مريم الناصري: (باحثة من العراق) / تخصص أدب: نقد حديث
إنّ الحديث عن عاشوراء وطقوسه هو حديث شجيّ, عبوسٌ, عن رحلةٍ روحية المنبع لتوّحد شهري محرم وصفر إنْ لم يكنا صوراً تتجلى في كلِّ السّنون, وما زال يتجدّد بطقوسه في طرقٍ أصبحت محرابه المقدّس, لا شيء يثبط من عزيمة قدمٍ تعرف حقَّ الطريق الحسيني- الزينبي المعبّد بعبّاس الفداء والنفس الأبيّة بتخيّلٍ يقيني الإيمان للمأساة؛ قال تعالى: ﴿ إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾[الأحزاب/33].
قال الشاعر:
حبّ آل النّبي خالط قلبي كاختلاط الضياءِ بماءِ العيونِ
وقال الإمام الشافعي:
يا أهل بيت رسول الله حبكم فرض من اللهِ في القرآنِ أنزله
كفاكم من عظيم القدر أنّكم مَنْ لم يصلِّ عليكم لا صلاة له
إنّ (نظرية التطهير) متأتية من لفظة(Catharsis) الانجليزية, وهي مشتقة من أصل يوناني (katharsis) تلفظ بـ(كثارسيس/ أو كاتارسيس)؛ تعني إفراغ الأشياء الضارة (الجراثيم) من داخل جوف الإنسان إلى خارجه أي بمعنى التفريغ. ولها معانٍ أخرى منها(التنقية), (التطهير), (التنفيس/التفريغ) بنوعيه الوجداني والعقلي. فهي مرّة تكون بمعنى تطهير العواطف (فنياً) أي تطهير النفس من العيوب والأدناس وتنزيهها, ومرّة يقصد بها ” التنفيس: أي التّخلص من عقدة نفسية بإفساح المجال أمامها للتعبير عن نفسها تعبيراً كاملاً”؛ لتتخلص من الأهواء والانفعالات. ثم تطوّر استعمال اللفظ -فلسفياً- ليشمل تطهير النفس من العلاقات الحسّية لتكون مرآة تنطبع فيها المعقولات, أي الانتقال بالنفس من الحسّية (القلبية) إلى الصورة العقلية التي تلتصق بها كلِّ الأفكار المعقولة والممكنة لذلك.
والتطهير مصطلح في أصله طبّي, تمت استعارته في الفن والأدب من أجل تطهير النفس البشرية روحياً ووجدانياً من عواطفها الزائدة. تمّ ذكره لأول مرة عند أرسطو في كتابه (فن الشعر)حين تحدّث عن التراجيديا (المأساة) وتأثيرها, بأنّها-أي المأساة- تثير مشاعر الخوف والشفقة ومن ثمّ تتم عملية التطهير للانفعالات الإنسانية المستثارة أو المكبوتة. فمؤدّى هذا التطهّر بالانفعالات ” إلى التجدّد الأخلاقي أو التخلص من التوتر والقلق. ذلك أنّ الجمهور حين يشاهد في المأساة ما يضرُّ البطل أو يفاجأ بأفعال يتأذّى من رؤيتها لو أنّها جرت في الحياة اليومية, يبرحُ المسرح مطهّراً من الناحية النفسيّة من الإحساسات المضرّة “. ذلك أنّ التراجيديا الصحيحة هي ما تثير هذين الانفعالين(الخوف والشفقة), من خلال بنائها اللغوي ذاته, فلو سردت على مسمع الحاضرين, من دون تجسيدها على خشبة المسرح, لأحدثت الإثارة وحرضت العاطفة الجيّاشة التي تدرك لحظتها في مأساة البطل؛ لتكون فيما بعد وظيفتها لتلك المشاعر المثارة, حين أخرجتها وأصلحتها ومن ثمَّ جدّدتها.
وعملية التنفيس هذه تمثّل عملية هوميوباتية– (أي تجانسية, أو معالجة مثلية), تحقق فيها عاطفتي الخوف والشفقة, ثم تطهّر العواطف بهاتين العاطفتين بعينهما أو مثلهما. أو ما يمكن أن نعبّر عنه بــ(المعادل العاطفي) المقابل للــ(المعادل الموضوعي) في نظريات الأدب. إذ يُذكر أنّ الطب الهوميوباتي هو طبٌّ بديل أو مكمّل, أو ما يُعرف بعلاجِ المثل بالمثل؛ ففي العلاج الهوميوباتي مهما كانت المادة ضارّة أو سامّة, فبعد تحضيرها تصبح نافعة من دون أضرار أو آثار جانبية. ولو أسقطنا هذا المفهوم نفسياً علينا؛ للاحظنا أنّ ما يوجعنا بأجسادنا أو أنفسنا أو أرواحنا نداويه بذات الدّاء, من مثلاً( ذكر مأساة الطفِّ وأحداث عاشوراء) حين تخرج ما هو مكبوت في النفس الإنسانية المتوجّعة ثم تنقّيها ثم تطهّر داخلك وتصلحه؛ ذلك عندما دخلت في مرحلة التماهي مع المشاهد المتخيّلة أو الحاضرة أمامك التي تنقلك من حالة إلى أخرى, وتحوّل استيعابك لها إلى فعلِ تنفيس وتفريغ عاطفي, لتحدث اللّذة الجمالية حين تبدأ المخيّلة باستعراض العرض المسرحي-(أيّ مأساة كانت)- واسترجاع أحداثه, لتطابق كلّ انفعال يحدث, ترافقه لذة , تولّد منها انفعالات أخرى مكبوتة كإحساس بجزءٍ من الأنا المفقودة التي تأخذ وجهاً آمناً في أنا الآخر توهماً أحياناً..!
إنّ الطقوس والاحتفالات التي عرفتها أغلب الشعوب القديمة في حضارتي مصر واليونان هدفت إلى التطهير على مستويين؛ هي مستوى الفرد ومستوى الجماعة؛ فمستوى الفرد: يقصد به الفرد المشارك في الطقس أو الإحتفال, حيث يصل الممارس إلى حالة إنعتاق تؤدي إلى طرد الأرواح الشريرة من جسده، التي توصله إلى الشفاء. وأما في بعض الطقوس الجماعية التي تقوم على التضحية يكون هناك نوع من التطهير، يحرر الجماعة من إثم ما ، أو ذنب أو مرض. ويعد الفيلسوف الألماني (فردريك نيتشه Nietzsche) أول من أعاد النظر بمفهوم التطهير من خلال ربطه بأصوله الطقسية ، وطرح العلاقة بين التطهير والطقس، فقد عدّ الطقس الديونيزيّة – هي نسبة إلى الإله الإغريقي ديونيزوس الذي نسبت إليه كلّ ما يخصّ الحسّي, العفوي, العاطفي للطبيعة البشرية, فضلاً عن ربطه بالفنون اللابصرية كالموسيقى-؛ هو الطقس المثالي لتحقيق التطهير، الذي بُني على أساسه المسرح، الذي أخذ نفس الطابع وحقق نفس التأثير في متلقيه. ذلك أنّ الموسيقى حين تكون علاجاً من منظورٍ طبي نفسي. فمثلاً في الموسيقى العنيفة, القوية, الحماسية, الصاخبة, أو الهادئة لكنها قوية الكلمات والإحساس تبعاً لطبيعة حالة الإنسان لحظتها. تراها –أي الموسيقى- تسيطر على المستمع وتتملكه وتحقق النشوة الإنفعالية واللذة, فتكون بمثابة العلاج المثلي الذي يداويه ويطهّره وينقيه من مشاعر تتلبسّه. وهذا ما نجده أو نراه جليّاً في بعض القصائد الحسينية الحماسية, الثورية, والمحرّضة على السير نحو كعبة الإباء(كربلاء) مشياً على الأقدام, وكذلك اللّطميّات المحكيّة المبكية مواساةً لما حدث وما لم يحدث أو ما تمنّوا حدوثه في واقعة الطف. قال (عبد الباقي العمري الموصلي) في ملحمته الكبيرة, يرثي الحسين(ع), مطلعها:
قضى الحسين نَحْبَه وما سِوى الله عليه قَـدْ بكى وانتحبـــــــــــــــــــــــا
فــالبكاء هو عملية تطهيرية وتفريغ لحزن أو ضيقٍ مكبوت في صدر الإنسان, وقد يكون البكاء فرحاً يمضي سريعاً وإنْ كان يكسبك نشوة العطاء بعد تعبٍ ما؛ إلّا أنّ البكاء في عاشوراء له مذاقه ونكهته ولذته الخاصة , تبكي بلا حرج ولا حواجز ولا تقييد …, تطلق العنان لجوارحك تعبّر عمّا تحسّه وتتمنّاه وما توّده من عطاء تبذل المهج لأجله. يشعرك البكاء في مجالسِ العزاء أنّ الطفَّ أمامك تتجلى صوره بألمٍ!. حائراً تفكّر بما حدث ليصمت داخلك, فلا أنت تكمل اللطم على صدرك أو ضرب فخذك أو ترفع يدكَ مناجاةً وتوسّلاً لهم لحظتها. ومشاهدة من حولك يندب بوجعٍ فقدُ محبّ قريباً كان أو بعيداً بحقّ ٍ أو بظلمٍ, وكلّ هذا لا يوازي مصيبة الطف الأولى التي كان الحقُّ فيها يذبح بلا ضمير إنساني…؟!. ويحضرني هنا مقطعاً من مسرحية (ثانية يجيء الحسين) لمحمد علي الخفاجي, يقول في جزء من فصولها:
محمد(مع نفسه) : تالله كأن الخشية تفرع سكيناً في قلبي
الحسين (ينهض متحركاً إلى عمقِ المسرح وكأنّه في حالةٍ من التأملِ)
أيّ رؤى تلك؟ تتعمدُ فيها الصحوة, فتفيق على شرفِ المسعى
يصرخُ بي صوت , فيكونُ له صوتي … كصداه
أنظرُ مظلومي الأمة
وكأنّ جلدي يتوزع بين سياط الجلادين,…,
الحسين (ثائراً) : أختارُ الصمت
وضميرُ الأمة تعملُ فيه النخرة ؟! أغمدُ سيفي
وسلاحُ الخوف المغروسُ على جنبات الدرب يتلوى بين رقاب الناس؟!
ويظلُ إمامُ العصر
يسمعُ كلمات النخوة تحشو أُذُنيه
فيذوّب فيها صرختها
ويُهل على أُذُنيه تراب سكوته؟!
ينتفض : غيري يختار الصمت ويختار قعود البيت
والنوم على دكّات المسجد
غيري يختار … غيري يختار
وأنا أختارُ الله وأختارُ الناس… أختار الله وأختارُ الناس ))
إنّ البكاءَ طقسٌ مقدس لا بدّ منه في مجالس عاشوراء, فطرياً كان أم تباكياً(أي محاولة المشاركة في البكاء من أجل الاندماج مع الطقس حدِّ التماهي). فحضور الدمعة دليل على خشوع القلب لحظتها لهيبةِ المصاب, وقشعريرة الجسد الذي تلطمه اليد -تكراراً- محبةً ومواساة.. ومن ثمّ التفاعل التخيّلي لاستحضار التواجد في ساحة الطفِّ الذي فقدناه بفارق الزمن وحقيقة التواجد الكونية للواقعة؛ كأنّه عالم موازٍ بينهما لتحدث اللذة الجمالية..!. بل ارتبط البكاء على أبي عبد الله الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) حتى في حالات البكاء الإنسانية الاعتيادية في مواقف الحياة المختلفة, حين تسمع من أحدهم قائلاً لك -من باب التخفيف عنك- : << لم تبكِ ؟ ؛ اِبكِ.. , أجرك على الحسين(ع) >>. وكأنّ بكلماته هذه يريكَ عظم المصاب آنذاك مقابل مصابك الدنيويّ الزائل بإذن الله (جلّ جلاله) ورجاء حُجَجه على خلقه. لتتساءل, كيف تترسّخ القيم في ضوء المعتقد الإنساني ممارسةً؟ لمجرد ذكرها تؤدّب نفسك خجلاً, وتروّضها لتهدأ وتستقيم مهما كانت درجة تقاتك ؛ فلا تنفك المخيلة في ضوء المخيال الجمعي مقارنة بممارسته الفردية الحياتية لهذا الطقس –أي البكاء- انفعالاً شجيّاً عن دراية أو تباكياً لكسب رهان المعرفة من أن تنفرط منه حسنة الوصل لآل بيت الرسول(عليهم السلام), لكلِّ دمعةٍ تذرف من مقلتيه مهما ندرت. فهي كفيلة بأنْ تحزنه وتطهّره وتنفّس عن كبته, ومن ثمّ تشعره بنشوة النصر ولذة خلود الدمعة الحسينية في شطّ كفوفِ عبّاسهم المبسوطة بالضوء. ولسان حاله يقول:
يا نَفْسُ من بعدِ الحسينِ هُوني وبعدَهُ لاَ كُنْتِ أنْ تَكوني
هذا حسينٌ واردُ المَنـــــــــــونِ وتَشْربينَ بــــارِدَ المَعين
تـــــــاللهِ مــــا هذا فِعالُ دِيني ولا فِعَالُ صَـــــادِقِ اليقينِ
ولكأنّ لسان حاله قول الشاعرة (مسار الياسري):
شفَتاكَ أربكتَا الفرات ففرَّ منْ غرقٍ بــــــــبحر ٍ مُتقنِ الإعرابِ
بيني وبينك يا حسينُ طفولةً منها أُطلُّ على ضفافِ شبابي
وما إنْ تــُكملَ طقسكَ البكائي الحسيني لتجد نفسكَ قد تحررت من ثقلٍ لم تزيله عن كاهلكَ منذ عامٍ أو أكثر, فللمجالس أثرها في حركة دوران دمك, وانفعالك الوجداني ليستثار ذاك الوله الذي غذّيته في داخلك من حبِّ أهل بيت الرسول(عليهم السلام), ولتطهّر نفسك من كلِّ ذنبٍ قد فعلته بحقّهم من قصورِ الذّكر أو البكاء عليهم أو السير على نهجهم وفكرهم وعلمهم الربّاني؛ وبين كلّ هذا وذاك تجد مرّة دافعاً فطرياً يهوي بك إليهم من دون طلب حاجة ما وإنّما أنساً بذكرهم وحبّهم الذي استوطن قلبك وفكرك وحياتك منذ اهتزّ مهدك .., ومرّة دافعاً كونياً طبيعياً مكتسباً يذكّرك به ظهور هلال شهر محرم لبدءِ طقوس المُصاب ونسيان الكثير من عادات الفرح والاحتفال ليتوشّح داخلك بالحزن قبل خارجك بالسواد, وإذا سهوتَ قليلاً عنه, ذكّرتك الأماكن وجدران البيوت المتوسّمة بصورِ الطفِّ, أضف إلى ذلك الرايات التي ترفرف عالياً على أسطح البيوت والبنايات العالية. شامخاً كلّ شيء لحظتها لا تفارقك بهجة المنظر نصرةً, ولا الحدث المروّع.. الذي كان!. ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ﴾ [الحج/32].
ولم يكن مسرح الطف بمأساته متوقفاً بعدما حدث ما حدث وإنّما بدأ بالتحرّك من مكان لآخر؛ ليؤسّس على هذا المشهد طقساً آخراً يضاف لطقوس عاشوراء, ألا هو(المشي على الأقدام) عزاءً وتلبية لنداء الولاء والثبات على نصرةِ الحقّ, ومحبةً من لدن جموع غفيرة يسمّونهم (المشّاية)..!. إنّ فكرة السّير لمسافاتٍ بعيدة لم تكن وليدة اللحظة فلسفياً, روحياً, وإنّما يسعى لتحقيقها كثير من الشعوب قديماً, بل حتى في الحضارة الغربية الحديثة تراهم يلجأوون إلى اتّخاذ خطوة (المشي على الأقدام) والسير في طرقات وعرة وجبلية ورملية وترابية وعشبية وغير ذلك؛ من أجل تغيير كثير من عاداتهم السيئة وتحقيق الصفاء الذهني والسلام الداخلي عبر التأمل في طبيعة الكون, وما يعرّضون أنفسهم له من خطورة التعرّض لحيوانٍ جارح أو مفترسٍ أو سامّــٍ يُنهي حياتهم فضلاً عن تعرّضهم للعطشِ والجوع ليشعروا بعظيم ما لديهم, وليقدروا قيمة الحياة وما فقدوه من قيم إنسانية ترفعهم إلى مصافٍ عالية…وكذا.
وحين تتصفح ما كتب عن فلسفة المشي والحديث عنها ترى أنّ فكرتها عميقة الرؤية, كبيرة الأثر, إذ يرى الفلاسفة أمثال (فريديريك غرو) في كتابة (فلسفة المشي), وكانط, ونيتشه, وغيرهم من الكتاب والمبدعين في مجال الفنّ والأدب والفلسفة, ممن مارسوا المشي ووصفوه بأنّه فنٌّ قائم بذاته, وليس رياضة حركية عضلية فقط. بل تعاملوا معه بكثير من الرهافة كحركةٍ خلّاقة في مجال ما. فالمشي الحر في أحضان الطبيعة (هو أفضل طريقة لتهذيب النفس). حتى قيل إنّ الفيلسوف(فريديريك نيتشه): ” لم يكن يعرف يفكّر إلّا وهو يمشي”. لذا قيل إنّ (المشّاء ملكٌ والأرض هي مملكته).
بل لم يتوقف الأمر عند هذا الحدِّ وإنّما كان لأرسطو إسهاماً في فكرة المشي, التي انطلقت فكرتها من حدودِ ضيّقة في ممرات الدرس, وحركته التي تولّد الأفكار عنده أثناء الشرح. ليتأسس بعد ذلك(المدرسة المشّائية) أو ما تعرف بــ(الحكمة المشّائية), وفيما بعد انتقلت فكرتها إلى الفلسفة الإسلامية عند أمثال الكندي, الفارابي, وابن سينا وغيرهم؛ متّخذين من العقل الطريق الوحيد للمعرفة والاستدلال المنطقي بعيداً عن العواطف الحسّية.
فهم رأوا-الفلاسفة والكتّاب- في المشي حياة تُعاش وأفكار تتحرر, حين(( يحرض المشي أعمق مشاعرنا على إظهار نفسها ويجبر عقولنا على البحث. كما يدفعنا إلى الغرق في كميات الجمال الموجودة حولنا حتى نصل إلى الثمالة وسط كلّ المناظر و المشاهد التي تحيط بنا. للمشي قدرة على إيقاظ روح التمرد المهجورة فينا. فتزيد شهيتنا ومطالبنا ونشعر كأنّ الحياة أمامنا خط عمودي يجب سلوكه عبر تيار متسارع وغير متوقف… فعند مشيك لوقت طويل تأتي لحظة لا تدرك فيها مدى الساعات التي استغرقتها في المشي أو الساعات التي تحتاجها لتصل إلى وجهتك. و تحس أنّ عاتقك خالٍ من المسؤوليات,…,. فبالمشي، ما أقصده هو أنّك لن تلتقِ نفسك، بل تهرب من فكرة الهوية في حدِّ ذاتها, ومن الرغبة في أن تكون شخصاً ذو اسمٍ وتاريخ)). بل يكفيك الانتماء لوجودٍ إنساني كائن في حقيقة واحدة تكوّنها الحقائق كلها.
ولو عكسنا هذا الطقس النابع من وجودٍ إنساني غايته تطهير النفس وتشذيبها من كلِّ دنسٍ لحق بها على طقس مكتسب من دافعٍ إنساني وكوني لتغيير كثير من حقائق التاريخ المزيف, الذي يرفض حقيقة ما حدث ظلماً, وإنّما كان حقّاً وقد تمّ أخذه كما روّج لهم آنذاك. إنّ طقس المشي طقسٌ يُضاف لطقس البكاء في سمّوه وما يحققه من ثباتِ السير في ذات الطرق من كلِّ عامٍ بلا كلل أو ملل, وإكراماً لسيد الشهداء وعطشه؛ لكنّك لا تشعر بعطشِ أو جوع جسدياً وإنّما تخطو بخطوات بطيئة كانت أو سريعة وأنت بظمأ لا يرتوى, فكلما قلت اكتفيت ازددت شوقاً لحضرته والبكاء لذكره..! ؛ فحين يتم قراءة هكذا طقس انطلقت فكرته من حركة فردية إلى رؤية جماعية وهبت نفسها خدمة لأصحاب المسير (المُشاة), وطلباً للشفاعة واللحاق بركبٍّ لم يتوقف سيره بعد إلّا بإظهار الحقّ وإحقاقه. قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أمْوَالهِمْ صَدَقَةً تُطِّهرُهُم وَتُزكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيهِمْ إنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنُ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[التوبة/103]. فالسير إلى كربلاء محاكاةً لفعلِ إنساني تمّ فعله لدفنِ ما فقد بألمٍ يعصر الإنسان ويكوّره على نفسه بصبرٍ جميل, وجبلٍ شامخ..! ويقين إيماني في تقبّل القربان. وما يفعله (المُشاة) المتّجهون صوب كعبة الإباء(كربلا) بهمزٍ مقطوع الأنفاس, إلّا أسلوباً لتجسيد وإحياء لفظ الحكي للواقعة في زمن يفيض بلذّة الوصل, مفتقراً إلى فصلِ هذا الاتصال الانفعالي صوتاً وحديثاً وحكاية تعرض بمسارحٍ عالمية, وتبث عبرَ وسائطٍ شبكية معلوماتية, توثّق ما يحدث لتأريخ ينقم عليه اللوح المحفوظ..!. ليكون طقس(المسير) ما هو إلّا انفعالاً تطهيريّاً وجمالياً قادراً على استبدال الألمِ باللّذة الروحية الجمال.
كما أنّ المسيرة تؤدى على أنّها طقوس تطهيرية ومعرفية وفنية وكونية وعبادية, وتجسيداً للوعي البدائي الذي يمثل بداية رسم ملامح الأسس الأخلاقية لعالمٍ أناسي, يتمتع بعلاقاتٍ بشرية/إنسانية, قيمية الجمال, ذي مبادئ وأصول تتناغم مع إيقاعات الوجود وقوانينه الإلهية. ليكون التطهير في بُعديه الأخلاقي والديني فضلاً عن الروحي متحققاً عبر التجربة الوجدانية لمشاعر الرهبة والهيبة, والرحمة وفيض الولاء الذي لا حدَّ له. لذا من كان على هذا المبدأ ماضياً في طريق المسير, أنْ يكون واعياً للحقيقة, قارئاً للمعرفة الحسينية, طالباً بثباته السلام الذي يسمع ردّه مع كلِّ هتاف ونداءٍ حسيني. يغمرهم إحساس بالراحة لكأنّهم في جمهورية مثالية من القيم والنبل الرفيعة ليسمو بذاته المنفية في أُناهم لمصافٍ أعلى, تُليق بقببٍ وضّاءة النور في كواكبٍ أُخر.
وخير الختام ترك السلام, وكيف السلام حين يكون شعراً؟!.. يقول الشاعر(عبد الرزاق عبد الواحد) في قصيدته(في رحاب الحسين ع), مجسّداً فيها القدوم والسير بأنين منكسرٍ ظمي, حين يطرق بابه بالسلام عليه لبدء الإحرام في كعبته الخالدة, منها:
قَدمتُ وعَفْوَكَ عــــــــــــن مَقدَمي حسيراً، أسيراً، كسيراً، ظَمي
قــــــــدِمتُ لأُحرِمَ فــــــي رَحْبَتيْك ســــلامٌ لِمَثــــــــواكَ من مَحرَمِ
فَمُذْ كـــنتُ طفلاً رأيتُ الحسين مَناراً إلى ضـــــــــــــوئهِ أنتَمي
ومُذْ كنتُ طفلا ًوجَدتُ الحسين مَلاذاً بــــــــــــــأسوارِهِ أحتَمي
وَمُذْ كنتُ طفلاً عرفتُ الحسين رِضاعاً.. ولـــــــــــــــلآن لم أفطَمِ!
سلامٌ عليكَ فــــــــأنتَ السَّلام وإنْ كنتَ مُخْتَضِباً بـــــــــــــــــالدَّمِ
وأنتَ الدَّليلُ إلى الكبريـــــــــاء بِـــمَا دِيسَ من صدْرِكَ الأكْرَمِ
و إنَّكَ مُعْتَصَمُ الخائفــــــــــــين يا مَن مِن الذَّبح ِ لم يُعصمِ
لقد قلتَ للنفسِ هذا طريقُكِ لاقِي بِهِ الموتَ كي تَسلَمي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روافد المقال :
1ــ قاموس المورد, منير البعلبكي, د.د, ط3, 1970م:160.
2ــ المعجم الفلسفي, جميل صليبا, دار الكتاب اللبناني, بيروت, 1982م: 1/292.
3ــ معجم المسرح, باتريس بافي, تر: ميشال ف. خطّار, مراجعة: نبيل أبو مراد, المنظمة العربية للترجمة, بيروت, 2009م: 111-112.
4ــ المعجم المفصل في الأدب, د. محمد التونجي, دار الكتب العلمية, بيروت-لبنان,ط2, 1999م: 1/263.
5ــ ينظر للاستزادة أكثر: ويكيبيديا(الموسوعة الحرّة), عن مفردات(التطهير, الديونيزيا, الهوميوباتي, المدرسة المشّائية).
6ــ فن الشعر, أرسطو, تر: د. إبراهيم حمادة, منشورات مكتبة الأنجلو المصرية, د.ط, د.ت: 35.
7ــ نظرية التلقي في المسرح(من الأرسطية إلى البريختية) مسرح سعد الله ونوس(أنموذجاً), أ. سميحة عساس, مجلة العلوم الإنسانية, ع45, جوان 2016م: 48-49.
8ــ مقالة( التطهير عند أرسطو), موقع نقاد, 11سبتمر- 2013م.
9ــ مقالة (فلسفة المشي: ثورو, نيتشه وكانط حول المشي), موقع النقطة الزرقاء, 5نوفمبر- 2015م.
10ـــ المرشد إلى فن المسرح(الدراما), لويس فارجاس, تر: أحمد سلامة محمد, مراجعة: د. مرسي سعد الدين, دار الشؤون الثقافية العامة, بغداد, د.ط, د.ت: 9.
11ــ أدب الطف أو شعراء الحسين(ع), جواد شُبّر, منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات, بيروت, ط1, 1969م: 1/19, 30.