| جابر خليفة جابر : الطريق إلى البصرة ( ذاكرة نصف قرن ) .

الطريق إلى البصرة يأخذ ثلاث مسارات، الأول نسميه في الفاو بالطريق الحَدِر أو الحدّاري ( ومفردة الحَدِر من الانحدار) ويسمى أيضاَ بالدرب السلطاني وهذا الاسم من أيام الدولة العثمانية ولم يزل مستخدماً، ويستخدم الدرب السلطاني أو طريق الحدر للمشاة عادة إذ يمتد مع ضفاف شط العرب من الفاو وحتى أبي الخصيب ثم البصرة، وهو طريق زراعي يمر ببساتين النخيل ويعبر عشرات وربما مئات الأنهار والجداول، والطريق الثاني هو طريق الفوك بلهجة البصريين( الفوك يعني الفوق) وهذا طريق مبلط يربط بين مركز مدينة الفاو وساحة سعد أو ساحة الحرية حالياً، أتذكر هذا الطريق الضيق بمسار واحد وبتبليط قديم يفصل بين مساحات السباخ الممتدة حتى ساحل خور عبدالله وبين بساتين النخيل الممتدة حتى ضفاف شط العرب، وفي الشتاء – سنوات الستينات – يتحول الطريق بفعل الأمطار وطين الحافات إلى مزلق خطير، ومن المعتاد في تلك الأيام أن ترى العديد من السيارات وقد انزلق إطار منها أو إطارين عن الطريق فينزل الركاب لمساعدة السائق في إعادتها إلى الطريق ولذلك كان سائقو باصات الخشب 18 راكب يلفّون إطاراتها بسلاسل حديد لمنع الانزلاق، وهو مشهد لم يعد قائماَ في وقتنا الحاضر وباصات الخشب ذاتها خرجت من الخدمة ولم يعد يوجد منها سوى عدد لا يتجاوز العشرة يعتز بها أصحابها لجماليتها وذكرياتها الطيبة، فقد كانت باص الخشب 18 راكب خاصة بالبصرة فقط وهي سيارات أمريكية من نوع ( شيفروليت أو جي أم سي ) لكن بدن الباص من الخشب صناعة عراقية وتمتاز بجماليتها الخارجية أما داخلها فيتكون من ثلاث ” خانات ” حسب التسمية البصراوية، والخانة مفردة تركية فقد كنا نسمي محطة التعبئة بكاز خانة أو بنزين خانة، والمقهى يسمى شاي خانة والفندق مسافر خانة وهكذا، وكانت خانة الصدر هي الخانة الأمامية وفيها مكان السائق على اليسار طبعاً بالإضافة إلى ركبين على اليمين، وعادة يخصص هذا المكان للرجال وللشخصيات الموقرة منهم ككبار السن أو الشخصيات الاجتماعية، لكن الأغنياء والموسرين من أهل الفاو كانوا يسافرون بالتورن، والتورن هو التاكسي بتسميتنا المعاصرة وكانت التورن تسع خمسة ركاب اثنان في الصدر وثلاثة في الخلف ولم يتح لي يوما أن أحظى بترف صعود التورن فقد كانت الأجرة للراكب الواحد نصف دينار، بينما أجرة باص الخشب ربع دينار وهي تستوعب ثمانية عشر راكباً بالإضافة إلى السائق ومساعده ( ونسميه السِكِن، من السكند الانكليزية وتعني الثاني) ومكان مساعد السائق ” السكند ” على الجاملق ( الجاملق أو المدكر هو الغطاء المعدني المحدب أو المقوس فوق مكان الإطار ) عند باب الخانة الوسطى ويجلس عليه بطريقة تحتاج للياقة والشطارة فيضع قدم في السيارة وقدم خارجها على دكة الباب وذراعه اليمنى تستند على نافذة الباب، ويوجد كذلك مقعد متحرك لراكب صغير في كل من الخانة الوسط والخانة الخلفية..

الخانة الوسطي تتكون من مقعدين طويلين متقابلين كل مقعد يسع أربعة ركاب، وتقابل الركاب بهذا الشكل فيه لمسة اجتماعية لطيفة خلافا لطريقة جلوس الركاب في السيارات الحديثة والطائرات والقطارات، إذ يتيح التقابل مجالاً للتواصل وتبادل الأحاديث خلال الطريق الذي يمتد لأكثر من مائة كيلومتر ويستغرق ثلاث ساعات في ذاك الزمن ( ستينات القرن العشرين ) والخانة الخلفية مماثلة للخانة الوسطى من حيث الشكل وعدد الركاب وتكون من حصة الركاب الذين يأتون متأخرين وتسمى للفكاهة بخانة الشواذي، لأنها تتأثر بالمطبات أكثر من الخانة الوسطى وصدر الباص وبسبب ذلك يرتفع الراكب قليلا ويهبط بسبب قوة المطبات ( الطسّات ) وكثرتها على الطريق فتم تشبيههم بالشواذي، والشاذي باللهجة العراقية هو القرد، وخانة الشواذي تعني خانة القرود ! وهناك المسند خلف الباص أو الدعامية ومعها سلم أحيانا يقف عليها شخص أو أكثر للمسافات غير البعيدة بينما يكون سطح الباص مخصص لحمل الأغراض المتنوعة من حقائب وصناديق وصرر ، وقد أتيح لي أن أسافر بهذه الباص عدة مرات ذهاباً وعودةً، وعلى هذا الطريق سارت بنا الشاحنة (اللوري بلهجة العراق) وهي محملة بنا وبأغراضنا وأثاثنا من الفاو إلى حي الحسين ( الحيانية ) حيث غادرنا الفاو سنة 1972. وما أقساها من سنة علي أنا الفتى ذو الخمسة عشر عاماً، وكأنها انتقالة من الجنة إلى الجحيم، وأني لأشعر بالسعادة الآن لأن مغادرتنا الفاو – والأصح انتزاعي منه – كانت على متن شاحنة وليس بالباص الذي أحب، باص الخشب 18 راكب، وكأنه – الباص – أبى أن تُشوّهَ محبتي له وذكرياتي الجميلة معه بتلك الرحلة الكئيبة القاسية وذكراها الموجعة لقلبي..

ملاحظة : المسار الثالث هو الطريق المائي الطبيعي الأجمل والأقدم أي شط العرب بقواربه وسفنه ..

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| رنا يتيم : إشكاليّة المثقّف والحداثة .

بطيئة كانت عجلة التاريخ فيما يتّصل بالابتكارات، والتحديثات. ثم كانت الثورة الصناعية، بمآزره فكريّة فلسفيّة، …

| حسن العاصي : قياس جديد لمواقف الأوروبيين تجاه الهجرة واندماج المهاجرين .

أصبحت الهجرة جزءًا من حقيقة الحياة اليومية للأوروبيين في دول الاتحاد الأوروبي. يوجد اليوم ما يقرب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *