وأنا أقرأ فصول كتاب (في صحبة الكتب) للأديب الكاتب الصحفي علي حسين، استرعى انتباهي هذا التنافس المدمر بين البشر، ولا سيما بين ذوي المشارب المتقاربة، بسبب التحاسد والغبط، فذان بابلو بيكاسو وسلفادور دالي، على الرغم من المجد المعنوي والمادي اللذين حصلا عليه، فإنهما ينتقدان، لا بل يذمان رسوم مارك شاكال؛ الرسام الروسي الذي غادر بلده، لينعم بأجواء الحرية في بلد النور؛ فرنسة، يذمانه لأنه يكثر من رسم البقر في لوحاته، وباستهزاء ملؤه الحسد يتساءلان: ما بال هذا الرجل معجب بالبقر؟ هل يظن أن أحدا سيمنحه وساما على مثل هذه الرسوم؟ وكانا يريان أن أعمال شاكال قليلة الأهمية! لا بل إن عدداً من زملائه الفنانين الجدانوفيين، كانوا يستهزئون برسومه، وقد نضا عنه لباس الرأي الواحد المنغلق في عوالم الفن والأدب، متسائلين: ترى ما علاقة البقرة الخضراء التي يرسمها شاكال بما نادى به ماركس وأنجلز؟!
كما أن دالي يغبط بيكاسو على مجده، ذاكراً أن بيكاسو موهوب لكن من غير مهارة!
والأمر نفسه نلمسه في العلاقة بين جان بول سارتر وبين البير كامو، التي كانت بدايتها قراءة كامو لأولى روايات سارتر ( الغثيان) فأُعجب بها وكتب عنها حديثا نقديا، نال استحسان سارتر، وانعقدت صداقة وطيدة بين الأستاذ وتلميذه ومريده، لكن تألق كامو وسطوع نجمه حين نشر روايته الأولى (الغريب) ثنّاها بروايته (أسطورة سيزيف)، جعل قلب سارتر يتآكله الحسد والنفور، وتأتي القشة التي ستأتي على هذه العلاقة المتميزة، حين أصدر كامو كتابه (الإنسان المتمرد) الذي ندد فيه بالعنف الستاليني والقسوة المفرطة، فاغتنمها سارتر سانحة بارحة، كي يوقف مد صديقه وموجه العاتي في دنيا الكتابة.
كان سارتر يتولى رئاسة تحرير مجلة فكرية واسعة الانتشار هي (الأزمنة الحديثة)، فتعقد هيئة تحرير المجلة اجتماعاً يترأسه سارتر، لكتابة رد على ماورد في الكتاب، ويُختار فرانسيس جانسون لكتابة الرد، فيكتب نقدا قاسيا جافيا، ترك أسوأ الآثار في نفس كامو، وكان أكثر ما يؤلمه، أن هذا النقد كتب بتحريض من أستاذه سارتر، أو إذا أحسنا الظن؛ كتب بموافقته، فثأر كامو لنفسه برد عنيف، قابله سارتر برد أعنف، ليضع ختاما لعلاقة طيبة امتدت منذ سنة ١٩٣٨ وحتى ١٩٥١، وكان فوز غريمه ومنافسة كامو بجائزة نوبل للأدب سنة ١٩٥٧، قد زاد من ضغينته وحنقه وحسده، حتى إنه امتنع عن تسلم مبلغ جائزة نوبل للأدب التي فاز بها سنة ١٩٦٤، مدعياً أنها تعطى لمن ما زال في الطريق، وإنه قد وصل نهايته وهذا ما قرأته في الصحف يوم فوزه، ولعل الدافع كان حسده لكامو فأراد أن يقلل من شأن الجائزة التي تظل مطمح النفس.
سارتر الذي اتخذ من نقد كامو لتصرفات ستالين الديكتاتورية، ذريعة لنقض العلاقة بينه وبين تلميذه كامو، سيركب المركب ذاته فيهجو سلوك ستالين التعسفي، الذي يراه تلاعب بفكر نبيل؛ هو الفكر الماركسي، ما وقف عند النقد العابر في الصحف أو المجلات، بل وثقه بكتابه الشهير (شبح ستالين)!
كذلك الحال في رأي فرجينيا وولف بجيمس جويس وروايته ( يوليسيس) واصفة إياها بالكتاب الأمي الهجين، كتبه رجل محزن، أناني، لجوج، فظ، ومثير للغثيان.ص١٢٢
ومن دلائل هذا التحاسد الذي يقود إلى البغضاء والرأي المتعسف، أن أندريه جيد وقد عرضت عليه مخطوطة رواية ( البحث عن الزمن الضائع) لمارسيل بروست، أو بالحري الجزء الأول منها؛ وكان رئيسا للجنة القراءة لدى دار نشر غاليمار الشهيرة بباريس، قائلا إن هذا الكتاب الضخم مجموعة خواطر تفتقر إلى الحبكة الروائية، لكن بعد أن تتخطى الرواية موانع النشر العديدة، وتأخذ مداها الواسع لدى القراء، يعود أندريه جيد ليركب الموجة، مشيدا بالرواية، واصفا إياها بالتحفة الفنية، معتذراً من كاتبها، ومبديا أسفه لأنه رفض نشرها بداية؟!ص١٦١
المترجم أنيس زكي حسن
في فصل آخر من فصول هذا الكتاب الممتع والمفيد، عنوانه ( الغريب الإنكليزي الذي تحول إلى” اللامنتمي” العراقي) حديث عن الكاتب البريطاني كولن ولسن،وكتابه الأول الذي ترجمه المترجم العراقي المتضلع؛ أنيس زكي حسن، الذي كان أحد تلامذة الكبير جبرا إبراهيم جبرا في دار المعلمين العالية، هذا المترجم الذي رفد المكتبة العراقية والعربية بآثار ثقافية مهمة، واكتنف الغموض حياته، حتى أني كنت أظنه لبنانيا، لأنه كان يترجم لدور النشر اللبنانية، ولاسيما دار الآداب، وكان صادقا مع نفسه حتى أنه لم يقبل أن يترجم كتبا لولسن، الذي حولته الشهرة والمال المنهمر، إلى كاتب لا تهمه حقائق الحياة، وإفادة القارىء، بقدر ما يهمه المال، مؤكداً أنيس زكي حسن، إننا يمكن أن نختصر كولن ولسن بكتابه ( اللامنتمي) وكل ما جاء بعده وكتبه إنما هو تفسير له وإعادة صياغة.
هذا الغموض الذي اكتنف حياة أنيس، وقد ظن الكثيرون أنه غادر الدنيا ويأتي توضيح من ذويه أنه ما زال حياً ويحيا في باريس، هذا الأمر يعيد لذاكرتنا والقراء مصائر كثيرين ومنهم المترجم والناقد الأدبي الرائد ( نهاد التكرلي) شقيق الروائي الرائد فؤاد التكرلي، نهاد الذي كان ملء سمع وبصر القراء والأدباء في عقد الخمسين من القرن العشرين ولا سيما النصف الأول، وزخرت مجلة ( الأديب) البيروتية بفيض عطائه، غادر العراق أواخر العهد الملكي نحو فرنسة، لدراسة القانون، وانقطعت أخباره، والأمر ينسحب على الدبلوماسي والقاص واللغوي المتمكن الدكتور عبد الحق فاضل الذي اعتزل الحياة في المملكة المغربية، فضلا عن الباحث الرصين الدكتور محسن مهدي الذي غادر الحياة سنة ٢٠٠٧،ومنذ عقود انقطعت أخباره، عائشا في الولايات المتحدة وأستاذا في كبريات جامعاتها، وجاء إلى وطنه العراق سنة ١٩٧٥ للمشاركة في الاحتفال بأبي نصر محمد بن محمد بن طرخان بن اوزلغ المعروف بـ(الفارابي) وقد رأيته ضحى يوم الجمعة ٣١/من تشرين الأول ١٩٧٥ لدى حضوري الحلقة الدراسية الثانية، التي أقيمت على قاعة الجامعة المستنصرية، التي أتشرف بالتخرج فيها، واستمعنا أثناءها إلى بحوث تسعة مشاركين من مختلف أصقاع العالم، وكان باحثنا الرصين محسن مهدي؛ أحد هؤلاء الجهابذ.
هذه معضلة بحاجة إلى درس، ترى لماذا الرغبة بالعيش في الظل، والبعد النهائي عن أرض الوطن؟
ويخصص الأديب الكاتب علي حسين فصلا عنوانه (لم يستطع إغواء النساء بمزاياه الجسدية فقرر إغواءهن بالكلمات) عن فيلسوف الوجودية جان بول سارتر (١٩٨٠) وسيمون دي بوفوار (١٩٨٦) الفتاة التي تمردت على مفاهيم أسرتها الثرية النبيلة، والتي كانت ترغب في تنشأتها نشأة محافظة جدا، وتشاء المصادفات أن يعقد الحب رباطه بين قلبيهما، أثناء المطالعة في المكتبة العامة بباريس وظلا على هذه العلاقة حتى موتهما وأوصت سيمون أن تدفن بجواره. هو الذي سبقها في الموت بست سنوات، ومن عجائب وغرائب الحياة، أنهما توفيا في اليوم ذاته، السادس من نيسان لكن بفارق ست سنوات!
سارتر الذي يكتب روايته (الغثيان) فتندلق أمامه أبواب الشهرة والمال، ويكتب في نقد الماركسيين الجامدين، الذي ظلوا يتعبدون في محراب الماركسية، واصفين إياها إنها قد اكتملت، في حين يرى سارتر أن الفكر في ديمومة متواصلة ولا يكتمل، والاكتمال يعني البوار والموات.
سارتر؛ فضلا عن سيمون وكتاباتها الجريئة عن المرأة، كان ملء السمع والبصر في العالم كله، ولا سيما وطننا العربي، وكانت دور النشر ولا سيما دار الآداب الرائعة، سنوات عقد الستين من القرن العشرين، وما تلاها تتسابق لتضع بين أيادي القراء كتبه، وكان الفضل في ذلك للدكتور سهيل إدريس وزوجته عايدة مطرجي، وموقفه المؤازر لثورة الجزائر (١٩٥٤-١٩٦٢) فضلا عن مناوأته للتحجر الستاليني، وزيارته لدول عربية ولا سيما الجمهورية العربية المتحدة ( مصر العربية الآن) سنة ١٩٦٧ للوقوف عن كثب على القضية الفلسطينية ودراستها على الطبيعة، ومن ثم الانتقال الى الكيان الصهيوني، لكن رأيه جاء صادما ومخيبا لآمال العرب، واسهامته البارزة في انتفاضة الطلبة والشباب في شهر أيار ١٩٦٨، ضد الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديكول، التي سرق بريقها منه هربرت ماركيوز بكتابه الذي أمسى إنجيل ثورة الطلبة ( الإنسان ذو البعد الواحد) فضلا عن بانديت، الذي أضحى لولب الثورة.
رجل كان فيلسوف القرن العشرين، وكان حركة فكرية وسياسية دائبة، وسار وراء أفكاره الملايين، كيف خبا تأثيره وتهافت حتى يكاد يتلاشى إن لم يتلاش حقا؟! وما عاد يذكره الآن ذاكر، هل ساهم موقفه السلبي من قضية العرب المركزية في ذلك؟
طه حسين وكتابه (الأيام)
ويحدثنا الأستاذ علي حسين في فصل ممتع آخر من كتابه هذا (في صحبة الكتب) عن الدكتور طه حسين (١٩٧٣) وكيف تعرف إليه؟ يهديه أستاذه في المتوسطة النظامية؛ الفنان التشكيلي الحروفي الباهر؛ شاكر حسن آل سعيد، الجزء الأول من كتاب ( الأيام) لطه حسين وقد رأى شغف تلميذه بالقراءة، يسحره الأسلوب الرائع وتنعقد آصرة ثقافية مع ما كتب طه، واقفا عند زواجه من سوزان التي تعرف بها يوم ذهب للدراسة في جامعة مونبلييه، كانت قارئة له فأمست عينيه اللتين يبصر بهما، معرّجا على الضجة التي أثارها المتعصبون يوم أصدر كتابه الفكري الرائد (في الشعر الجاهلي)، واصفا طه الضجة في حوار أجراه معه أحمد حسن الزيات” ضجة كبيرة لأمر تافه (..) وإني ما كتبت كتابي هذا لمن لا يعرفون مناهج النقد الحديثة والبحث الحر، أن لا يقرأوا كتابا لم يكتب لهم، إن كتابي جدير بما هو جدير به، وقد لا تكون له قيمة إلا في نزاهة بحثه”ص٨٢
في الكتاب هذا، وبيدي الطبعة السادسة منه الصادرة سنة ٢٠٢٠، وطباعة كتاب أكثر من طبعة واحدة في عالمنا العربي، لتعد مفخرة ما بعدها مفخرة، والذي يبدؤه بذكر عشرة كتب حيرته، ومن هذه الكتب التي حيرته، النسبية لأنشتاين، ورأس المال لكارل ماركس، كما يحصي مئة كتاب استمتع بصحبتها، ذاكرا الأيام لطه حسين، وليون الأفريقي لأمين المعلوف، وعودة الروح لتوفيق الحكيم، ورسالة الغفران للمعري، وطوق الحمامة لابن حزم الأندلسي، وثلاثية نجيب محفوظ، وسداسية الأيام الستة لأميل حبيبي، والرجع البعيد لفؤاد التكرلي، والنخلة والجيران لغائب طعمة فرمان، وفي المكان الخطأ لإدوارد سعيد، ومآزق لنين لطارق علي، وديوان السياب، وهذا أو الطوفان لخالد محمد خالد، وقد اقتصرت هنا على ذكر الكتاب العرب، تاركا غيرهم لمن يقرأ الكتاب!
في هذا الكتاب الذي قرأناه- بداية- مُنَجّما على صفحات جريدة ( المدى) وقد قرأت حينها أكثر فصوله؛ إطلالات عميقة على إبداعات كتاب وأدباء وفلاسفة، خلفوا آثارا جمة وشاخصة على مسيرة الفكر الإنساني: وليم فوكنر، وماركس، وهربرت ماركيوز، وميلان كونديرا، واندريه مالرو، ودستويفسكي، وماري- هنري بيل، المعروف بإسم الشهرة؛ ستندال، وفرجينيا وولف، وتوفيق الحكيم، واريك ماريا ريمارك، وسلامة موسى، وهمنكوي، ومارسيل بروست، واريك سيكال، وغوستاف فلوبير، وفرويد، وآينشتاين، ولوي التوسير، وجيمس جويس، وجميلة جميلات العالم مارلين مونرو، التي استهوتها قراءة روايته يوليسيس، ونيتشه، وروسو، وآرسكين كالدويل، وكافكا، وماركيز، تحاور نفسك عن عدد الساعات التي أمضاها علي حسين في صحبة الكتب والأوراق والأحبار وصومعتها، كي ينتج لنا هذا الكتاب، فضلا عن أُخَيّات له أُخَر، ومئات المقالات التي توزعت على صفحات المجلات والصحف، وإذ رأى المفكر ناجي (عباس) التكريتي، دأب زميله أيام الدرس في جامعة كمبردج سنان بن محمد رضا الشبيبي، وانكبابه على الكتب، ان يومه ليس مثل أيام الناس الآخرين، إن يومه خمس وعشرون ساعة، فاني أرى أن هذا الأمر ينطبق على يوم علي حسين أو قد يزيد!