حسين سرمك حسن : إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون؟! تحليل رواية الحفيدة الأميركية لإنعام كجه جي (التاسعة والأخيرة)

ملحق رقم (2):
” صمت البحر ” .. قراءات خاطئة .. وإسقاطات مربكة
تُرجمت رواية (صمت البحر)(1) إلى خمس وعشرين لغة، وبيع منها بعد الحرب الثانية أكثر من مليون نسخة باللغة الفرنسية وحدها- التي أثارت ولازالت تثير الكثير من الخلافات والمجادلات خصوصا عندما تحين مناسبة قراءتها عند مثقفي بلد يحتل من قبل قوة غازية مثلما حصل للعراق عام 2003. لقد أثارت هذه الرواية الصغيرة حجما (78 صفحة من القطع الصغير) والكبيرة مضمونا مناقشات ساخنة بيننا كقراء ونقاد وكتاب بعد أن احتل الأمريكان الغزاة بغداد المحروسة عام 2003. حصل ذلك وبدرجة ساخنة في قاعة إتحاد الأدباء الخاوية والتي تعرضت لحرق جزئي ذاك العام. كان البعض من الكتاب العراقيين “الفرحين” بالاحتلال يحاول العثور على تبرير لقبول الجد الفرنسي لسكن الضابط الألماني (ورنر فون ابريناك) الذي احتل جيشه فرنسا في بيته مع ابنة أخيه، بالقول إن من المحزن أن ابنة الأخ أولا والجد ثانيا يواجهان هذا الضابط المثقف الحالم والموسيقي الرومانسي بالصمت التام والجفوة غير المعلنة، وأن من الإنسانية أن يحسنوا وفادته ويعاملاه بطريقة أكثر كرما !! كانوا يقولون إنه حتى الجدّ فكر في لحظة من اللحظات بأن من الخطأ معاملة الضابط الألماني بهذه القسوة، وهم يقتطعون بطريقة مبيّتة هذا الموقف من سياقه، وأنا هنا لأضع النقاط على الحروف بصورة علمية وموضوعية دقيقة فأقول إن موقف الجد هذا جاء ضمن السياق التالي الذي ضمته الصفحتان (40 و41) من الرواية: لقد كان الألماني يتحدث للجد وابنة أخيه الصامتين تماما عن أنه مؤلف مقطوعات موسيقية ويستغرب أن يرى نفسه رجل حرب. لكنه يعلن بوضوح، وسريعا: “بيد أنني غير نادم على خوض هذه الحرب لأني أعتقد أنها ستسفر عن أمور عظيمة “. انتصب- أي الضابط الألماني- وأخرج يديه من جيبيه ورفعهما نصف رفعة وقال: – أستميحكما عذرا، فقد أكون جرحت شعوركما. ولكن ما قلته اعتقده بصفاء نية وبدافع حبي لفرنسة . أجل، ستنجم أمور عظيمة لألمانية وفرنسة؛ وأعتقد، بعد والدي، أن الشمس سوف تسطع في سماء أوربة ” –وبالمناسبة فإن والده قد أوصاه وهو مشرف على الموت بأن لا يدخل فرنسا إلا وهو يرتدي خوذته وحذاءه العسكري! ولم يتنبه أولئك الكتاب العراقيون إلى أن هذا الألماني لم يكن موسيقيا حسب بل منظّر حرب من الطراز الأول . إنه مقتنع بقوة بأن احتلال فرنسة كان ضرورة لتحقيق الخير لشعب فرنسة، وهو تبرير لا يختلف عن تبريرات أشد مناصري الاستعمار من بريطانيين وألمان وأمريكان ممثلا في الحجة التقليدية والمستهلكة وهي أن الغرب يحتلنا لمصلحتنا!! حد أن البرلمان الفرنسي قد اتخذ قرارا قبل عدة سنوات اعتبر فيه احتلال الجزائر من قبل فرنسا من نعم فرنسا على الشعب الجزائري، وأن كل الاحتلالات الفرنسية هي هبة فرنسا للشعوب المتخلفة!! فماذا تنفع الروح الموسيقية لهذا الضابط ؟ ومع ذلك سأعود إلى سياق الحادثة السابقة، فبعد أن طرح الضابط الألماني “نظريته” في ضرورة احتلال فرنسا من قبل ألمانيا: (تقدم خطوتين وحنى جذعه، وقال على مألوف عادته كل مساء: – أتمنى لكما السعادة. ثم خرج ) هنا يعلق الجد على سلوك الضابط بالقول: (أكملت تدخين غليوني في صمت، وسعلت قليلا، وقلت: – “قد نسيء إلى الإنسانية إن نحن رفضنا أن نمنّ عليه بكلمة واحدة”. فأبرزت ابنة أخي محيّاها ورفعت حاجبيها عاليا جدا فوق عينين برّاقتين مغتاظتين، فكادت تعتريني مسحة خجل). هنا، مع نقل النص الكلي اتضحت الصورة فقد كان ما قاله الجد موقفا احتماليا (قد..) وخجل منه بعد أن واجهته ابنة أخيه المقاومة بسخط واستنكار بالغين عبرت عنه بحركة لاشفاهية بالغة الرفض. فالصمت هو بطل الرواية هذه، الصمت البليغ هو البطل الأساسي الذي لم يفهم سر فلسفته النقاد العراقيون الذين قال بعضهم أن عنوان الرواية “صمت البحر” هو عنوان “رومانسي” شفاف لا يليق برواية تتحدث عن مواجهة بين محتلين ومحتلين (بكسر اللام وفتحها). وهؤلاء لأسباب كثيرة من أهمها خضوعهم لتأثيرات الموقف الآيديولوجي والسياسي في التأويل النقدي من جانب، وإسقاط الرغبات الدفينة من جانب آخر، لم يستطيعوا فهم السبب الذي دفع الكاتب لاختيار هذا العنوان الذي تدور حوله أحداث الرواية كلها، كما يبدو وكأنهم يتناسون التبرير الواضح لاختيار العنوان الذي جاءت به المقدمة التي كتبها (م .د.) الذي لا نعرف اسمه الحقيقي مثلما لم نعرف حتى الآن هوية المؤلف الذي استخدم اسما حركيا هو “فيركور” الذي اختاره للتخلص من بطش الألمان “الشعراء” . جاءت المقدمة لتشير إلى أن المؤسسات الثقافية البريطانية سوف تُصدر في لندن مجموعة من الكتابات الفرنسية المقاومة للاحتلال تحت عنوان “دفاتر الصمت ” تضم أولا في التسلسل رواية “صمت البحر”. فهل اختار البريطانيون الذين كانوا تحت القصف والتدمير النازي اليومي هذا العنوان بروح رومانسية أيضا؟. الجواب بالنفي ، ويتضح ذلك جليا في مقدمة (م. د.) للرواية حيث قال:
( بعد بضعة أسابيع ، يبلغ الاحتلال الألماني عامه الثالث. منذ ثلاث سنوات، تعيش فرنسة شعار الصمت: صمتٌ في الجماعات، صمتٌ في البيوت، صمتٌ لأن العرض الألماني يسير ظهرا إلى “الشانزيليزه”، صمتٌ لأن الضابط العدو- وانظر أيها القاريء العراقي لهذا التلميح البليغ المرتبط بموضوعة الرواية- يسكن في الغرفة المجاورة، صمتٌ لأن الشرطة السرية تخفي السماعات تحت أسرّة النزل، صمتٌ لأن الصبي لم يعد يجرؤ على أن يقول أنا جائع، ولأن أجساد الرهائن الذين يُصرعون كل مساء تجعل من كل غد يوم حداد وطني جديد. ومن جهة أخرى، صمت الفكر، صمت الأدباء القسري وقد حُرموا الإفصاح عن مكنوناتهم، صمت أمام العالم. إن الشعوب التي لم تعش وراء هذا السور الذي شيّدته ألمانية حول العقل الأوروبي لا تستطيع معرفة مقدار العقاب. حسبها أن تعلم أنّ رجالا ماتوا لخرق هذا الجدار- ص 7و8). وهناك اعتراض فني آخر لم يعالج إلا سريعا لاستكناه معانيه الغير مباشرة ويتمثل في اسم مؤلف الرواية “فركور” الذي يقول عنه (م .د.) في مقدمته: (في كتابة هذه الأقصوصة، قد يكون المؤلف- وربما هو قصصي شهير، غير منازع، مشهور أو مغمور، أديب كبير جدا يتستر وراء لقب “فركور”- عرّض حياته للخطر. والذي قدم المال والمطابع وأوجد الورق في وقت لم يتوفر فيه للناشرين الرسميين المتمتعين بحماية فائقة، ذلك الفرنسي عرض نفسه للخطر. وتعرض أيضا للخطر العمال المنضدون للحروف والعاملات في تجليد النشرات، فيما العدو يجوب الشارع فوقهم بأحذيته النصفية السوداء- ص 15). أي أن هذا المؤلف المجهول قد عرض حياته للخطر وبذل الأموال من أجل أن يوثق صرخته “الصامتة” في وجه المعتدي المحتل. وقد سانده عمال وعاملات الطباعة والمجلدون والمنضدون. وقد آثرت أن أفرغ من هذين الإعتراضين الفنيين اللذين طرحهما البعض من الكتاب العراقيين للتفرغ إلى موضع تُسكب فيه العبرات كما يُقول التعبير العراقي الشائع. هذا الموضع يتمثل في خطورة التأويلات الخاطئة التي حاول هذا “البعض” تأسيسها على معطيات هذه الرواية من ناحية التعامل مع الشعراء والموسيقيين من جنود وضباط الجيش الغازي. إن هذه التأويلات التي حاول “البعض” تأسيسها ستضعنا أمام مبدأ جديد شديد الخطورة يدمر حق أي شعب في الكفاح والمقاومة. فإذا كان على أبناء الشعب المحتل ممثلا بالجد وابنة أخيه اللذين واجها الضابط الألماني الموسيقي بالصمت الرافض أن يقدم معاملة خاصة للضباط الألمان الذين يحبون الموسيقى والثقافة فمعنى ذلك أن على أي شعب يتم احتلال أرضه- مثل الشعب الفرنسي في الحرب الثانية والعراقي في الوقت الحاضر- أن يشكل لجنة تقوم بجمع المعلومات ومقابلة ضباط وجنود الجيش المحتل لمعرفة من منهم يحب الموسيقى والشعر كي يستثنيه من القتل!! وهذا أمر لا يحصل حتى في أفلام الكارتون وقد يستغرق أكثر من مائة سنة لإنجازه! إن الشعار الذي يجب أن يضعه كل شعب أمام عينيه هو قتل أي محتل يغزو بلاده. وعند تطبيق هذا الشعار من قبل الشعوب سوف تتردد أي دولة- ألمانيا مثلا- وتحسب ألف حساب قبل قيامها باحتلال دولة أخرى كفرنسا. أما عندما يعلم ضباط الجيش الغازي أن من يحب الموسيقى والشعر منهم سوف يستثنى من القتل فهنا سيصبح الاحتلال والغزو نزهة ثقافية وسياحية. إن الجد وابنة أخيه لم يقوما إلا بالحد الأدنى من الموقف الرافض. إنهما لم يكلما الضابط الألماني رغم مرور أكثر من مائة ليلة شتوية على بقائه في بيتهما. لقد سكن لديهما بطريقة لا تحتمل الرفض، فهو غاز عرض عليه مختار المنطقة الفرنسي أن يسكن في أفخم قصر لكنه اختار هذا البيت لأنه يناسب رغبته. ومنذ دخوله البيت كان يدخل عليهما بلا استئذان ودون أن ينتظر منهما الإذن بالدخول. الأنكى من ذلك أن هذا الضابط الفنان كان يتحدث إليهما باستمرار وحتى بوقاحة أحيانا رغم أنهما لا يردان عليه بأي كلمة على الإطلاق: (كان يقرع ويدخل من غير أن ينتظر جوابا، لعلمه أنه لن يحصل عليه.. ويأتي ليصطلي قرب النار وهي حجة مجيئه الدائمة، حجة ما انخدع بها ولا انخدعنا .. لا أذكر أنه تركنا مرة دون أن يتكلم. حديث لا ينتهي، لأنه لم يحاول مرة أن يتلقى منا جوابا أو تحبيذا أو حتى نظرة- ص42 و43) كما يقول الجد الذي هو راوية الحكاية. ومن بين وقاحات الضابط الألماني “المثقفة” أنه كان دائما يتحدث عن الحب المتبادل بل الزواج بين ألمانيا الغازية وفرنسا المحتلة من خلال مفردات وتشبيهات وأمثلة ذات جانب حسي: (أحببت فرنسة دائما، ولكن عن بعد، كمن يحب “الأميرة النائية”- ص37.. والدي كان يقول في حماس شديد: إنه سيجمعنا كما يُجمع الرجل والمرأة- ص 39 .. ولكنها الحرب الأخيرة. لن نتقاتل بعد الآن، بل سنتزوج- ص 47.. الآن أنا في حاجة إلى فرنسة، بيد أني أطلب منها الكثير: أن تحسن وفادتي .. ثروتها السامية، لا يمكن الاستيلاء عليها بل يجب أن ننهلها من ثديها، وينبغي أن تلقمنا ثديها في اندفاع وشعور والديين. ينبغي لها أن تقبل فهم عطشنا، وأن تقبل إرواءه وأن تقبل الإتحاد بنا- ص 55 .. فرنسة ستعلمهم أن يكونوا رجالا عظماء: – ولكن لا يحقق ذلك إلا الحب .. ونظر إلى عنق ابنة أخي النحيف المكفهر وأضاف بنبرة تصميم هادىء: – الحب المتبادل- ص 63 ).
وتصل تشبيهات الإتحاد الجسدي والروحي الذي يطلبه الألماني من فرنسا ذروتها في مثل حكاية “الحسناء والوحش” الذي ضربه لهما ليجسد هدف الزواج الألماني الفرنسي عبر الحب المتبادل:
(مسكينة تلك الحسناء استبد بها الوحش، وهي العاجزة السجينة.. الحسناء تلك فخورة، عزيزة النفس، متصلبة.. ولكن للوحش مزايا لا تكشفها الظواهر.. الحسناء تتأثر فتمد يدها.. وعلى الفور يتبدل الوحش وهاهو الآن فارس جد وسيم.. تجمّله كل قبلة من الحسناء.. وأوجد اتحادهما غبطة سامية. أما أولادهما، الذين جمعوا مواهب والديهم، فقد غدوا أجمل أولاد جادت بهم الأرض- ص 49 و50 ).
ألم أقل أنه ليس ضابطا فنانا جاء قسرا مع قوات الاحتلال بل هو صاحب نظرية في الإحتلال ؟! ولمن انكسرت قلوبهم على هذا الضابط المحتل الفنان ليسمعوه وهو يعلن بلا تردد وبحماسة أنه يميل إلى جانب “الوحش” أي الوحش النازي فيخاطب الجد وابنة أخيه: – أما كنتما تحبان هذه القصة؟ أنا أحببتها دوما. كنت أعيد قراءتها باستمرار فتبكيني. أحببت خصوصا الوحش لأني فهمت عذابه. وإني لأتأثر حتى اليوم عندما أتحدث عنه- ص 51).
وفي كل تلك الأحاديث كان يركز بصره على الفتاة- إبنة الأخ كاشفا بصورة غير مباشرة عن موقفه التحرشي الجنسي المستفز رغم أغطيته النظرية- ويجب أن لا ننسى أبدا أن الاستعمار من الناحية النفسية يتضمن معان جنسية خاصية دائما، فالمحتل “يغتصب” و”يفتح” و”يمزق” .. إلخ- إبنة الأخ التي لم تنعم عليه بنظرة ولا بكلمة أبدا كما يقول الجد نفسه في أكثر من موضع : (كان ينظر إلى ابنة أخي وهو يتكلم، ولكن لا كرجل ينظر إلى امرأة، بل كمن ينظر إلى تمثال. وفي الواقع، لقد كانت تمثالا حقيقيا، تمثالا حيا- ص 39).. (ومكث طويلا لا يبدي حراكا.. وكانت ابنة أخي تحيك بنشاط آلي، فلم تلق بنظرها عليه ولو مرة واحدة- ص 37) .. (.. فعيناه تتوقفان على مشهد ابنة أخي الجانبي المنحني، الذي لم يُلفَ مرة إلا على جانب من القساوة والجمود- ص 33).
