| عزيز السالمي : الدال وتشكيل المعنى في ديوان “مكعبات كذب” للشاعرة سعاد بازي المرابط .

أصبح الشعر النسائي الحديث والمعاصر في المغرب بساطا متداخل الخيوط، تتشابك فيه التيارات والمدارس والحساسيات التعبيرية المختلفة، وأضحى يزين الأمكنة والجدران، لكنه من جهة أخرى لم يجد العناية والرعاية الكافيتين من النقد لتوليه حقه من التنسيق والترتيب.
لقد مر قطار القصيدة النسائية الحديثة من محطات ظهرت فيها أسماء شعرية بارزة كمليكة العاصمي، ووفاء العمراني، وأمينة المريني، وثريا السقاط… ومع بزوغ فجر الألفية الجديدة بدأ المشهد الشعري يتأثث بشواعر فاح من قصائدهن أريج الإبداع وعبق الأنا الأنثوية الثائرة أمثال ثريا مجدولين وحسنة عدي وفاطمة الزهراء بنيس وعلية الإدريسي أبو زيد وعائشة البصري… والشاعرة سعاد بازي المرابط التي سنقف عند ديوانها “مكعبات كذب” لنسائله عن الدوال التي شكلت منها الشاعرة معانيها الشعرية الإبداعية.
تقوم التجربة الشعرية للشاعرة المغربية سعاد بازي المرابط من خلال ديوانها “مكعبات كذب” على معنى الرفض الذي نثرت كلماته على امتداد تسع وعشرين قصيدة جاعلة فضاء هذا الديوان مساحات للبوح الذاتي المشحون بنبرة الاحتجاج والتمرد.
وتظهر مؤشرات هذا الرفض مع أول قصيدة “سأعود إلى الأحلام” حيث تختار الشاعرة العودة إلى العالم الذي أتت منه عالم الأحلام احتجاجا على واقع تغيب فيه الثقة إلى درجة جعلت أصابع الشاعرة تنزف، فدال الحلم رفض لواقع يكدر صفوه البهتان والحزن والخسارات عكس عالم الحلم الجميل الصافي.

سأعود إلى الأحلام
من حيث أتيت
سأجمعها من حبال الليل
قبل أن تدللها دلاء البهتان
أضع ضمادا لأصابعي
نزفت عندما تسننت حواف الثقة

لكن سرعان ما تنهض الشاعرة من الأحلام ، وتقبل على الحياة لتواجه الواقع رغم ما يكتنفه من مرارة وألم متخذة الغناء وسيلة للتعالي عليه ورفضه.

حنجرتي عندما نشب الحزن
أضافره ليدمي مخارج حروفها
تغني ولو في مرقص بئيس

وهكذا يغدو الغناء عند الشاعرة رفضا للحزن والبؤس والألم والصمت. إنه غناء يطالب بحقه في الكلام الذي تريد الهيمنة الذكورية أن تحرم منه الشاعرة.
وعندما يجتاح العصيان الشاعرة تثور في وجه الواقع الأسود، الواقع المليء بالكذب والحزن والسفالة مكسرة أصنامه التي تعامل المرأة بجمود.

يجتاحني العصيان
الصامت
الصاخب

ولا تكتفي الشاعرة، بل تواصل الرفض بانطلاقها نحو إثبات ذاتها كأنثى شاعرة وحرة.

هذه كلماتي
ترقص سبعا
كعرائس الماريونيت
تحررت ممن يحرك خيوطها
قامت أطرافها بمظاهرات سلمية
لتستعيد اللياقة
هذه كلماتي
تنزل غير آسفة
من هودج الوصاية

فالدوال “تحررت ممن يحرك خيوطها، تنزل غير آسفة من هودج الوصاية” تؤشر على التحرر على الرفض، رفض العبودية، ورفض الوصاية. بالإضافة إلى ذلك فإنها لا تقدم لنا كلماتها بقدر ما تقدم لنا نفسها كأنثى لها كينونة، وعلى الرجل أن يدرك حقيقتها لأن الكلمات من سمات الأنوثة.
ورغم قتامة هذا الواقع ومرارته، وفي لحظات الضعف الإنساني وشح الفرح حين يسدل الحزن جناحيه على الشاعرة ويلفها الاكتئاب تتمسك بالأمل خيط نور يطل من وراء الضباب.

عند شح الفرح
أكمش وريقات الأمل
أدسها في الجيوب الفارغة

وهكذا تقدم الشاعرة صورة أخرى من صور الرفض من خلال دال الأمل الذي يؤشر على رفض اليأس، والاكتئاب، والفراغ.
وأمام هذا الواقع السوداوي المملوء مرارة وكذبا وبهتانا وألما وحزنا الذي ترفضه الشاعرة وتصر على التمرد عليه وعصيانه، فهي لم تسلك في رفضها مسلك الدم والعنف، بل فضلت بوداعة أنثى ورقة فراشة مسلكا غانديا مستحضرة رمز مدينتها “الحمامة البيضاء” رمزا للسلام والمحبة.

سأواصل نثر زهر الليمون
لا قصاص
لا حداد
لا مقارنة

وتتجلى صور الرفض من خلال هذه الدوال “سأواصل نثر زهر الليمون، لا قصاص، لا حداد” التي تؤشر على رفض الكراهية ورفض الانتقام، ورفض الحزن.
وفي خضم هذا الواقع البارد تتدثر الشاعرة بمعطف الحب، وتعلن عن ذاتها الأنثوية الرافضة لكل الحدود.
لم يصبح لا العدو خلفي
ولا البحر أمامي
الحب جهاتي الأربعة
وبهذا يصبح الحب سلاحا للرفض عند الشاعرة، بل تصر على المبالغة فيه.

أسلك طريق المعبد
أكسر صنمية المكان

فدال العصيان هو رفض للجمود والثبات، ورفض للصنمية التي تأبى التغيير. وتتقوى قبضة العصيان عند الشاعرة كلما اجتاحها التمرد على الوضع السائد الذي يريد الحفاظ على التسلط الذكوري ويكرس النظرة الدونية للمرأة.

كلما اجتاحني
جيش العصياني على السائد
يتدلى حبل الخلاص
ويشتد وطيس الكتابة
لأنزف حبرا على ورق
قبل أن تلتهمني الكآبة
لقيمات
كخبزنا اليومي

وبهذا يؤشر دال العصيان على الرفص، رفض السائد، وتصبح الكتابة وسيلته. فالكتابة رفض للاستكانة والكآبة، وهكذا تغدو الكتابة فعل احتجاج على هذا الواقع وفعل خلاص منه.
ويزداد جمر الرفض اشتعالا واتقادا عند الشاعرة فتصر على المقاومة وعدم الاستسلام.

حتى لو أحدثت السقطة دويا
لن أعترف للمنحدر
سأخبره أني
أختصر الطريق إلى النهر

فرغم السقوط المدوي تصر الشاعرة على النهوض، فالدوال “لن أعترف للمنحدر” رفض للهزيمة، رفض للسقوط وإصرار على الشموخ ومتابعة الطريق رغم الضربات والسقطات إلى النهر، إلى الماء رمز الحياة.
وتواصل الشاعرة العزف على قيثارة الرفض، فتقدم لنا بطاقة تعريفها كأنا أنثوية مجنونة، تقفز خارج السياج الذي وضعته الهيمنة الذكورية حول المرأة، وجعلتها أسيرة فيه.

مجنونة
لا أحن إلى العقل
أنا وحصاني نقفز
نخرج من ثغرة مفترضة
في سياج شائك

إنها ذات أنثوية ثائرة، وفارسة مجنونة. فالدوال “أنا وحصاني نقفز، نخرج من ثغرة مفترضة في سياج شائك”، هي رفض البقاء داخل سياج الهيمنة الذكورية، داخل سياج الكذب والحزن والبهتان والخيانة، وإلحاح الفارسة والحصان على الانطلاق خارج هذا السياج.

ما ضيرها إن بلغت في الحب
لا يعيب البحر
إن بالغ في الحب

إن قلب الشاعرة يكتنز بالحب، ويرفض أن يتربع الحزن على عرشه، فتوثر نبضاته الجنون لترفع شعار لا للحزن.

لعلها هذا القلب المكتنز حبا
رفض أن يكون الحزن
هو السيد

وكما استهلت الشاعرة ديوانها بالرفض، فإنها أغلقت بابه بالرفض أيضا، الذي يؤشر عليه دال الوفاء الذي هو رفض للخيانة التي تشوه وجه الحب، الخيانة التي تجعل الحب يعاني الخسران.

لا يفلح الحب حيث أتى
إن كان ذا مأرب
إن كان جسرا
أو عهرا
إن لم يناهز معدل الوفاء
كل الوفاء

من خلال القصائد السابقة يتبين لنا أن معاني الرفض تخيم على أجواء هذا الديوان الذي تشكلت دلالاته عبر مجموعة من الدوال اختارتها الشاعرة بدقة لتعبر عن احتجاجها وعدم قبولها بهذا الواقع المترع بالقيم السلبية والمعاناة، واقع الهيمنة الذكورية التي تقزم المرأة وتجردها من إنسانيتها من خلال نظرة ضيقة لا تعترف بها كذات مختلفة عنها لا مخالفة لها، ولا تعترف بإمكاناتها وقدراتها العقلية والإبداعية. وبهذا تكون قد انتصرت لروح الحداثة التي تبنتها في تشكيل قصائد هذا الديوان بإعادة تشكيل هذا الواقع من جديد، وتبني رؤية مغايرة للعالم. لأن الرؤية الحداثية “تنبني أساسا على رفض العالم، وإعادة النظر فيه جذريا، وخلق عالم مغاير وجديد، عالم البحث والتساؤل”.

 

بقلم: عزيز السالمي
طالب باحث من المغرب
المتن المعتمد:
سعاد المرابط: ديوان ” مكعبات كذب” مطابع الرباط نت، ط 1، الرباط، 2021
سعيد العفاسي: التفكير بالعين، دار الوكن للصحافة والطباعة والنسر، ط، ص: 17. 2017563

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *