما يمتلكه من خبث لم يتوان عبدوس ـ وقد أنبهر بحليمة ـ عن إغوائها بالعيش معه كزوج وزوجة ، تتكفل به وببيته ،و الا تطالبه بعقد الى أن تبلغ سن الرشد وتحمل منه ، وحيث انه يعي عقمه وفشله ، فالحقيقة انه كان يريد التخلص من تبعات قد تصير قيدا يلوي عنقه ويجر عليه مشاكل لم يلبث أن تخلص من أخرى غيرها بغير قليل من مال وجهد اذا ما فكر يوما في التخلي عنها ..
كلما طال المقام بحليمة الا وأدركت تسرعها القبول بما اغراها به عبدوس ، فالبيت سجن حقيقي، وعبدوس جلاد ماكر، وقبضة من حديد، فلم تجد حليمة غير السطح متنفسا تدخله من نافذة متلاشية الباب ، تقضي فيه وقتا غير يسير تتابع فيه بلارج ( اللقلق ) كيف يتحرك في حرية ، يحلق عبر الفضاءات ثم يعود الى صومعته مزهوا، يتبادل التحية مع رفيقته عاطفا رأسه إلى الوراء مصفقاً بمنقاره تصفيقاً سريعاً، طائر يتقن التعايش مع غيره في احترام ، أو ترمي البصر عبر أسطح الجيران وقد تلاصقت كمكعبات ، بينها تبرز مآذن بالعشرات، وقراميد مساجد عتيقة ، ودور بدأت بعض اسوارها في التلاشي ، تركيبات لم تتعود عليها في قريتها .. كم فاجأتها أسراب الحمام المتآلفة ، سعيدة بهديلها وزق فراخها ؛ مع الحمام تهيم ،وهو يتطاير بين السطوح ، يحلق بعيدا ثم يعود جذلانا ، يشده الحنين لمأواه ..و لم يلبث أن فاجأها شاب وسيم بإطلالات خاطفة من سطح الجيران ، تتوارى حليمة خشية وحذرا ، لكن سرعان ما ألفته وقد تعودت أن تجده يذاكر أو يذرع السطح مفكرا او مرددا مقاطع مما يقرأ سرا وجهرا .. كان في الأيام الأولى يسرق النظر اليها في حذر و مع الأيام تحولت النظرات بسمات خجولات الى أن ارتاحت اليه فبادلته التحية بتلويحة يد، ثم ما لبثت أن تكونت لديها رغبة كبيرة وشوق لان تحكي معه ، تحدثه، متجشعة بأدبه ولباقته إذ لم يحاول يوما أن يقلل من احترامه لها ، كما حاول عمها منذ الليلة الأولى مستغلا وحدتها بلا حماية أم ولا أب في القرية ،فالشاب جارها لم يستغل نظراته وبسماته وتحايا يديه الى تحرش أو معاكسة ، وهذا ما بصم على قلبها بأثر ..
اقتربت حليمة من السور الفاصل بينهما ، حياها ،قدم اليها نفسه قائلا :
اسمي رضوان وأنت ؟
قالت وكانها تهمس اسمها باهتزاز من خوف : حليمة ..
يقترب من السور أكثر : اسم جميل،هل أنت بنت أخت عبدوس؟..
كادت أن تحرك رأسها بايجاب ثم تراجعت قائلة :
ـ لا أنا زوجته ..
علامة استغراب تتبدى على وجه الشاب ، وتقطيبة جزع تلمع في عينيه :
ـ حرام !! .. كيف يرتكب والداك هذا الاثم في حقك ؟
تطعنها ا العبارة ، فتنفجر عيناها دمعات تنحدر على خديها، ليست وحدها من تحتقر عبدوس وتخشاه !! ..ليت جارها يعرف أنها زوجة بالاسم فقط !! ..اضطرار بلا رضا .. يمد رضوان يده أكثر ويحضن يدها ، لم تقاوم، تترك يدها ترتاح بين يديه، يخدرها إحساس بالذوبان، بل تفقد قدرتها على التماسك والوقوف، لهيب لا يقاوم يشتعل في صدرها ، كأنها تغفو، وذبذبات شفاهه تهتز على يدها بقبلة حارة عميقة ، له همست :
ــ لا دخل لوالدي في ما وقع..
ثم تسحب يدها من بين يديه وتنسحب راكضة الى نافذة باب السطح ، يتابعها رضوان متخيلا كيف تعيش فتاة بهذه الأنوثة مع وحش بدمامة عبدوس ، وسمعته السيئة …
نال رضوان إجازة في اللسانيات ، ويستعد لمسابقة الماستر في علوم الاعلام ، يستقر في بيت عتيق مع أمه مذ توفي والده ورحلت أخته مع زوجها الى الخارج ..
نزلت حليمة من السطح وهي تحاول أن تتماسك مع أجزائها، قلب خفاق ، وعقل يتراكض بشتى الأفكار ، ساقان مرمريان ممشوقان لكنهما يفقدان قوة التحمل ..لا شيء يربط بينها وبين عبدوس غير يتمها القاهر ، فرضه نزاع القوة،وضلال التيه والتحلل من القيم الأسرية ،ثم حظ عاثر رماها الى بيت عبدوس ، ضغط وحصار ، شك وضرب وسوء الظن بها . إن ما يصرفه عبدوس عليها اقل مما قد تربحه لو اشتغلت خادمة لا يتلاشى لها جسد بتعذيب ليلي كما تتلاشى هي منطفئة ، رازحة تحت ثقل صدر يتوهم قدرة رجولة لا يملكها ، وتعذيب جسدي مبعثه شكه في نفسه وما يتحرك في اعماقه مما لا تعرفه عنه .. لا وثيقة رسمية تضمن لها حقا قد يساعدها على أعباء الحياة ،إذا ما تفاقم جبروته و شكه فيها بلاسبب ، ورماها خارج البيت ، ستجد نفسها بلا حماية من ذئاب الردى “كيف أسلمت نفسي اليه رخيصة بهذه السهولة ؟. لماذا يمتنع عن توثيق علاقتي به ؟ حتما يدرك فشله وفقدان رجولته فاتخذ كل احتياطاته .. البقاء في الدوار رغم مذلة الاهل بما وقع ، وتحرشات العم اهون مما أعانيه مع عبدوس.. لو أحدث رضوان بحالي، فهل أجد في صدره الصدى فينقدني؟”
….
كانت حليمة على مائدة الغذاء حين اخترق سمعها رجع لزغرودة من سطح الجيران هزت كيانها ، ارتداها الشحوب، وحركت صدرها بوجيب خفاق ، زغرودة صيرتها بين التماسك والخوف أمام عبدوس الجالس قبالتها يتناول غذاءه بشراهته المعهودة، يزفر كأنه يصارع اللقمات لا يمضغها ، وبين قلبها الذي انشطر في صدرها مما توهمته قد صار، أو سيصير ، انتبه عبدوس الى رجفات حليمة، و سحنة وجهها تتلون بلا سبب ، سألها : مابك ؟ ردت وهي تقلل مما فاجأها : ــ مغص في بطني منذ الصباح ، ربما من ضربة برد !! ..
أفرج عن ضحكة استهزاء أطلت من وجهه الدميم ، ثم تابع أكله بلا اهتمام وهو يأمرها : ـ اعدي لي كأس شاي ثم نامي فسترتاحين، لا تنسي أن تقفلي عليك باب غرفة النوم ..
كان ما يشغلها اقوى واعنف مما قد يجلب النوم لعيونها !!.. بل هو أقوى وأعنف حتى من شخير وعذابات عبدوس الليلية !! ..وأشد من القهر المسلط عليها !! .. ماذا في بيت رضوان ؟ وما سبب الزغاريد في بيته ؟ ..هل احترق الفتيل وذاب الشمع وانسدت كوة الأمل ؟.. مرت اللحظات بطيئة كأن الزمن قد توقف دهرا قبل أن يغادر عبدوس البيت ، فتهرول حليمة الى السطح تصعد الأدراج قفزا ..
كانت أم رضوان تطوي غسيلا ، تجمعه أنثى في عقدها الثاني من فوق الحبال ،وهما يتبدلان الحديث .. نوع من الانطفاء يصيب حليمة فتحتار هل تتقدم وتحيي السيدتين ، أم تنسحب بغصة تجفف حلقها، ونفس تذوب كشمعة يفنيها الاحتراق ..من تكون الشابة التي تساعد أم رضوان وتبادلها الحديث ؟
وكصوت الرحمة تلمح أم رضوان حليمة فتبادرها :
ـ اهلا حليمة ، اقتربي لأعرفك بابنتي كنزة لقد عادت من ديار المهجر ..
دعوة أم رضوان ترميم رحيم لنفس حليمة المتشظية ، تقترب من السور، فتبادرها كنزة بنفس أول سؤال طرحه عليها رضوان :
ـ هل انت بنت أخت عبدوس؟ بسرعة تتدخل أم رضوا ن وكأنها تعرف حقيقة حليمة أو ذلك ما أبلغه رضوان لأمه عنها : لا هي احدى قريباته فقط..
تضحك كنزة مستغربة : غريب !! .. وهل يؤتمن شخص مثل عبدوس على قريب أو بعيد ؟..
قبل أن تنسحب حليمة قالت لها أم رضوان : “باركي لي، رضوان قبض الشهادة الكبيرة..”
فرحة عارمة تكسو أعماق حليمة التي لم تتمالك نفسها، فترتمي على أم رضوان بعناق تبارك لها نجاحه ، ثم تسأل بلهفة: أين هو الآن ؟
لم يغب عن أخت رضوان ومن خلال الفرحة التي طغت على حليمة أن علاقة حب تربط أخاها بهذه البنت التي ربما تتخذ من زيارة عبدوس مطية للقاء أخيها،تحرك راسها رضا وإعجابا بجمال حليمة.. ثم بسرعة يداهم كنزة ما كانت تحكيه أمها عن ماضي عبدوس وما مر به من استنطاقات وحبس احتياطي قبل أن يقرر القضاء تبرئته للشك من قتل أخته..تبرئة ضج لها كل من حضر المحاكمة ..
……
ورث عبدوس البيت الذي يسكنه عن أبيه مناصفة بوصية بينه وبين أخته التي فضلت أن تنتقل للسكن في بيت ابيها مع بنتها بعد طلاقها من زوجها ، حاول عبدوس إغراء أخته بشتى الطرق لبيع نصيبها في البيت فامتنعت، فهي ترى في بيت أبيها طفولتها وحياة ابنتها من بعدها ،بيت عتيق هو مسقط رأسها ومن الصعب أن تتخلى عنه ، وابوها ما كتب وصيته الا لانه كان يعرف جشع عبدوس وقلة مروءته مما جعل المشاكل تتفاقم بين عبدوس وأخته الى أن أصبحت ذات يوم ميتة والبنت فاقدة الوعي بجانبها ؛ ما ظهر على وجهها وجسدها من بقع زرقاء، عزاه الطبيب كعلامة تسمم واضحة ،مما دفع الشرطة لاخضاع الميتة للتشريح ،و القيام بتحريات ارهقت عبدوس كثيرا ، قبل أن يتم الحكم عليه بالبراءة للشك اعتمادا على عبارة قالتها الصغيرة : رأيت عقربا تخرج من تحت لحاف أمي ؛ اما البنت فقد تكفل بها ابوها الذي باع نصيبها لعبدوس ابتعادا عنه وخوفا على بنته منه .
شرعت حليمة تهتز فرقا وهي تصغي لرضوان يحكي لها عن ماضي عبدوس، فليس غريبا أن يكون قاتلا وهي من عانت منه الرعب والبطش ، قالت لرضوان :
ـ ذات ليلة لم يجدني بجانبه ، كنت نائمة في البهو بعيدا عن شخيره وكوابسه ، ركلني برجله، لما صحوت مفزوعة قال لي : لو فارقت سريري مرة أخرى بلا إذن فانتظري موتك ، ولست الأولى .. كنت أخشاه، فقبضة من يده كافية لتزهق روحي ، أحيانا كان ينتهز انشغالي في المطبخ فيغيب لا أدري أين ؟.. كأن الأرض تبتلعه ، الى أن يفاجئني شخيره وهو فوق سريره ، لا أدري أين كان؟ ومن أين خرج ؟ لقد حاولت مرارا أن أفر من البيت لكن لم يترك لي منفذا للهروب ، وليس لي مكان معين اليه آوي ، أحكم سد كل الأبواب ،لم يكن أمامي غير السطح وجدتك فيه حضنا و خلاصا للنجاة ..واثقة منك رضوان …
….
لأول مرة مذ دخلت حليمة بيت عبدوس تسمع طرقات على الباب، تقدمت بحذر تسأل عن الطارق ، لم يكن غير مساعد عبدوس الذي أخبرها من وراء الباب أن عبدوس قد سقطت عليه رافعة في ورش للحدادة وهو الآن في حالة حرجة بالمستشفى ، دفع اليها مفتاحا من أسفل الباب وطلب منها زيارة عبدوس عاجلا ..
تسمرت حليمة في مكانها كتمثال أخرس لا تعرف ماذا تقدم او تؤخر ، فهي لا تعرف طريقا للمستشفى ، ولا تملك وثيقة تثبت هويتها ، سنة وبضعة شهور وهي هنا لا تعرف شارعا ولا إدارة ولا حتى اسم الحي الذي تسكنه ، التهمها بيت عبدوس بأنياب من حصار وقهر، ثم التهمتها اعمال البيت اليومية، والخوف و الحذر من عبدوس ، نكد ظلامي لولا شعلة من نور هي رضوان الذي صارت تعده حظها الكبير، وحده من أيقظ حواسها، ومعه تحيا بكل ذرة فيها ..
كانت حائرة بين أمرين أن تهرب بعد ان فتح لها الحظ باب النجاة أم تنتظر رضوان ، وحده ثقتها والذي كثيرا ما بدد من مخاوفها برقته وحنانه ووعده بأنه لن يتخلى عنها ، فهو القادر على أن يخطط لها حلا جذريا لمستقبل حياتها … بسرعة اندفعت نحو السطح ، رمت أكثر من حصية تنبه أم رضوان الى وجودها ..لا رد ، ربما نائمة أو خرجت لقضاء إحدى مآربها ؛ القلق يأكلها من قمة رأسها الى أخمص القدم ، كيف تتصرف ؟ تنزل من السطح ، مندفعة الى الباب، تفتحتها، بنصف اطلالة تمسح بعيونها الدرب الضيق الذي تراه للمرة الثانية منذ قدومها ، لفتها برودة تيار هوائي يخترق الدرب ، تراجعت ، لماذا لا تطلق رجليها للريح وتنجو بنفسها ؟ لكن الى أين ؟ لا ، ليس قبل أن ترى رضوان .. خطوات تتناهى اليها من بعيد ، هي أم رضوان قد ظهرت بجلبابها الفضي ولثامها الرمادي المطرز ، تتفاجأ بحليمة أمامها :
ـ ماذا وقع ؟ مابك ؟ وكف خرجت ؟
تحكي حليمة ما صار ، تبادر ام رضوان فتهاتف ابنها تستعجله القدوم ..
أخيرا تجد حليمة نفسها في محمية خارج سطوة عبدوس،حرة طليقة تغادر سجنه وتعانق حرية مع رضوان وأمه ..
كان اقتراح رضوان أن تزور حليمة عبدوس ، تطلع على حاله ، تسمع جيدا لما قد يخبرها به اذا كان لايزال على قيد الحياة .. بل أكد عليها أن تنتبه بكل شجاعة وثقة في النفس لكل ذبذبات صوته بدقة وبلا خوف: “ما عادت له سطوة عليك، أنت خارج حصاره،أنا معك وأمي معك والحظ معنا ” ..
كان عبدوس وحيدا في قاعة بالمستشفى ، ممددا فوق محفة ، ملفوفا في بياض الشاش كقزم فقد نصفه الاسفل ،أو كأن عظامه قد تفتت عن آخرها ، وحدها عيونه وقد ترمدت وارتخت جفونه ،ينظر اليها فلا تحس له بأثر ، ضاعت أعضاؤه فضاعت معها سطوته ، لا ترن في أسماعها غير وصية رضوان : “أنت خارج حصاره وانا معك” أشاراليها عبدوس بعينين ثقيلتين ، منه اقتربت ، فحشرج بكلمات متقطعة :
“خزانة .. أحرقي .. فلوس.. سيري فحالك ”
لم يجد رضوان صعوبة في فك مضمون العبارة ، فالخزانة لم تكن غير باب منحدرة لممر مظلم كأنه نفق قصير ،يؤدي الى غرفة صغيرة ، يتم الصعود اليها بدرجين ، رائحة غريبة تزكم الأنف ، هي نفس الرائحة التي كثيرا ماشمتها حليمة في عبدوس ، ورطوبة تضيق منها النفس باختناق ، في الغرفة كانت خزانة حديدية بابها به ثُقَب على شكل دائري كمتنفس ، لما فتحها رضوان لم تكن محتوياتها غير صناديق لدائنية شفافة ، تتحرك في بعضها افاعي وتعابين وفي أخرى عقارب بيضاء وسوداء ، اصطبغت حليمة بذعر وأصابها غثيان لم يخفف من أثره غير رضوان الذي ضمها اليه ، أسفل الخزانة علبة مخروطية قديمة وطويلة من ورق مقوى محكمة بغطاء معدني مكتوب بحروف لاتينية بها نقد ورقي ليس بالقليل ، حملها رضوان على كتفه كمدفع للهاون ثم خرج الى بيته وحليمة متعلقة به تجر قدميها من ضيق صدر وتهتز من رعب لما رأت .. لكن ماذا كان يريد عبدوس ان تقوم حليمة بحرقه ؟ ربما كان يريدها أن تبيد صناديق التعابين والعقارب بحرق !! .. لكن لماذا ؟ وهل كان يتوهمها قادرة ؟ لماذا كان يربي تلك الثعابين والعقارب أصلا في بيته ؟ هل لذلك علاقة بموت أخته ؟
في الصباح كان رضوان مع حليمة في مكتب الوكيل العام بعد أن أكد على حليمة أن تصرح بكل التفاصيل وماعانته مع عبدوس ، لكن عليها ان تتجنب ذكر العلبة المخروطية ..

 

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| مها عادل العزي : قبل ان تبرد القهوة .

-الخامسة فجرا بتوقيت مكان قصي خلف البحار والمحيطات- اشعر بانهاك شديد.. او انها الحمى تداهمني …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| د. زهير ياسين شليبه : المهاجر .

كان علىَّ اليوم أن أرى فيلم المهاجر! اتصلتْ بي شريكة حياتي، أو “نصفي الأفضل” كما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *