إنّ مسألة الوهم من أهمّ المسائل التي تشغل المفكّرين والكتاب والشعراء.
أهمّ من كتب عن هذه المسألة المفكّر الفرنسي جان بودريار الذي يؤكّد أنّه لا وجود إلّا لحقيقة واحدة هي الوهم، لأنّه حلّ محلّ الواقع. فالدول الإمبريالية خلقت عالمًا” وهميًّا” من خلال الميديا لإلغاء الواقع، خلق واقعًا جديدًا، وفرضه على كلّ العالم حتى ديزني لاند بالنسبة له وجدت إيحاء للعالم بأنّ أمريكا حقيقة وليست وهمًا.
الواقع الأليم في لبنان دفع الكثيرين من أصحاب القلم إلى خلق واقع أقلّ قسوة لوطنهم لبنان، ففي ديوان “أنا بيروت” تغمس الشاعرة ميشلين مبارك ريشتها بالوهم، فترسم وطنها لتخلّصه من واقعه الأليم. فوطنها الوهمي لا يُفرض على الناس كباقي الأوطان، وله ملامح شعب مختلف عن الشعب اللبناني المتشرذم الذي يتقاتل باسم الدين والأحزاب بينما وطن مبارك له ملامح أخرى. تقول: “نحن نتقاسمُ جسورَ الماءِ والهواءِ…أسكنُكَ و تسكنني…”
وكأنّ وطنها لوحة سيريالية، ولكنها متماسكة الملامح، ولعلّ هذا يشير إلى التضامن بين شعبها الوهمي بعكس الواقع. الوهم يسمح للشاعرة أن تصبح “وطنًا” للبنان لعله يسكنها، ويلجأ إليها، فتراسله في “إلى وطني”:
جمعتُ كلّي
المشتّتَ فوقَ أشلاءِ القصيدةِ
لأقدّمَه لك…
وطني
سكنتْ بي رصاصةٌ
ضمّني نزيفٌ
أزهرتْ جراحي
حبًّا لا يموتُ
لكَ وطني.
بعكس الكثيرين من الشعراء الذين يفككون وطنهم قبل خلقه في قصائدهم. تبعثر مبارك نفسها ثمّ تجمعها لتقدّمها لوطنها، فهي تطبب لبنان بإزالة الرصاصة التي غرست في جسده، وتغرسها في روحها لتنزف، وتخلق وطنها بالحبّ الذي يشفيه من الكراهية التي تطوف على أرضه. حبّها الذي تقدّمه للوطن خالد مثله. في لوحة أخرى تبعثر الطبيعة، وتتّحد معها من أجل وطنها:
“أتوسلُ…أشيخُ وأصواتُ الأرضِ مبهمةٌ… وعندَ احتراقِ الفصولِ أعبرُ.”.
لا يستطيع القارىء هنا الفصل بين الشاعرة وأرضها الأمّ، واللافت أنّ الفصول في عالمها لا تمرّ بل تحترق وكأنّها تحاول باحتراقها إرباك تسلسل الزمن، كما أنّها في عالمها الوهمي تكلّم اللون، فتقول في قصيدة البنفسج:
“بحتُ للبنفسجِ بسرّي..فغرّدَ حبّي فوقَ أغصانِ العيون…أبى اللونُ أن يتركني…معهُ يلتئمُ جرحُ الغيابِ..وتنطلقُ الألوانُ.. تغنّي.. “.
لا تكلّم مبارك الطبيعة بل اللون الذي تسمع صوته يغنّي، فيشفي جراح الغياب.
كما أنّ الشاعرة ترى في وطنها يسوع الناصري الذي صلب من أجل البشرية، فتقول في “الأرض القيامة”:
الأرضُ صارتْ جنينا
الغبارُ تحولَ إلى خطايا بيضاءَ
ذرفتُ دمعي على الحجرِ
غرست أطفالي أمطارًا و صلوات
تدحرج الحجرُ
فنبتَ القمحُ
صارتِ الأرضُ قيامةً…
هذه اللوحة ترسم ملامح حياة المسيح في مرحلة القيامة، فالجنين في رحم الأرض يرمز إلى الطفل يسوع في بطن مريم العذرا، ولعلّها تلمح هنا أنّ وطنها أيضًا روحه عذراء، ولكن الكثيرين يحاولون تلطيخه بالخطايا. و الغبار، الخطايا البيضاء، يدل الى أن بعكس الانسان المغمس بالخطيئة، وطنها خطاياه بيضاء. مبارك تخلق شعبًا لوطنها له ملامح صلواتها، ولعلّها تلمح هنا أنّ شعبها مغمس بالمادّية التي تغرّبه عن نفسه ووطنه.
في هذه اللوحة تلعب مبارك عدّة أدوار، فهي تلعب دور مريم المجدلية التي تبكي على القبر قبل قيامة المسيح، ولكنّها تغيّر في أحداث الرواية، فيكون لها دور” أساسي” في قيامة وطنها كأنّها تفتّت الحجر بدموعها، فتنقذ وطنها من الموت لينبت قمح أي حياة.
لا تكتفي مبارك بخلق عالم وهمي لوطنها بل تضعه في إطار وهمي، وهو ملامح رواية. يؤكّد ميخائيل باختين أنّ الرواية هي النوع الأدبي الوحيد الذي يمزج كلّ الأنواع الأدبية، ولكن الشاعرة تكسر هذا التقليد، لتكتب أشعارها بملامح رواية. في هذا الكتاب تعدّد أصوات. ففي “رفقًا بي” تكتب بصوت رجل وتتكّلم في “إلى المرأة” بصوت امرأة، فتذكّر الرجل بأنّ العالم خلق من رحم امرأة. وتكتب في “تثاؤب” محادثة بين رجل و امرأة:
أتثاءبُ
نعستِ؟
نامي على صدري
و لا تهتمّي
كيفَ؟
الناسُ تراقبنا
…
أتثاءبُ
غفوت على صدرِ القصيدةِ
يشعر القارىء أمام هذه المحادثة بأنّه أمام مشهد في مسرحية ما، وهذا نوع أدبي آخر تستعمله مبارك في روايتها الشاعرية. وفي قصيدتها “المونولوج” تتكلّم مع ذاتها كأبطال شكسبير، فتقول:
“تعلّمت من الغيابِ أن أعيشَ مع ظلي …أن أتصالحَ مع نفسي”.
هذا المشهد يذكّرنا بهاملت الذي يحادث ويسأل نفسه عدّة مرات أمام الجمهور. ولعلّ ما يساعد مبارك في انتتقالها من نوع أدبي إلى آخر هو تمسّكها بالوهم. وقصيدة “طائرتي الورقية” تجسّد أوهامها إذ ترسل طائرتها الورقية إلى الغياب حتى تجلب والدها، وربما الطائرة الورقية ترمز إلى سيريالية القدر والوهم الذي يطوف على عالمنا.
لغتها المشبّعة بالرموزالوهمية تساعدها، ففي قصيدة “بي رغبةٌ في البكاءِ” تقول:
أبقي ظلالَ الحبِّ من بعيدٍ
من بعيدٍ أرى ثمارَه
في أرواحِ الراحلينَ
يمضي…
يمضي لتبدأَ الحكايةُ من جديدٍ
تزخم هذه الأبيات بالرموز غير المحسوسة: ظلال الحبّ و ثماره، وأرواح الراحلين. في نهاية قصيدته”ا تبدأ الحكاية من جديد” يدلّ على خصوبة نصّها الذي لا ينتهي كالروايات المعاصرة التي تتسم بالنهايات المفتوحة.
رسمت الشاعرة في “أنا بيروت” وطنها بريشة من الوهم والأنوثة والرجولة والطفولة. كلّ هذه الألون المتنوعة تدلّ على تفرّد إبداعها وغنى روحها التي تسمح لها بأن تتقمّص عدّة أصوات في عمل أدبي يصنف بديوان شعر ولكن له ملامح رواية ما بعد الحداثة التي تنتقل فجأة بين الأبطال، وتتصف بعدم تسلسل الأحداث.
الأهمّ من كلّ هذا أنّ هذا العمل الفنّي يجسّد خوف الشاعرة على وطنها المجهول المصير.
| ميرنا ريمون الشويري : ظلال وطن في “أنا بيروت” .
تعليقات الفيسبوك