وحين قلت إن الصمت هو بطل هذه الرواية، فلأن هذا الصمت موقف رافض ومقاوم يحمل كل شحنات الإنفعال الساخط. هو ليس صمتا سلبيا ، بل صرخة هائلة ناقمة بكل ما في الكلمة من معنى. لنر انفعال ابنة الأخ “الصامت” عندما مهّد الضابط الألماني لقصة “الحسناء والوحش”. يقول الجد الراوي:
(.. وحوّل نظره إلي، فأعرضت عنه، ثم عاد يحدق في الوجه القاسي والعديم الإحساس الذي أهمله، فقال: – أنا سعيد لأني وجدت هنا رجلا مسنّا عزيز النفس، وآنسة صامتة. ويجب التغلب على هذا الصمت. يجب قهر صمت فرنسة؛ بذلك تطيب نفسي. كان ينظر إلى ابنة أخي، إلى مشهدها الجانبي الصافي العنيد المغلق، في صمت وفي إلحاح رصين، ومابرحت تطفو على محيّاه، بالرغم من كل ذلك، بقايا ابتسامة. وأحسّت ابنة أخي بتأثير نظراته، ورأيت على وجهها مسحة احمرار، وارتسمت غُضنة بين حاجبيها شيئا فشيئا، فيما راحت تسحب الإبرة في عنف وخشونة زائدين كاد الخيط معها ينقطع- ص 48 و49 ).
كانت الفتاة تحتقر هذا الضابط المحتل رغم أنه كان موسيقيا وقام بالعزف على البيانو العائد لها “الفاتحة الموسيقية الثامنة وملحقها المتسلسل” لباخ وهو ألماني، والتي تدربت عليها قبل هزيمة بلادها فتركتها بعد الاحتلال. كانت تحتقره لعلمها بأن الفنان الحقيقي يكون دائما ضد مصادرة حرية الآخرين وضد استعباد بني البشر وضد استخدام القوة المسلحة، وأنه لا يمكن لفنان أصيل أن يصبح ضابطا مسلحا يحتل أوطان الغير. لكن هذا الضابط يرى في الاحتلال واستخدام السلاح والقتل وسيلة لتحقيق غاية مقدسة تتمثل بالزواج الألماني الفرنسي لخلق تاريخ جديد لأوربا. هكذا تبرر الغاية الواسطة! فهل هناك موسيقيون وشعراء أمريكان يأتون على ظهور الدبابات ويطلب منا أن نتحالف معهم؟ يا لها من أطروحة مسخرة تضحك على الذقون تمهيدا لحلقها. وحين ذكرت، في الإقتباس السابق قول الجد عن أن الضابط ( حوّل نظره إليه- أي إلى الجد- فأعرض عنه ) فلكي أطيح بما يستند إليه ذاك البعض الذي يحاول مقاومة المحتلين بالطرق “الفنّية” متخذا من بعض مواقف وعبارات الجد دليلا على ذلك. ومن جديد هي مواقف مقتطعة بصورة سخيفة تفقد الحدث معناه الحقيقي الذي رسمه له الروائي “فركور” . فأحد الكتاب يرى أن الجد كان يميل للتعامل مع الضابط بإنسانية ويتحدث معه، عكس ابنة أخيه ذات الصمت المطلق . لكنني أسأل هذا الكاتب: أين وجدت مثل هذا الموقف يا حلو؟ منذ بداية الرواية يقول الجد إن عملية الصمت التي قام بها مع ابنة أخيه هي عملية مخططة ومقصودة من كلا الطرفين: لقد خططا للصمت منذ الدخول الأول للضابط. فقد فتحت الفتاة الباب وهي صامتة. سلم عليهما الضابط وقدم نفسه ولم يردا عليه التحية ولم يبتسما في وجهه رغم تهذيبه الظاهر، بل رغم إعلانه أسفه لأنه اختار السكن في بيتهم: (- أنا آسف. وقعت كلمته الأخيرة في الصمت .. لبثت ابنة أخي مسندة ظهرها إلى الحائط وقد أغلقت الباب، ناظرة أمامها في اتجاه واحد. أما أنا فلم أقف وإنما وضعت فنجاني الفارغ في هدوء على الارغن وشبكت يدي وانتظرت- ص 26) .
لم يكن الجد رافضا لخطة الصمت بل مشاركا اصيلا فيها، فهو لا يذكر دور ابنة أخيه إلا ويذكر نفسه معها في تنفيذ الخطة:
( طال الصمت وتكاثف شيئا فشيئا كضباب الصباح، الكثيف الثابت، وقد اثقله جمود ابنة أخي وجمودي أنا بلا ريب، فجعله من رصاص- ص 27).
وهو يعلن اتفاقه مع ابنة أخيه- رغم أنه ضمني- على أن يصمتا ويعاملا الضابط كأنه غير موجود أو كأنه شبح في أفضل الأحوال كما يقول:
( فقد قررنا- أنا وابنة أخي- باتفاق ضمني ألّا نبدل شيئا في مجرى حياتنا، مهما كان بسيطا، كأن لا وجود للضابط أو كأنه أحد الأشباح- ص 32 و33).
وحتى عندما يريد أن يستميلهما بأي طريق فإن رد فعلهما كان متساوقا في تنفيذ خطة الصمت الرافض:
(مكث طويلا لا يبدي حراكا. ابنة أخي لم تلق بنظرها عليه ولو مرة واحدة. ذلك فيما أنا أدخن في استلقاءة نصفية على كرسي الكبير، معتقدا أن ثقل صمتنا لن يتزعزع، وأن الرجل يوشك أن يحيينا وينصرف- ص 37). والجد يقول بصيغة الجمع دائما إنهما لم يدعواه حتى للجلوس على المقعد في الغرفة. ولكن متى أعلن الجد عن تعاطفه مع الضابط المحتل؟ في مواقف معدودة، وأنبّه من جديد على أن بترها من سياقها كما فعل “البعض” سيشوهها ويظهرها وكأنها مباركة للمحتل الموسيقي. الموقف الأول في دخول الضابط البيت الفرنسي أول مرة وتقديمه نفسه الذي قوبل بالصمت المطلق ثم صعوده إلى “غرفته” حيث قال الجد لابنة أخيه: – الحمد لله، إنه يبدو لطيفا. فماذا كان رد فعل الفتاة (هزّت ابنة أخي كتفيها، وجذبت سترتي المخملية إلى ركبتيها، وأنجزت إثبات الرقعة الخفية التي كانت شرعت في خياطتها- ص 29 ). إنه تقييم انطباعي يحمد الجد فيه الله على أن هذا الضابط المحتل لم يكن وحشا قاسيا كبقية الضباط النازيين. في الموقف الثاني وبعد أن أعلن الجد أنه وابنة أخيه قد اتفقا ضمنيا على أن لا يغيرا أي شىء في حياتهما اليومية مهما كان بسيطا ومعملة الضابط وكأنه غير موجود أو كأنه شبح، فإنه يستدرك مع نفسه بالقول:
(ولكن قد يخالج هذه الرغبة شعور آخر في قلبي: فأنا لا أستطيع إهانة رجل بغير أن أتألم، ولو كان ذلك الرجل عدوي- ص 33). وواضح أن من الممكن أن يهين عدوه مع شعوره بالألم، وهذا ديدن الحياة البشرية.
أما الموقف الثالث فقد جاء بعد أن أعلن الضابط أنه موسيقي وأنه يحب فرنسا وأنه خاض الحرب لأنه يعتقد أن شمسا ستسطع في سماء أوربا من اتحاد ألمانيا وفرنسا ثم انسحابه المهذب. علق الجد قائلا: – قد نسيء إلى الإنسانية إن نحن رفضنا أن نمنّ عليه بكلمة واحدة. وهو مقترح يطرحه أمام ابنة أخيه بصيغة الجمع- ضمير المتكلمين- فجاء رد الفتاة الحازم بصمت جعل الجد يشعر بالخجل من مقترحه كما يقول: ( أبرزت ابنة أخي محيّاها ورفعت حاجبيها عاليا جدا فوق عينين برّاقتين مغتاظتين، فكادت تعتريني مسحة خجل- ص 41 ).
في الموقف الرابع يعلن الجد إعجابه بالضابط، ولكن لماذا؟ لأنه تحمل صمته وابنة أخيه لمدة مائة ليلة شتوية، و (لم ييأس، وما حدثته نفسه مرة بأن يتمرد على ذلك الصمت الحاقد بشيء من العنف في الكلام- ص 57 ) وهذا موقف لا يحتاج تعليقا. أما الموقف الأخير والحاسم الذي ختمت به الرواية فهو عندما أخبرهما الضابط بأنه سيقضي إجازته، وهي أسبوعان، في باريس. وسيلتقي بأصدقائه الألمان الذين يجرون المفاوضات مع الساسة الفرنسيين ” تمهيدا لوحدة شعبينا الرائعة- ص 67″ كما يقول. ذهب وعاد ليعتكف في غرفته لأكثر من أسبوع. لم يزر الجد والفتاة إلا بعد أن قرر أن يغادر المنزل، ولكن بعد أن يكشف لهما حقيقة ما شاهده من حقائق كارثية مستترة. كانا يشعران باضطرابه من خلال عزلته وحركته في الغرفة العلوية. وقد نزل ذات مساء ولأول مرة يطرق الباب منتظرا أن يأذنا له بالدخول. طرق مرات عديدة دون رد، وعندما أوشك على الإنصراف، بادر الجد بالقول: – أدخل ، سيدي . علق الجد مباشرة:
( علام أضفت: سيدي؟ ألأثبت أني أدعو الرجل لا الضابط العدو؟ أم، على النقيض من ذلك، لأبين أنني لا أجهل مَن طرق الباب وأنني أتوجه إليه بالذات؟ ومهما يكن من أمر، فمن الثابت أنني قلت: “أدخل، سيدي ” ، وأنه دخل- ص 77). هنا يكشف لهما هراء الموسيقى والرومانسيات الاحتلالي ، وضحالة مشروعه في الزواج التنويري بين ألمانيا وفرنسا في ظل الحراب الغازية. هذا ما عبر عنه بصراحة تغافلها ذاك “البعض” من الكتاب العراقيين، حين قال للجد والفتاة: – عليّ أن أوجه إليكما كلمات خطيرة. إن كل ما قلته في الشهور الستّة هذه، وكل ما سمعته جدران هذه الغرفة .. يجب .. يجب أن ننساه- ص 80).
لقد تكشفت له النوايا الحقيقية للقادة الألمان. ففي باريس ضحكوا عليه وسخروا من روحه الموسيقية:
(لقد رأيت أولئك الرجال الظافرين، وتحدثت إليهم، وقد سخروا مني. لقد قالوا: إنك لم تفهم أننا نسخر منهم. لقد قالوا ذلك بالضبط: إننا نسخر منهم. وقالوا: إنك لا تتوقع أننا، شأن البلهاء، سنترك فرنسة تنهض وتنتصب على حدودنا، ألي كذلك؟ وضحكوا مني ضحكا صاخبا وراحوا يضربون ظهري فرحين وهم ينظرون إلى وجهي قائلين: “نحن لسنا موسيقيين”- ص 81 و82).
وللبعض أقول أن الرسالة الجوهرية الأخرى التي يريد فيركور توصيلها للعراقيين هي أن الضباط الموسيقيين ليسوا خطرا على الشعب المحتل من خلال إرباك مخططاته في المقاومة عبر إدخال تمييزات رومانسية حالمة وسط لهيب المدافع والموت حسب، بل هم خطر على خطط الجيش الغازي (الألماني هنا) أيضا والذين عبر قادته للضابط الموسيقي بوضوح عن نواياهم الحقيقية التي لا تحتاج لكشف فهي نوايا احتلال واحدة وليست نوايا احتلال استعمارية وأخرى موسيقية وثالثة “تحريرية”. لقد قالوا له بالحرف الواحد: ليست السياسة حلم شاعر؛ لماذا، في اعتقادك، أعلنا الحرب؟ أمن أجل مشيرهم الشيخ ( يقصدون الجنرال الفرنسي الخائن بيتان)؟ وضحكوا أيضا قائلين: “نحن لسنا مجانين ولا أغبياء، فلدينا الفرصة لتدمير فرنسة، وستُدمًر. ولن ندمّر قوتها فحسب، بل روحها أيضا، خصوصا روحها، فهي أعظم خطر. ذلك دأبنا في الوقت الحاضر، لا تنخدعنّ يا عزيزنا! سنجعلها تعفن بابتساماتنا ومداراتنا ونحيلها كلبة زاحفة- ص 83). وهنا فقط، ولأول مرة، وعبر ستة أشهر كاملة، نظرت الفتاة الفرنسية العظيمة إلى الضابط الألماني، ستة أشهر لم تنظر إليه مرة واحدة. يا لعظمة الإنسان عندما يؤمن بوطنه حد الموت، وعندما يؤمن بأن باستطاعته أن يقاوم حتى بالصمت!!: (تعلقت عيناه بعيني ابنة أخي الشاحبتين المتمددتين، وقال بصوت منخفض رتيب حاد مضغوط ، يضيّق التنفس في بطء مرهق: -لا أمل يُرتجى.. لا أمل .. لا أمل- ص 84). حتى أخوه الشاعر الذي أمضى معه عمرا كاملا يعزف له وهو يقرأ له قصائده، حتى هذا الأخ الشاعر مرهف الشعور خيالي النزعة صار جلادا متوحشا يعلن ضاحكا: -سنقايض روح الفرنسيين بصحن من العدس!!- ص 89). وهنا يقدم فيركور درسا عظيما آخر لمثقفي البلدان المحتلة ويتمثل في حاجة الغزاة الأساسية لاستخدام الفكر جنبا إلى جنب القوة المسلحة لتحطيم إرادة الشعب المحتل- أليس هذا ما أدركه الأمريكان الغزاة وقبلهم الصهاينة أيضا؟ – ( فالقوة تكفي للاحتلال لا للسيطرة، ونعلم حق العلم أن الجيش ليس شيئا في مجال السيطرة- ص 89) كما قال الضابط الشاعر شقيق الضابط الموسيقي الذي صرخ في وجهه قائلا: إذن أنتم تسخّرون الفكر، أليس كذلك؟ ، فأجابه الأول بحماسة: -الفكر لا يموت أبدا، فقد عرف غيركم من الفاتحين. إنه يُبعث من الرميم وعلينا أن نبني لألف عام، ولكن علينا أن نهدم أولا- ص 89). ولهذا أيضا عمل النازي المحتل بكل قوة على خلق “متفهّمين” للاحتلال بين المثقفين الفرنسيين وفر لهم كل التسهيلات كما عمل الأمريكان في وطننا. وأود التأكيد هنا على أن المقدمة التي كتبها (م.د.) للرواية لا تقل أهمية عن الرواية نفسها، وفيها يعلق (م.د.) على هذا العمل التخريبي الذي قام به النازي في الوسط الثقافي الفرنسي بالقول :
(لم ينخرط في خدمة العدو سوى زهاء عشرة أدباء دُفعوا في مهمات دنيئة مع مئة من الخدم مجهولين تماما حتى ذلك الحين. وإذا ما شئنا أن نتذكر أن فرنسة تضم زهاء مئة أديب مشهور، وخمس مئة توقيع من ذوي الأهلية، لعلمنا أن النسبة ضئيلة، وأنها تمثل عشرة في المئة من الجبن الذي يحمله كل واحد منّا، وهي الحد الأدنى الذي لا مفرّ منه في الجماعة الإنسانية.هؤلاء الكتّاب القلائل توفّرت لهم وحدهم، منذ ثلاث سنوات، جميع أسباب الدعاية، فحاولوا بضجيجهم تضخيم عددهم. أما فرنسة، فقد ولّتهم ظهرها في إجماع حدا رئيس جوقتهم الموسيقية “دريو لا روشيل” إلى أن يصرح بنفسه: -يكاد يجبهنا كلّ الذكاء الفرنسي وكل فنون الشعر أيضا. ولا نُطيل، فالرجال يضمحلون تحت وطأة المذلة، ولا نصفق حتى ساعة موتهم- ص 9 و10).
وهذا الفكر الذي يبغي النازي تدميره هو روح فرنسا الحقيقية وشعلتها الخالدة. وتحت سوء تأويل دور هذا الفكر وعلاقته بالحرب والاحتلال حصل الإرباك الذي أثاره تغلغل الضابط الألماني المحتل الموسيقي في “البيت” الفرنسي. وهذا هو العامل الأساس الذي جعل فيركور يصمم ثيمة روايته على أساس ضابط غاز يسكن في بيت عائلة فرنسية رغم أن هذا الأمر محظور عسكريا لأن مكان إقامة أي ضابط ولدواع أمنية وعسكرية هي ثكنته حسب، ومحظور عليه الاختلاط بالمدنيين من سكان البلد المحتل. فهذا الضابط مثل رمزيا الفكر حين يخدع (بضم الياء وفتحها )، فيسب إرباكا هائلا في حركة أي شعب مقاوم، مثلما يعرقل خطط الغازي كما أعلن ذلك القادة الألمان للضابط الألماني (ورنر فون إبريناك) الذي حمل نظرية احتلال “فنّية” سخروا منها معلنين له بلا لبس أن واجبهم ليس الزواج التنويري والحب المتبادل وترهات الحسناء والوحش ، وليس حتى تحطيم جسد فرنسا، ولكن تدمير روحها. وها هو يخبر الجد وابنة أخيه بأنه قد طلب من قيادته أعفاءه من منصبه، وأن يلتحق بقرقة في الريف حيث سيواجه الموت بعيدا عن بيت خلفي يعزف فيه على البيانو ويتحكم بمواطنين اثنين تحت غطاء أداء مهمة الزواج التنويري المسلح (وقد مُنحت أخيرا ذلك الإنعام، فأذن لي بالرحيل في الغد- ص 93).
يعلق الجد على ذلك بالقول:
(تخيّلت شبح ابتسامة يتماوج على شفتيه، عندما أوضح بقوله: -أنا راحل إلى الجحيم.                                                                                            وارتفع ذراعه نحو الشرق، نحو تلك السهول الواسعة حيث سيتغذى قمح الموسم المقبل بالجيف- ص 93).                                                                                   وهنا تتجلى المناسبة/ الدليل الفيصل القاطع الذي سيلقم فاه أي استنتاج مراوغ أو ذرائعي بحجر أسود كبير. هذا الدليل القاطع سيحسم موقف الجد الرافض لاحتلال وطنه بلا هوادة خصوصا بعد ان اتضحت نوايا الغزاة وتمزقت عنها التخريجات “الفنّية”. فها هو الجد يقول بصريح العبارة إن سهول الريف الفرنسي ستأكل الضابط الألماني الموسيقي الذي سيرحل إليها غدا كجيفة للسماد. وهو يرسم له مصيرا مظلما بلا أسف وبلا مراجعات إنسانية ليس مسؤولا عنها. وهنا أيضا يظهر جانب آسر من القيمة الهائلة للمقدمة. فكاتبها المجهول يقدم تحليلات ورؤى شديدة الروعة مؤسسة على مواقف من الرواية لا نعرفها إلا بعد قراءة الرواية حيث تتلألأ قيمة تلك التحليلات والرؤى بصورة مضاعفة وبفعل جمالي وتأويلي باهر. يقول كاتب المقدمة:
(أتخيّل، لبضعة أيام خلت، ومن خلال جميع سهولنا إسطوانات حديد ثقيلة تُجرّ فوق قمح الربيع. وقد يخالج أفئدة الذين لا يدركون فنّ الزراعة أن النباتات الجديدة قد سُحِقت وأن مصير الغلال قد ضاع. والحال أن فلاحي إقليمي قالوا، ولاشكّ، شأنهم في كل عام: “إن هذه الطريقة تثبّت الجذور في الأرض بعمق أكثر، فيعود العشب إلى الظهور أشدّ التفافا”. مرّت جنازير الدبابات فوق أرض فرنسة… وسوف تطول السنابل بعد ثقل النكبة، وبعد وطأة الصمت- ص 16 و17).
وهذا ما نأمله قطعا من سهول العراق العظيم أيضا الذي تشعر أن كاتب المقالة وكأنه يخاطبه وهو يذود عن سمعة وطنه فرنسا بقوله:                                                          (لا ، حاشا أن يكون شعبا حقيرا، غائبا، ذاك الذي يضم في كل طبقات المجتمع الرفيعة، رجالا قادرين على أن يضحّوا بحريّتهم وحياتهم في سبيل الكلمة المكتوبة. فلا يذكرّنّ أحد بسوء بلدا يُهرق فيه الدم لسيادة الفكر.                                                                                      فرنسة لا تستسلم، وأنها لمستعيدة العظائم التي يبدو أنها فقدتها- ص16 ).

وقفة مع “رنيه شار” :
عندما تحدثت عن خطورة خلط أي ذريعة فنية أو موقف شعري في الموقف من الغزاة، فليس معنى ذلك أن الشعراء لا يتصدون لجيوش الاحتلال بالكلمة وبالسلاح. أبدا ، ما قصدته هو أن لا نقحم المبررات الشعرية، وأداتها الكلمة، في خضم المنازلة السياسية في الحرب، وأداتها الرصاصة. وأن- وهذا هو الأهم- أن لا نستخلق أي مبررات فنية لمهادنة الاحتلال وتقسيم جيش الغزاة إلى فئات غنية وأخرى عسكرية. يجب قتل كل غازي لكي لا يكرر الغزو وإهانة كرامات الشعوب ومقدساتها. أما الشعراء، أما الموسيقيون فإن رسالتهم المقدسة العظيمة يجب أن تردعهم أصلا عن التفكير في احتلال وطن شعب آخر واستعباده. وبمجرد أن ينخرطوا في صفوف جيش الاحتلال فعليهم أن يعلموا أنهم سيكونون هدفا للقتل ولن يشفع لهم أي تخصص فني أو موسيقي لأن معنى ذلك أن على الشعب المحتل المهان أن يشكل لجنة لمقابلة جنود وضباط جيش الاحتلال وتصنيفهم فنيا وهذا الأمر يستغرق قرنا من الزمان وهونكتة استعمارية كما قلنا. وهذا الشاعر الفرنسي العظيم “رنيه شار” ينخرط في صفوف المقاومة عام 1941 مقاتلا جسورا ارتفعت به المناصب إلى أن أصبح قائدا مرموقا في المقاومة ضد النازيين. قاتل بالبندقية مثل أي جندي باسل. وصفه الكولونيل “كوست” أحد رفاقه في حركة المقاومة قائلا: (المدهش في رنيه شار أنه، وهو في الأصل شاعر، أي كائن حالم، كان جنديا رائعا. لقد كان يؤدي واجبات لا يستطيع أداءها كثير ممن اختاروا الحرب كمهنة لهم). ويتساءل “جان فرنان”:
(هل كان رنيه شار وهو يواجه الخطر لا يشعر به، أم أنه قد أوتي شجاعة خارقة؟ كان يعرف متى يكون مع رجاله قاسيا جدا. لكن عدالته توازي شدته) (2).
فهل من واجب رنيه شار أن يقضي عمره في البحث عن الموسيقيين والشعراء في جيش النازي الغاصب لبلاده؟. لكن هنا، وهذه من عطايا هذه الرواية العظيمة عبر الإيحاءات الغير مباشرة، هل من الممكن أن يلتقي مثقفو البلد الغاصب مع مثقفي البلد المغتصَب؟ هنا يأتي درس بليغ آخر من رنيه شار المقاوم الشجاع والشاعر المبدع.
درس آخر من رنيه شار :                                                                        يقول رنيه شار: (رجلان حملا لي الماء الذي به ارتويت: بودلير ونيتشه). ولهذا كان طبيعيا أن يلتقي رنيه شار بمارتن هيدجر الذي يعد نفسه امتدادا لنيتشه، ليس فقط لأنهما تأثرا بأفكار مشتركة، بل لسبب آخر أهم، هو أن الشعر والفكر عند كل منهما وجهان لعملة واحدة. رنيه شار يبحث في شعره عن جوهر وجوده، ومارتن هيدجر يطرح مشكلة الوجود من خلال إعادة النظر في التراث الفلسفي كله وتحليل اللغة للبحث فيها عن صورة الوجود الحقيقي والوجود الزائف… أما علاقة هيدجر برنيه شار، فلم تبدأ إلا في عام 1955 عندما التقى الرجلان في فرنسا، فأحس كل منهما بالقرابة الروحية العميقة التي تربطه بالآخر على رغم أنهما كانا من الوجهة العملية نقيضين؛ هيدجر ألماني متحمس لفكرة الأمة الألمانية، بل أن بعضهم يتهمه بالنازية، أما رنيه شار فهو من أبطال المقاومة ضد الاحتلال الألماني لفرنسا. ولقد توثقت عرى الصداقة بين الرجلين إلى درجة أن هيدغر أصبح يرى في شعر صديقه الفرنسي شاهدا على فلسفته، وأن رنيه شار أصبح يرى في فلسفة صديقه الألماني تفسيرا لشعره. بل لقد تصدى بطل المقاومة الفرنسية للدفاع عن الفيلسوف الألماني عندما ثار الجدل في مجلة “الأزمنة الحديثة” – مجلة سارتر- عام 1959 حول علاقة هيدجر بالنازية، وهي مسألة أثيرت من جديد في فرنسا خلال الشهور الماضية، بعد أن تُرجم إلى الفرنسية كتاب “هيدجر والنازية” الذي حاول فيه مؤلفه الشيلي “فيكتور فارياس” أن يثبت من خلال بعض الوثائق أن هيدجر كان عضوا في الحزب القومي الاشتراكي الألماني، وأنه ظل ملتزما بالأفكار النازية إلى أن توفي عام 1976، وأغلب الظن أن الكتاب والضجة المثارة حوله حملة من الحملات التي يشنها الصهيونيون على الضمير العالمي بين فترة وأخرى، حتى يفرضوا عليه السكوت عن جرائمهم الوحشية في فلسطين المحتلة) (3).
عودة إلى “صمت البحر” : بعد أن نقل الضابط الألماني للجد وابنة أخيه حقيقة المخطط التدميري المرسوم لتحطيم روح وطنهما فرنسا ، بخلاف ما رسمه أمامهما من لوحة مستقبلية بهية للزواج الألماني الفرنسي المرتقب تأجج انفعال الفتاة .. انفعال يأتي شديد البلاغة التعبيرية في صمته . إنفعال يصفه الجد بصورة مؤثرة : (آلمني وجه ابنة أخي، فقد كان شاحبا كالقمر، وقد انفرجت شفتاها أشبه بحفافي إناء ملون، ماطّة شفتيها، راسمة حرَدا في مظهر فاجع على نحو ما تمثله الأقنعة اليونانية. ورأيتُ في حدود الجبهة وشعر الرأس لا أقول ظهور ، بل تفجّر .. أجل، تفجّر لآلىء من العرق- ص 93). لقد تفجر الغضب العارم لكن بصمت هو اشد إفصاحا من أي كلام. غضب كان يصل مباشرة وبعزم هادر من عيني الفتاة إلى عيني الضابط الألماني كما يقول الجد: ( لست أدري هل رأى ذلك “ورنر فون إبريناك”. كانت حدقتاه وحدقتا الفتاة مربوطة كما يُربط قارب بحلقة الضفة في مجرى ماء، وكأنها مربوطة بخيط جد مشدود ومتصلّب بحيث لا يجرؤ أحد أن يُمِرّ إصبعا بين عيونهما. وأمسك “إبريناك” قبضة الباب ونظر إلى ابنة أخي، نظر إليها مليا وقال مدمدما: -وداعا. لم يتحرك. لبث لا يتحرك قط، وبدت عيناه في وجهه الجامد المتوتر أكثر جمودا وتوترا، وما برحتا مصوّبتين إلى عيني ابنة أخي الواسعتين الشاحبتين جدا، واستمر الوضع على تلك الحال- كم استمر تُرى؟- استمرّ حتى حركت ابنة أخي شفتيها، فلمعت عينا “ورنر” وسمعتُها تقول: -وداعا. كان عليّ أن أترقب هذه الكلمة لأتمكن من سماعها ولكني سمعتها أخيرا. وسمعها “فون إبريناك” أيضا، فانتصب، وقد لان محيّاه وجسمه كله كأنما هو خارج من حمام مريح- ص 95). لقد ابتسم الضابط الألماني الآن ولأول مرة الآن كما يقول الجد لأن الفتاة تكرمت عليه بكلمة واحدة بعد ستة أشهر من الصمت المطبق المطلق . وحتى هذه الكلمة (وداعا) لم يدرك الألماني سياقها. إنها الذروة التي تؤشر ظفر المقاومين الصامتين الأعزلين على الضابط المسلح المتجبر. هي وداع الخلاص والتخفّف من الطغيان والعودة الهادئة و”الصامتة” إلى الذات المتسيدة على شؤونها وعلى “بيتها”. ولم يضع المؤلف اسما للجد وابنة أخيه ليجعلهما رمزا عاما لكل الشعب الفرنسي المقاوم في حين خص الضابط الغاصب باسم ليخصصه كمحتل محدد ومشخصن . ومع النهاية يأتي الدرس الثر المضاف والمركزي، فما هي إلا وقفة صمت، صمت عزوم لا يهادن تحت أي ذريعة مهما كانت “فنّية” .. وقفة صمت حتى لو استمرت ستة أشهر منها مئة ليلة شتائية مضنية بالحضور المرهق لمحتل يحتل الغرفة العلوية من البيت.. وصحيح أنه صمت مكلف لكن الحياة ستعود بعده وبفضل تكلفته هذه إلى إيقاعها الأليف والمألوف وكأن شيئا لم يحصل، وكأن الإرباك الذي وقع لم يقم به الضابط الألماني أو أن شبحه هو الذي مر سريعا: (وفي الغداة، عندما نزلت لتناول فنجان الحليب الصباحي كان الضابط قد انصرف، وكانت ابنة أخي قد أعدّت الفطور على مألوف عادتها كلّ يوم، فقدّمته لي في صمت وشربنا في صمت. وفي الخارج، لمعت شمسٌ شاحبة من خلال الضباب، فبدا لي أن الطقس قارس- ص 95).
ملاحظة ختامية مهمة:                                                                             خلال كتابتي هذه المقالة، تذكرت أني أحتفظ بمقالة عنوانها “خيانة الكتاب الفرنسيين إبان الإحتلال الألماني” للكاتب الفرنسي “بيير آسولين”، وترجمها الصديق “كامل عويد العامري”، فراجعتها ووجدت المعلومة التالية: ( اشترك كل من بيير دو ليسكور وجان بروليه على ان يؤسسا دار نشر “منتصف الليل” أي دار “مينوي” التي لها  الفخر أن جعلت من الرسـام الغرافيكي “بروليـه” كاتبا حينما نشر تحت اسم مستعار هو “فيركور” قصة طويلة تحت عنوان ” صمت البحر ” الكتاب الذي صار يرمز للمقاومة ) .

هوامش:
————
(1)صمت البحر – رواية – فيركور – ترجمة عبد الله نعمان – دار المنشورات العربية – بلا مكان وبلا تاريخ .
(2)بابل الشعر – أحمد عبد المعطي حجازي- كتاب مجلة دبي الثقافية (44) – يناير – 2011 .
(3)المصدر السابق نفسه .

ملحق رقم (3):
       المسيح يصلب من جديد في (أبو غريب )
———————————————
اختار المواد وأعدها : يوسف الجهماني .
الناشر : دار حوران – دمشق
إن من مصلحة شعوب الأرض كلّها كشف الجوانب المدمّرة التي أصابت الشعب العراقي وترتبت على الغزو والاحتلال الأمريكي المنافي لكل الشرائع والأعراف والقوانين الدولية والذي ،ابتداء، رعته دولتان كلبيتان ذواتا تاريخ دموي استعماري شنيع هما الولايات المتحدة وبريطانيا ، قررتاه مجتمعتين بلصوصية وعزلة مفضوحة عن المجتمع الدولي، مانحتين الأمم المتحدة على لسان بوش الكحولي المتأتيء 24 ساعة لكي تحزم أمرها . وأرى أن التذكير بفضيحة تعذيب السجناء العراقيين في معتقل أبي غريب ، هذه الفضيحة التي خفّ إوارها وصارت شبه غائبة عن الضمير الإنساني هو واجب على كل إنسان وفي أي مكان ستمتد إليه المخالب الوحشية للنظام الأمريكي العالمي الجديد .وهذا الكتاب (المسيح يصلب من جديد في أبو غريب)-202صفحة- يقع في صلب هذا الواجب الإنساني الحاسم . ومن بين أهم ما تتناوله المقالات الست والثلاثون التي اختارها وأعدها( يوسف الجهماني) هو أكذوبة أن هذا الفعل البشع تم على أيدي مجموعة من الجنود الشذاذ المنحرفين أو (التفاحات الفاسدة) التي لا تخلو منها أي سلة حسب الوصف الأمريكي . لقد أثبتت هذه المقالات ومن خلال الأدلة الموثقة أن ممارسات الإذلال الجنسي والجسدي والنفسي وعمليات التعذيب وتصويرها وتسريبها إلى أجهزة الإعلام ، كلها كانت عمليات مخططة ومدروسة. ترى من هو الجندي هاوي التصوير الذي سرب كاميرا رقمية في جيبه واستطاع تصوير(1800) صورة وعشرات الأقراص المدمجة وأشرطة الفيديو لعمليات التعذيب والاغتصاب والممارسات الشاذة ؟(هذا جهد دول ومؤسسات أولها دولة لها مصلحة مسبقة ثأرية مستعدة إلى التحالف مع الشيطان من أجل تدمير العراق)، ثم ما هذا الاطمئنان الفظيع الذي جعل هؤلاء الجلادين يمارسون مثل هذه الأفعال الدنيئة واللاقانونية بهدوء أعصاب ومتعة شديدة ومن دون أدنى درجة من القلق أو التحسب من رقابة أو محاسبة ؟. مقالة في غاية الأهمية تعرض التاريخ الشخصي للعسكريين المتهمين الأساسيين (ليندي إنغلاند، فريدريك ، تشارلز غرانر وغيرهم ) تكشف بوضوح أكذوبة أخرى تتعلق بشذوذ هؤلاء وانحراف سلوكهم فهم أشخاص طبيعيون مثلنا والفارق هو أنهم كجنود كانوا ينفذون أوامر عليا من جهات قيادية أعلى . يكشف الكتاب حقارة الاستجابة الذرائعية للمسؤولين الامريكيين. هذا رامسفيلد يقول أولا أنه لم يكن لديه وقت لقراءة تقرير البنتاغون الطويل عن أبي غريب (ترى ما هو التقرير الأكثر طولا وأهمية الذي كان منشغلا به ؟ )، بعدها وحين اطلع على الصور البشعة قال : إن الأمر هو في مستوى الإيذاء وليس التعذيب . وحين انتشرت الفضيحة أمام أنظار العالم قال: إن أي شخص يرى الصور يقدم في الواقع اعتذاراته . أي شخص ؟ من يعني بأي شخص ؟ فهو لم يقدم الاعتذارات الملائمة أمام الكونغرس إلّا حين أصبح منصبه على المحك. فتكبد أخيرا عناء رؤية الصور . الشيء نفسه يقال عن تبريرات الرئيس الأمريكي – وهو معذور بسبب إدمانه وراجع صورته بجرح جبهته بعد سقوطه مخمورا ، والأفضل راجع كتابنا التحليل النفسي لشخصية الرئيس بوش الإبن –  السخيفة الذي خط لنا شريعة غريبة مفادها أنه إذا كان خصمك يقتل الناس سابقا فمن الممكن أن تقتل أنت أناسا لكن أقل عددا !!.
كان بوش يقول إنه بفضل عملنا العسكري أغلقت غرف التعذيب في العراق ، فجاءت الفضيحة في أبي غريب لتثبت سادية المحتل الأمريكي وأكذوبة الوعود الديمقراطية . يقول (جوي كلين) مراسل مجلة التايم البريطانية واصفا ردود فعل بوش على الجريمة (إن العمل الأكثر تجريدا من التوبة والندم – إعتذار لأجل الوحشية البالغة – يصبح أزمة رئاسية . قال بوش عن الذين عذبوا الأسرى العراقيين (إن هذا لا يمثل أمريكا التي أعرف) (وأميركا التي ينكر معرفتها لاشعوريا هي اقذر وأحقر دولة من التي عرفها بشعوره ) . كما أن جنود الولايات المتحدة قد استثنوا من إغراءات السلطة المطلقة التي تصيب الجيوش المحتلة منذ الأزل .عندما كانت الولايات المتحدة تعاني من عار أبي غريب سافرت إلى تركيا والأردن حيث الحلفاء المسلمين الأكثر ولاء وإخلاصا لأمريكا في المنطقة ، فوجدت الأغلبية يرون حديث بوش الأخلاقي إما منافقا وازدواجيا وإما أحمقا ). إن تعامل الإدارة الأمريكية مع هذه الفضيحة الرهيبة واقتصارها حتى الآن على معاقبة فردين أو ثلاثة من الجنود بعد جلسات تمثيلية تسويفية ومناقشات محسوبة لمخادعة الرأي العام يوضح البنية العدوانية التي تحكم السيكولوجية الأمريكية . من وجهة نظري سيأتي وقت تتكشف فيه أسرار هذه الفضيحة وتعلن فيه حتى الجهات ذات المصلحة في الثأر من الكرامة العراقية والأموال التي دفعتها إلى مسؤولين أمريكيين متنفذين لحياكة خيوط هذه المؤامرة على الشخصية العراقية كمدخل لتحطيم الإرادة العربية والإسلامية . في المقدمة نقرأ حادثة مقتبسة عن الأديب (ميخائيل نعيمة) يقول فيها أن الثيران تنادت يوما للنظر في شأنها مع الإنسان وفي السبيل إلى التحرر من نيره . وكان بين الجمع واحد يتوقد حماسة وشعرا . وهذا بهر الكل بحماسته وشعره وأقنعهم بأن الحرية تؤخذ ولا تعطى . وأن بابها مخضب بالدماء لا يقرع إلّا بقرون مخضبة بالدماء . وأن لا سبيل لها إلّا باغتصابها في بيتها. فاتخذوه قائدا لهم ودليلا ومشوا وراءه صارخين : إلى الحرية ، إلى الحرية . ومازال بهم حتى بلغ بيتا وبابه مضرجة . فقال لهم هذا بيتها وهذا بابه ، فاقتحموا الباب ولا ترتدوا عنه وإن تكسرت قرونكم وسالت دماؤكم أنهارا . فما كان من الثيران إلّا أن امتثلوا لأمر زعيمهم فتكسرت قرونهم وسالت دماؤهم . ولكنهم في النهاية حطموا الباب ودخلوا البيت فإذا بهم في المسلخ !!. هذه الحادثة لا تلخص فقط الكارثة التي أنزلتها الولايات المتحدة بالشعب العراقي حسب بل هي ترسم ملامح واضحة لما سيفعله الثور الأمريكي المنفلت بشعوب العالم وهو يغويها بشعارات الحرية والديمقراطية الكاذبة . وعلى طريق إفشال هذا المخطط الشيطاني علينا أن نذكّر العالم بفاجعات الخطوة الأولى والاوسع في هذا المشروع والتي تمثلت في احتلال أرض العراق ، والتي تجلت “عطاياها” الحقيرة ، في فاجعة تعذيب واغتصاب الأسرى العراقيين والعراقيات في معسكر أسر ابي غريب .

الملحق رقم (4) :
كتاب خيانة القسم الطبي: وثيقة تاريخية ووصمة عار  
—————————————————-
( سلّم اللواء عبيد حامد مهاوش نفسه طوعيا إلى السلطات العسكرية الأمريكية ؛ إلا أنه توفي بعد ستة عشر يوما نتيجة التعذيب ، في السادس والعشرين من تشرين الثاني 2003 . الرقيب برنارد بري القائد المسؤول عن الطاقم الطبي في سجن أبي غريب والطبيبة آن روسينغول شهدا بأنه عند قبول اللواء مهاوش أجريت له مقابلة طبية سريعة وغير مسجلة في الوثائق من قبل مختص طبي . شهادة المحكمة تقول إنه قد تعرض بشكل متكرر للضرب بالقبضات ، والخراطيم والعصي وأعقاب البنادق وتحت إشراف وكالة الاستخبارات الأمريكية والقوات الخاصة والجيش . كُسرت ستة أضلاع فيه . بعد ذلك وُضع مهاوش ورأسه للأسفل في كيس نوم ولُف بسلك كهربائي يبلغ طوله ستة أمتار . جثم جندي فوق صدر مهاوش ووضع يديه على رأس مهاوش ومن ثم نهض . بعد عدة دقائق ، وجد مهاوش ميتا . استدعي الرقيب بيري إلى غرفة الاستجواب وشارك لفترة قصيرة بقية الطاقم في محاولة الإنعاش . شهدت الطبيبة روسينغول بأنها هي والأطباء قاموا بإنعاش الضحية لما يقارب الساعة . ضابط الصف المسؤول عن التحقيق أخبر الطبيبة بأن مهاوش كان يُستجوب ، فقد السيطرة على بوله وانهار عند محاكمته أمام الجنود ، لم تُسأل   الطبيبة هل رأت الكدمات المنتشرة على ذراعيه وساقيه ورأسه ورقبته وحوضه والمنطقة الأمامية والخلفية من جذعه ، أو الاحمرار الوجهي المشير إلى الاختناق ، والتي كانت جميعها واضحة بسهولة أمام المحققين الموجودين في موقع الحدث ، ولطبيب التشريح المرضي الشرعي ، الدكتور مايكل سمث ، الذي قام بفحص الجثة . رأي الدكتورة روسينغول هو : (قال مهاوش بأنه لا يشعر بأنه على ما يرام وبعد ذلك فقد وعيه . لاحظ الجنود الذين يحققون معه غياب النبض ، ثم قاموا بتطبيق الإنعاش واستدعوا السلطات الطبية . حسب رأي جراح في موقع الحدث ، يبدو أن مهاوش توفي لأسباب طبيعية ) . بعد أسبوع من وفاته ، وجد تشريح الجثة كدمات واسعة الانتشار وتوصل الأطباء إلى أن مهاوش قد توفي نتيجة اختناق بسبب الغطاء والانضغاط الصدري . أوقف مكتب الفحص الطبي للقوات المسلحة شهادة الوفاة حتى آيار 2004 وتم إعلان نتائج التشريح في نيسان 2005 !! . هذا التسلسل الذي يتضمن إعلان البنتاغون الكاذب ” بالموت لأسباب طبيعية ” والإذعان الصامت من قبل مكتب الفحص الطبي للقوات المسلحة ، وتأخير تحرير شهادات الوفاة يظهر بأن جريمة القتل ربما هي مستمرة لتشمل حالات أخرى ) . على هذا المنوال الوثائقي والعملي التفصيلي يكشف الدكتور ” ستيفن هـ . مايلز ” في كتابه : ” خيانة القسم : التعذيب والتواطؤ الطبي والحرب على الإرهاب ” والذي ترجمته ” فايزة المنجد ” وأصدرته الدار العربية للعلوم – ناشرون ، حقائق دامغة تكشف كذب الإدارة الأمريكية بأكملها من رئيسها بوش ونائبه ووزير دفاعه رامسفيلد والبنتاغون والكونغرس ووزارة الدفاع … إلخ حول ما أعلنوه من أن التعذيب الوحشي في أبي غريب ارتكبته بعض التفاحات الفاسدة التي لا تخلو منها أية سلة . يثبت الدكتور مايلز أن أوامر التعذيب جاءت من بوش ورامسفيلد وقادة القوات الأمريكية في العراق مثل ريكاردو سانشيز ( الذي يقول : لماذا نعتقل هؤلاء الأشخاص ؟ يجب علينا قتلهم ) وكذلك الآتي من غوانتنامو ليصوغ أبو غريب على منوال الأول ” جيفري ميللر ” الذي قال للجنرال كاربنسكي حين وصوله : ( يتوجب عليك معاملة هؤلاء المعتقلين كالكلاب ! ) . حتى وزير الدفاع السابق ” شليسنجر ” يكلف بالتحقيق في فاجعة أبي غريب فيكتب تقريرا كاذبا ومضللا بلا حياء . حتى البنتاغون يكتب (95) عضوا منه رسالة تأييد للمقدم ويست الذي عذب السجين العراقي يحيى حمودي رغم ثبوت جريمته وتسريحه من الخدمة ويقيمون دعوات العشاء له !! . مؤسسة وحشية وفاسدة يحاول ، وللأسف بعض الكتاب العراقيين تلميع صورتها والإدعاء بأن الجيش الأمريكي لا يُعذّب . صور وأسماء ووثائق وشهادات وفاة ووقائع تثبت ليس وحشية العسكريين الأمريكيين في تعذيب المعتقلين حسب ، ولكن خيانة أفراد الطاقم الطبي الأمريكي لشرف قسمهم الطبي أيضا . يقول الكاتب : ( لقد تعاون الإخصائيون الطبيون الأمريكيون مع جميع مراحل الاستجواب الإجباري في العراق وغوانتنامو وأفغانستان . قدم البعض منهم معلومات من السجلات الطبية والمقابلات السريرية ، والفحوصات الطبية للمحققين لاستخدامها في وضع خطط للاستجواب . عمل بعضهم مع أو ضمن الفرق الاستشارية لعلماء السلوك والتي توصي بتحطيم السجناء . راقب بعض الأطباء التحقيقات للسيطرة على التقنيات ذات الخطر الكبير على الصحة ). يفنّد الكاتب حجج دعاة التعذيب و “نزع القفازات ” القائلة بحماية الولايات المتحدة من الإرهاب والحصول على المعلومات ..إلخ فيثبت بالوقائع أن التعذيب يسيء إلى جمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها ويعطي نتائج عكسية استراتيجيا ويضر المجتمع الذي يستعمله . ولمن يقولون أن التعذيب جاء ردا على الإرهاب وقطع الرؤوس يؤكد معلومة خطيرة يقول فيها : ( كتب العديد من الأشخاص بأن عمليات قطع الرأس تفسر أو تبرر الوحشية في أبو غريب . نشر التلفاز صور أبو غريب في التاسع والعشرين من نيسان 2004 . حصل أول حادث من حوادث قطع الرأس الأحد عشر في العراق بعد إثني عشر يوما ) . إن أسماء المعتقلين العراقيين الذي ثبت أنهم قتلوا تحت التعذيب وشهادات وفاتهم المفبركة المذكورة في الكتاب ستفيد عائلاتهم المنكوبة في المطالبة بالتحقيق وبحقوقها القانونية التي تكفلها معاهدات جنيف مهما طال الأمد . وللمنافحين من الكتاب العراقيين عن ديمقراطية الجيش الأمريكي ” المحرر ” نقول أن هذا الرجل الذي وضع كتابه رغم معرفته بأنه يعرض حياته للخطر كما يقول ومن خلال التهديدات التي وصلته ، يعلن بلا تردّد : ( لقد أظهرت صور أبو غريب أن الولايات المتحدة قد أصيبت بالعدوى . انكفأ الأمريكيون على أنفسهم بإنكارات جديدة . لابد أن يكون التعذيب الذي يقوم به الجنود الأمريكيون نوعا مختلفا من التعذيب : التعذيب الخفيف . لابد أن ذلك كان حدثا معزولا ، أو من عمل بعض التفاحات الفاسدة أو انهيارا للقيادات المحلية . لابد أنه كان استجابة على الاستفزاز ؛ لقد تغير العالم بعد 11/9 . السجناء هم الارهابيون بالتعريف ؛ لقد استحقوا ما لقوا . كل هذه الانكارات غير حقيقية . الولايات المتحدة مجتمع تعذيبي ) . ومن المهم الإشارة إلى أن الصحفي المعروف ” سيمور هيرش ” صاحب كتاب ” القيادة الامريكية العمياء ” قد أثنى على هذا الكتاب بقوله : ( هذا الكتاب ببساطة هو التحقيق الأكثر إزعاجا وتفصيلا في السؤال الذي بقي ممنوعا في النقاش الجاري حول التعذيب الأمريكي في حرب جورج بوش على الارهاب : دور الأطباء العسكريين والممرضات وغيرهم من الطاقم الطبي . يكتب الدكتور مايلز بغضب عارم وتبرير رائع – ولكنه يترك الحقائق لتروي القصة ) .

المحتـــــــــــــوى
الموضوع                                                                                رقم الصفحة
—————————————————————————————# الإهـــــــداء
# تمهيد: تساؤلات ساذجة عن الولاء
# عند العتبة
# وقفة
# عودة
# وقفة
# وهناك تساؤلات عابرة
# عودة
# وقفة
# إنسرابات لاإرادية
# على حافة “بعد فوات الأوان”
# حلم افتتاحي
# العرس الأميركي الوحشي لنهب العراق
# سمة “الخفّة”
# الفاجعة مجموعة أفلام هوليودية
# لعبة المؤلفة القرين
# الجدّة
# وقفة مع الشتات العراقي
# عودة
# وقفة
# عودة
# وقفة
# عودة
# جيل رائع لكن ضائع
# محنة أبيها “صباح شمعون بهنام”
# الجدّ
# الآن “صارت زينة تكريتية”
# نصائح زينة
# وقفة على فاجعة “عبير قاسم حمزة”
# عودة : مسيرة الرشا الزائفة تتراكم
# ما هي مصلحة الكاتبة في لي عنق الحقائق
# وقفة نظرية أولى
# عقدة المال
# أخيرا وصلت زينة المنطقة الخضراء/ الفردوس الموعود
# وقفة على “إنسانية” العسكريين الأميركان المزعومة
# عودة
# وقفة
# وقفة خطيرة: متى بدأت عمليات قطع رؤوس الأميركان في العراق؟
# عودة
# تلويث الجدّة
# تلويث مهيمن
# لا صراع هويّات ، أميركية مع سبق الإصرار والترصّد
# الفلسفة الذرائعية لا تتقبّل العميل المُستعمل
# وقفة على أطروحة المواطن العالمي
# لعبة الشجن
# تسطيح معاناة حتى الأمهات الأميركيات المثكولات
# وقفة نظرية ثانية
# عملية الرشوة الكبرى، أسطورة “الشريط الأصفر”
# تزييف فاجعة أبي غريب
# زينة نفسها مشروع جلّاد في أبي غريب
# وقفة على إهانة الكلب من منظور فلسفي مادي حلولي
# أكذوبة بناء الأميركان للعراق الذي دمّروه
# المشهد الأم .. المشهد الدرس
# في الختام : تحية لإنعام كجه جي
# ملاحق :
ملحق رقم (1) : العرس الأميركي الوحشي
ملحق رقم (2): “صمت البحر” .. قراءات خاطئة .. وإسقاطات مربكة
ملحق رقم (3) : المسيح يصلب من جديد في (أبو غريب )
الملحق رقم (4) : كتاب خيانة القسم الطبي: وثيقة تاريخية ووصمة عار

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *