الأدب بشكله العام ، هو إنتاج إنساني ، سواء كان أنثوياً أو ذكورياً ، فهو مع تعدد ما في سلته من تنوع فنون الإبداع الأدبي / شعراً / سردا ً / مسرحية / مقالة / نقداً / بحثاً / .. موحداً في المعنى الكلي لرسالته المرسلة من الإنسان الى الإنسان ، شأنه شأن باقي العلوم التي يتعامل معها العقل البشري بايجابية ، لتطويعها لخدمة بني جلدته من البشر .. ومثلما لا يحق لنا تقسيم علم الهندسة الى هندسة نسويه وأخرى رجولية ، أعتقد وبتواضع أنه لا يحق لنا أن نشطر مدينة الأدب السامية الى صوبين ، الكبير منها لأدم ، والصغير منها لحواء ، لأننا أن فعلنا ذلك نكون قد مارسنا سلطة القمع ، وسطونا على حرمة أرض إبداع نصفنا الآخر ، لنظللها بغمامة العتمة الذكورية الكامنة فينا ، فتهتز أرضنا كأدباء رجال وتربو على عكس أرضهن ، وبعدها قد نلجأ الى ترسيم الحدود التي ستكون نتيجتها مجحفة بحق الأديبات من النساء ، وهن على قلتهن يهمسن بصوت كالصراخ : لا تنسوا اننا هنا في حقل الأدب لا نمثل النَدَ لكم ، وإنما نحن / الرافد / الداعم / المكمل / لنهر الأدب العراقي المنبثق من ذرى أعالي قمم جبال الشمال ، ليسقي أخر حقل بردي في أهوار الجنوب .. وكم من رجل شاعر أو سارد تقمص دور المرأة ، وكم من امرأة شاعرة أو ساردة تقمصت دور الرجل ، وراح كل منهما يمثل دوره بحرفة عالية ، وهما يستخدمان أسلوب السرد الذاتي ، فقدم الرجل قاصاً المرأة بضمير المتكلم ، وقدمت المرأة قاصة الرجل بضمير المتكلم أيضاً ، والأمثلة التي تؤكد ذلك كثيرة ومتعددة ، تضيق بها مقالتنا المبتسرة هذه .. أسوق هذه المقدمة وأنا بصدد تقديم قراءتي المكانية / الحسية / والوهمية / لقصة ( المفتاح الذهبي ) للقاصة كليزار أنور ، التي قرأت لها قصصاً متناثرة هنا وهناك ، لكني لم أحظ بقراءة مجموعة قصصية لها ، رغم ظني أنها ربما أصدرت أكثر من واحدة .. وسبب اختياري لهذه القصة ذات العنوان اللامع ، هو أن كليزار أنور ربما حفرت اسمها على جذع نخلة إبداع القصص العراقي ، بعد فوز قصتها هذه بجائزة مسابقة إذاعة (BBC ) عام 2003 ، كما انها رسمت صورة سردية حداثوية للمكان ، منطلقة من دلالته الوضعية الى مشهديته المخيالية ، أي انها حاولت النفاذ من أطار المكان الحسي الى المكان الوهمي أو المتخيل ، عن طريق الانزياح التخيلي أو الحلمي .. هذا الانزياح من المكان المادي الى الميتا مكان ، يترجمه الناقد ياسين النصير بقوله : ( أن تكون ضمن مكان معين ، وفي الوقت نفسه خارجه ، وأنت فيه ) ــ حواريات زهير الجبوري مع ياسين النصير صدرت في دمشق عام 2008 عن دار نينوى تحت عنوان “المكانية في الفكر والفلسفة والنقد ” ــ وارى أن البنية اللاشعورية التي تمثل سداة الحياكة السردية لقصة ( المفتاح الذهبي ) تكونت لحمتها في وعي القاصة من خلال اختيار الأسلوب السردي الذي نسجت قصتها على نوله .. يقول الباحث المغربي شرف الدين ماجدولين : ( إن المبدع يمكنه أن يعثر في موضوعات الطفولة على منبع فني ثر ، إن هو تمكن من تحويل تلك الموضوعات الى سمات طفولية مشعة ، وتبعاً لهذا النمط من الفهم قد يجد القصاص في طفولته الشخصية ، أو في طفولة الآخرين المتخيلة أسلوبا تعبيرياً يسعف في تحبيك السرد ، وتجسيد جانب من القيم الإنسانية ) ـ شرف الدين ماجدولين ، الصورة السردية في الرواية والقصة والمسرح والسينما ، منشورات الاختلاف ، الجزائر 2010 ، والذي أراه قد جاء في قصة كليزار أنور ( المفتاح الذهبي ) على مستويين من الانزياح المكاني، الأول مفتاح الطفولة في المكان الحسي ، والثاني مفتاح النضج في المكان الوهمي .
أولاً- مفتاح الطفولة في المكان الحسي :
ترتبط صور الجدات بمخيلاتنا بالمكان الحسي ، المتمثل بـ / المنزل الأول / الحضن الدافئ / الموقد الشتائي / وبما يترع المخيلة بالحكايات، ومخيلات الطفولة صناديق مقفلة على زمان البراءة ، ولكل منا صندوقه ومفتاحه ، وهو وحده العارف بمكنون الصندوق ، والمكان الذي يخفي فيه مفتاحه ، وهو المكان الذي يتطلب الوصول إليه العودة من مرحلة النضج الى مرحلة الطفولة عن طريق استرجاع صور الطفولة .. وبرغم أن القاصة كليزار أنور لم تفتح لنا صندوق طفولتها ، إلا أنها مهدت له بصندوق جدتها القديم الذي استلمت مفتاحه وهي شابة يافعة .. كما أوحت لنا بالمكان الحسي من خلال الحوار التمهيدي المفتوح ، الذي جرى بينها وبين جدتها عند استلام المفتاح ، ولكي تهيئ أذهاننا ، تركت باب صندوق طفولتها موراباً ، كي تحثنا كقراء على الولوج المتخيل الى طفولتها ، ومشاركتها في حبك القصة عن طريق الإيحاء الذي مارسته علينا بمفتاح صندوق الجدة ، المعادل لصندوق المخيلة في مرحلة الطفولة ( لم أسعد بشىء مثل سعادتي بهدية جدتي التي أهدتني إياها يوم تخرجي . نادتني في غرفتها .. وأخرجت من صندوقها القديم ، المزخرف سلسلة ذهبية يتدلى منها مفتاح صغير .. كانت رائعة ، فنطقت مندهشة :
– الله ما أجملها !
– استعمليها .. كتعويذة.
– طلبت مني أن أستدير .. طوقت عنقي بها ، فركضت نحو المرآة .. وضعت يدي على المفتاح الذهبي لأتحسس جماله على صدري .. قلت ممازحة :
– هل بإمكانه أن يفتح شيئاً ؟!
– ربما ! فقد تحتاجينه يوما . )
الصورة الحوارية هذه صورة مثالية إيحائية.. إن جواب الجدة المحفز ، ترك لمخيلاتنا خيارات عدة نستطيع من خلالها التماهي مع مخيلة القاصة ، لتظهير الصور المتخيلة السالبة وتحويلها الى صور حسية موجبة تكون المبشرة بالصورة اللاحقة في القسم الثاني من زمن القصة وضمن المكان الحسي الموزع بين البيت والعمل .. حيث ماتت الجدة ، ومرت سنوات على تخرج الحفيدة التي مات أبوها أيضاً ، لتتزوج بعدها من رجل بادلته حباً بحب ، وكان المفتاح هو السبب .. وجدت مالكة المفتاح زميلها في العمل يحدق في صدرها.. فاستغربت ، لأنه من النوع الملتزم ، الذي لا يقدم على التصرف غير اللائق سواء معها أو مع زميلاتها فسألته :
– ماذا هناك ؟!
– المفتاح !
– أي مفتاح ؟
– منذ أول يوم رأيتك فيه ورأيت مفتاحك هذا وأنا لا أتمالك نفسي أمامك .
وتتساءل وهي في شك من قدرة المفتاح السحرية ( لا يمكن أن أتصور ولو للحظة بأن المفتاح هو السبب في ارتباطي ، فمن الطبيعي ، والطبيعي جداً ، ويحصل كثيراً ومع غيري أيضاً أن أعمل في مكان ما ، ويحبني زميلي ويقرر الارتباط بي .. وللزمالة ــ دوماً ــ الدور الكبير في جمع اثنين تحت سقف واحد ! ) نلاحظ هنا أن مكان الارتباط مكان حسي ، وهو بيت الزوجية ، أو ما يعبر عنه عادة بالقفص الذهبي ، ولعل القاصة استعارت عنوان القصة ( المفتاح الذهبي ) من هذا التعبير الشائع .. ومثلما كان للمرأة صندوقها الموصد على زمان طفولتها ومكانها الحسي ، كان لزوجها صندوقه الخاص الموصد على زمان طفولته ومكانه الحسي ، وكلا الصندوقين يفتحان بالمفتاح الموروث نفسه .. والصندوقان هما اللذان يتحكمان في صياغة شخصية واستقلالية كل من المرأة وزوجها ، وإن لم يظهرا في القصة ، أو يسفرا ، ولكنهما موجودان بما يوحي به سياقها العام ( جمعنا النصيب رغم اننا كنا طرفي نقيض .. غرب شرق ، شمال وجنوب ، موجب وسالب .. نختلف في أرائنا ومبادئنا وأفكارنا ، ونتفق في محبتنا واحترامنا ووفائنا لبعضنا . ) وقد عبرت القاصة عن انصهار الصندوقين أو الشخصيتين في صندوق واحد لأنهما أصبحا يشتركان بمفتاح واحد (لو نظرنا الى أي نهر سنجد أن الضفة اليمنى مختلفة عن الضفة اليسرى ، وبكل شيء .. هكذا كنا أنا وهو .. ضفتان مختلفتان ، لكن ، لنهر واحد ! )
ثانياً مفتاح النضج في المكان الوهمي :
إن السمات الجمالية في القصة القصيرة الناجحة ، تتميز في القدرة على توجيه زمن الحدث نحو النأي باللحظات الشعورية عن المكان الوضعي ، والتحليق بها بعد أن تكمل أدوار استحالتها في المخيلة نحو المكان الوهمي ، لتجريدها وتنقيتها من شوائب صور الواقع الاعتيادية ، التي تلتقط صور الأحداث العابرة بعدسة الاعتياد اليومي .. وضمن هذا المفهوم تعمل القاصة كليزار أنور على إدارة دفة زورق السرد في المقطع الثاني من قصة ( المفتاح الذهبي ) لتبحر بإحداث قصتها محمولة على أمواج المخيال نحو ضفة النضوج الممثلة بالمكان الوهمي ، مبتعدة عن ضفة الطفولة التي يمثلها مكان الحسي .. هكذا تبنى القصة على / الابتعاد / و/ الارتداد / ابتعاد مكاني تسترسل بطلة القصة من خلاله استكشافها المخيالي لأمكنة وهمية تتخلق في المخيلة وتغور في بئر الذات لتنز بالسعادة في جسد البطلة التي ترود أمكنة الوهم ، لتسقطها عن طريق الإبدال على أمكنة الواقع الحسية ( أرى من بعيد قصراً كبيراً ذا أسوار عالية .. أسير نحوه انه أشبه بقصور بغداد في ” ألف ليلة وليلة” . حين وصلت ، مشيت حول السور بحثاً عن البوابة .. وحين وصلتها وجدتها مغلقة . فتشت بنظري كل جوانبها ، ولم ألمح سوى باب صغير في الزاوية اليسرى ، وفي هذا الباب ثقب صغير . تذكرت كلام جدتي : “ربما تحتاجينه يوماً!” ) الذي ستحتاجه بطلة القصة الحفيدة لتفتح باب القصر، وتحري المكان الوهمي الذي استحضرته بـ ( الإبدال ) من ( الأصل ) ، المكان الحسي الذي شكل أرضية الحدث الأول في القصة ليس مفتاح الطفولة الساذج ، لقد تحول ذلك المفتاح الى مفتاح آخر ، بعد أن طاله التغير بالإيهام ، إنه الآن مفتاح النضج ، وبه ستفتح الباب وتتخطى العتبة لتشعر بمتعة الانتقال من صورة طفولة المرأة الى صورة نضوجها رغم بقاء السلسلة الحاملة للمفتاح على حالها ( فتحت سلسلتي من رقبتي وأخذت المفتاح ووضعته في ثقب الباب الصغير .. دخل .. أدرته يميناً .. وفتح .. دفعته ، فانفتحت البوابة الكبيرة .. ودخلت ) أن الأفعال المتوالية / فتحت / أخذت / وضعت / أدرت / دفعت / دخلت / كلها أفعال موحية تشي بإخفاء ما لا يمكن اظاهره .. فالصورة السردية أخذت كما يبدو منحى آخر في المقطع الثاني من القصة ، باستخدام القاصة الصور المكانية الإيهامية كبدائل للصور السردية الخاصة التي لا يمكن لبطلة القصة التصريح بها ، ولكنها تركت لنا من الإيحاء ما يكفي لجعلنا نفهم إحساسها كامرأة تتلفع بعباءة المخيال لإخفاء صورة الأنثى ورسالتها المتسربلة بغلالة السرد الموحي ، ولقد استخدمت القاصة المفتاح بالفتح الى جهة اليمين ، وذلك يخالف العمل المعتاد للمفتاح ، فالثابت أن الفتح يكون الى جهة اليسار والغلق يكون الى جهة اليمين .. وهي إذ تدخل القصر تستخدم الصور السردية الوصفيه الميتا مكانية الطويلة نوعا ما لوصفه / حدائقه / طيوره / دروبه / قبابه / سقوفه / ساحاته / نافورته / التي تصفها القاصة وصفاً جميلاً موحياً بالحنين الى زمن المكان الحسي الطفولي الذي فارقته ( وتستقبلني ساحة حجرية تحيط بها أشجار اللوز الأخضر المثقلة بأحمالها .. في وسطها نافورة تنثر دموعها حكايا زمن مضى ) حتى إذا ما تعبت من التجوال ، جلست لترتاح وهي تتنفس بعمق وتتذكر حبيبها المفتاح ( أضع يدي على المفتاح وأتذكره ) وقبل أن تهمس باسمه رأته قادما نحوها ، هو لم يستغرب من وجودها في القصر ، هي التي استغربت من وجوده ، في حين انظم هو اليها ليسرا معاً في ذلك القصر الميتا مكاني ، وتستمر القاصة بالانزياح المكاني الثر ، مستخدمة أسلوب السرد الذاتي لإكمال الصورة السردية للمكان المتخيل لكنها تصطدم خلال تجوالها بغصن نافر من إحدى الأشجار فتفقد سلسلتها وتجرح يدها ، يربط هو معصمها بمنديله ، وتصاب هي بالإغماء عندما ترى منظر الدم .. المنديل والدم رمزان آخران يدعمان قنطرة العبور الى جانب مرحلة النضج .. تفيق على صوت زوجها :
انتبهت الى ضياع السلسلة ، كما انتبهت الى معصمها المربوط بمنديل أبيض .. ويسألها زوجها باستغراب عن يدها وهو يرى منديله يطوق معصمها .. هي لم تجبه ( لم أرد .. أدخلت أصابعي في جيب القميص الذي غسلته وكويته بالأمس قبل أن أنام .. تلمست رؤوس أناملي السلسلة .. سحبتها .. كلانا ينظر اليها بذهول .. واندهشت أنا ، فلم يكن معها المفتاح !) .. نعم لم يعد للمفتاح وجود في حياة بطلة القصة فقد ودعت زمن الطفولة ومكانها الحسي ، وانتقلت الى زمن المرأة الناضجة ومكانها المتخيل .. ويبدو لي أن القاصة استفادت في رسم نهاية قصتها من نهايات قصص الكاتب الفرنسي لويس بونس وبخاصة مجموعته ( الحلو المر ) الفائزة بجائزة الغونكور التي ترجمها نهاد التكري وقامت بنشرها دار المأمون
من كتاب الموقعحامد فاضل كليزار أنور
شاهد أيضاً
شوقي كريم حسن: عبد العظيم فنجان… الشعر حين يمتهن الجمال!!
*محنة الشعر الشعر العراقي منذ بداياته الانشائية الاولى ارتباطه الوثيق بالمؤدلجات التي امتهنت التبشير واذابت …
أنشطارات السرد في(1958) للروائي ضياء الخالدي
مقداد مسعود
الرواية لا تنتظم في حيز عنوانها بل تنفتح على مديات من تاريخنا العراقي ويرافق الانفتاح …
العزف الكوني في (ثمة عزف في السماء) للشاعرة ليلى عبد الامير
قراءة انطباعية ذوقية
بقلم طالب عمران المعموري
بين يدي مجموعة شعرية بعنوان (ثمة عزف في السماء ) للشاعرة ليلى عبد الامير الصادرة …
الأستاذ القدير حامد فاضل المحترم
تحية شكر وامتنان قرأت دراستك النقدية الجميلة عن قصتي المفتاح الذهبي.. وأحببت أن أعبر لك عن شكري واحترامي لشخصك الكريم.