| يوسف جودت : غلطة ألماني .

كان هناك عامل مخرطة قصير وغليظ يدعى كارل كراكي من مدينة هالة على الزالة (هالي ان در سالي)-ألمانيا, أتى إلى فرنسا في عام 1936 لأن الشرطة السرية النازية (غِستابو)  أبدوا أهتمامهم البالغ فيه. سكن في أحدى الضواحي الفرنسية. لم يعرف أية كلمة في اللغة الفرنسية, إلا عبارة واحدة تعلمها من أصدقائه الودودين عندما كانوا يتشاطرون الخبز الفرنسي الشهي وهي (Front Populaire) والتي تعني (الجبهة الشعبية الفرنسية). كان يعيش بسلام تام مع هؤلاء الناس, وأقتضت عادته بالتردد المتواصل على البلدية بموعد يحدده أصدقائه الألمان حيث يتجاذبون أطراف الحديث وأيضًا يمارسون قراءة الجرائد. بدأت عليه علامات المرض بعد مرور عدة أسابيع من وجوده هنا, ويشتكي من آلام حادة تغزو الجانب الأيمن من بطنه, لذا عندما أخبر أصدقاءه, أعطوه عنوان طبيب جيد متخصص بالأمراض الباطنية, يقدم الأستشارة الطبية بالمجان, واخبروه أن يذهب إليه في يوم الجمعة القادم في تمام الساعة السابعة ولم يحددوا إذا كانت مساء أو صباحا. مما حثوه على الذهاب في الموعد المحدد لأن هذا الطبيب مشغول للغاية, لكي لا يضيع الفرصة عليه.

بحكم شخصيته المنضبطة هو شخص دقيق في مواعيده, لذا لم يكن من المهم أن ينبهوه على هذه النقطة وأيضًا لأن الآلام كانت تكبد له متاعب كثيرة.

أستيقظ مبكرًا في صباح تلك الجمعة, وربط بإحكام أحدى ركبتي قدميه بسروال قديم وشرع بالذهاب إلى العاصمة باريس حاث قدميه نحو الطبيب.

لم يكن يملك  الكثير من المال  لذا فكر بأدخار أجرة السيارة والذهاب للطبيب بالسير على الأقدام, لأن أمامه متسعا من الوقت.

كان حينها شهر نيسان, وكانت السماء ما تزال عاتمة, يسير وحيدًا في الطريق ولم يلتقِ بأي شخص بعد. كان الطريق يطل على حقول مفتوحة وكانت الطرقات حالتها مزرية- مليئة بالحفر, إلا أن الطقس كان هادئا ومعتدل البرودة. كان من وقت لأخر يمر ببيت المزرعة حيث كان هناك كلب ينبح كل مرة عندما يراه. ولعتمة السماء وحلكتها لم يستطع ان يرى شيئا من حوله لا الحقول ولا المزارع. ومع هذا لم يخفِ الأمر هويتهم الفرنسية, أي بلا شك لم يكن ألمانيا.

الحمد لله, كان يسير في الطريق الرئيس, أي لم تسنح له الفرصة حتى أن يختار أي تقاطع يسلك طريقه منه, لكن كانت لديه مشكلة مع العلامات الإرشادية للطريق بخلاف ذلك. كان من جهة أخرى يمكنه أن يسأل المارة بنبرة سؤال, متلفظًا بكلمة “باغي” التي تفي بالغرض ليفهموه قاصدًا أن يأخذوه معهم إلى العاصمة باريس, وهذه التسمية كانوا يطلقوها على ((باريس)) في تلك الأرجاء.

مر على سيره ساعة وفي هذه الأثناء سمع صوت حصان يجلجل وعربة خلفه. تنحى جانبًا ودعها تمر من جانبه. كانت العربة محملة بخضرة الملفوف الكثيرة. لذا سأل بتلك النبرة الصوتية “باغي”؟. فأومئ له الرجل الهرم ولم يأذن له بالركوب معه وشرع في طريقه, لذلك ألقى نظرة ما يقارب 10 أمتار على من حوله متفحصًا إياه, كما لو كان لا يزال يعتزم تقديم دعوة آخرى لشخص آخر ليحمله معه.

مرت عربة أخرى من جانبه تحمل مخضة حليب تقودها امرأة بدينة, أومئ لها ما إذا كان يمكنها أن تحمله معه, إلا أنها لم تتوقف له, لذا فكر قائلًا ((قد تكون لا تثق بالغرباء الذين يتظاهرون بالتعب)). وكان كلما يسير أكثر, كلما كان الآلم يتشتد عليه أكثر.

إن تلك المحاولتين اللتين باتا بالفشل جعلته يتوقف عن تقديم السؤال للناس بحمله معهم في العربة, بالرغم من أن العربات بدأت تتدفق أكثر فأكثر وبأستمرار. بدأن عربات حاملات الخضروات والحليب والفواكة تجتمع في المدينة مع بزوغ الفجر ومن كل حدب وصوب من الريف الخصب.

ما يزال يسير على قدميه وما يزال صوت العربات يتدفق. كان كل مرة عليه أن يتنحى جانبًا, لأن الفلاحين لم يكلفوا أنفسهم عناء التمسك بالجانب الأيمن من الطريق حيث لم يكن هناك أي مركبات بعد تأتي في ذلك الأتجاه المعاكس. كان الجميع نائمين آنذاك , لأن الوقت لم يحن بعد ليذهبوا إلى أشغالهم في ذلك الوقت الباكر.

سار عامل المخرطة على خط سكة القطار على وتيرة واحدة , وعندما كان يصفر القطار يتنحى كارل جانبًا, وحينما كان يمر من جانبه القطار لم يكن يستطع قراءة اللوحات المكتوبة  عليه لأن القطار كان يسير مبتعدًا بسرعة فائقة, ولا يوجد أحتمال بأن القطار قادم من ألمانيا, لأنه كان في جنوب المدينة لذا لا يمر من هناك.

في ما يقارب الساعة الرابعة والنصف صباحًا وقبل أن يضحى النهار, تغيرت صورة المنطقة, أصبحت الحقول كالسرب بعيدة في الخلف, والأن ظهرت الضواحي.

منازل حدائقها صغيرة ومزروعة بأشجار جميلة. شوارعها تحتوي على مقاهٍ مفتوحة من قبل وقت موجودة هنا وهناك, كان النوادل يغلب عليهم النعاس ومريلتهم متسخة وشعرهم يلمعهُ الزيت, يرتبون كراسي خوص على الرصيف, وكان بعض السائقين يحتسون القهوة ومشروب الكويناك على طاولة المقهى.

وعلى بعد مسافة أخرى, كانت هناك مشاتل وبيوت زجاجية وأسوار ومصانع سمنت مغطأة بملصقات  وشعارات البلدية.

قد وصلت العربات المحملة بالمؤنة إلى الأسواق في هذا الوقت, إلا أن بعض ما زالوا يمتطون أحصنتهم. توقف سير السيارات, وقد يكونوا موجدودين في وقتٍ آخر. كانت تلك السيارات بمحرك ذي تصميم يشبه التابوت وكانت مطلية باللون الأزرق.

أزف  وقت الباصات وعرابات الترام المحملة بالعاملين. كان ذلك الرجل القصير والغليظ يسير بخطوات سريعة, يغلب عليه التعب وتشتد عليه الآلام أكثر فأكثر.

بينما كان يمر الآن من أمام تلك المقاهي, كان يرنو إلى الساعات البيضاء التي خلف الحانات على وتيرة اكبر, متفحصًا الوقت لأنه كان عليه أن يصل إلى شارع سانت ميشيل في تمام الساعة السابعة بالضبط.

كان الصباح قد عم في كبد السماء عندما أصبحت الساعة الخامسة وبعد ما يقارب الساعة والنصف ستشهد المدينة بزوغ الشمس. مر بحدود المدينة.

أصبح السير أصعب على الحجر والأسفلت, وقد ظهرت حركة المرور أيضًا. كان العمال يحملون الأواني على الغالب, وكانت نفاثات عربة المياة المائية ترش الماء مما كان البعض يقفزون جراء هذا. كانت المدينة نظيفة ومرتبة بل كان لابد أن تكون هكذا وهذا بسبب الجهد اليومي المبذول في العمل لجني النقود وتوفير المؤن  لتحضير وجبة العشاء والإيجار وأموال مدارس الأطفال وشراء سجائر جلواس.

كل فرد فرنسي يعمل ويناضل ليعيش, التمس عامل المخرطة ذلك الإحساس لأنه مثلهم بالضبط, عمل وناضل ليعيش في بلده الأم, ألمانيا.

كان في الحقيقة وبكل تأكيد ما يزال يناضل ونوعًا ما كان يعمل أيضًا, لكن هل كان يعيش هو الآخر؟, يتساءل, لأنه كان في عداد الموتى والرجل الميت لا يحس بألم في بطنه.

كان سيرهُ نحو شارع سانت ميشيل بمثابة عمل نضالي. كان لديه حلفاء وأصدقاء وهم الذين أعطوه عنوان الطبيب وكان أعضاء الجبهة الشرقية الفرنسية بمثابة داعم قوي له!.

كان السؤال الآن هو ((هل هذا هو الشارع الذي فيه منزل بولفر ساتك ميشيل؟)).

كان المنزل في زقاق رقم 123 حيث كان عالا وضيقا ومميزا. أصبحت الساعة السادسة والنصف صباحًا.

أتى قبل الموعد بنصف ساعة, لذا كان ينبغي عليه أن ينتظر حتى يزف الوقت. توجد حركة  في المنزل تدل على ولوج الحياة به.

جلس كارل مقابل المنزل, ودفعةً واحدة خرج خادم من المنزل وخادمة تضع قبعة على رأسها ورجل بدين ذو وجه أحمر حث خطاه إلى الرصيف ونظر من حوله, وكذلك كان هناك شرطي فرنسي يسير في الشارع. لذا كان عليه أن يجلس في أتجاه آخر حتى لا يبين عليه أنه يحمل نوايا سيئة للمكان الذي يجلس فيه.  لأن رجال الشرطة جميعهم في العالم يفترضون ذلك في تلك الحالات, ولا تتغير هذه النظرة.

دقت عقارب الساعة السابعة.

عبر الشارع وصعد السلالم. لقد ظهر ذلك الخادم ذو الوجه الأحمر الممتلئ الذي يشبه البالونة الذي رآه من قبل في نافذة الرواق. أخرج كارل الورقة التي تحمل أسم الدكتور وأعطاها إلى الخادم كون-سيرش. رد عليه بإيماءات اكثر لم تجدِ نفعًا, وبوضوح تام, أنهى الخادم كلامه باستهجان متقد.

صعد على السلم الذي توجد عليه سجادة حمراء مصنوعة من شجر جوز الهند, كان المنزل أنيقا جدًا, لذا كل هذه علامات تدل على أنه طبيب جيد.

كانت هناك لوحة معدنية عند الباب مكتوب فيها أرقام, وبعدها كل ما عليه فعله ان يدق الجرس. فتحت الخادمة الباب, نبس باسم الطبيب, الذي حفظه إياه من قبل  زميله الفرنسي في العمل و الذي يعيش معه.

هزت رأسها متسئلة بتعجب, متحدثة إليه هي الأخرى بطريقة رائعة بتلك اللغة العجيبة , ومرة أخرى لم توضح الإيماءات أي شيء وتركته في مهب الريح . وما فائدة الإشارة بعصاه إلى الشقة ووضع أصابعه على مكان الألم الذي في بطنه وهو لم يفهمه أحد ؟, لذا لم تفهمه هي الأخرى وببساطة أغلقت الباب .

فهم فقط حركة واحدة من إيماءاتها, عندما أشارت إلى اللوحة المعدنية التي قرأ فيها  من الساعة 5 إلى الساعة 8 والتي كانت بكل تأكيد أوقات الأستشارة الطبية. لكنه كان من المفترض أن يأخذ أستشارة خارج الأوقات المحددة, وهذا بطبيعة الحال لأنه بالمجان!. وعلى أساسه حدد له وقت الأستشارة في الساعة السابعة صباحًا, أي كانت ساعة مخصصة لهُ, لذا كان ينبغي أن يأخذ الأستشارة قبل بدء مواعيد الطبيب المحددة. وكما فهم, فإن الطبيب كان يقوم بأوقات إضافية له, ليتحدث معه حيال ألمه, لأنه سيكون منشغلا بعدها, مثل هؤلاء الأطباء المشغولين, كل دقيقة بالنسبة لهم تعتبر مال وحقهم لأن كل تفاصيل المنزل مكلفة جدًا من سجاد السُلم الغالي إلى الخدم .

نزل عامل المخرطة من على الدرج مر بالكون-سيرش وخرج من باب المنزل ولم يقابل الطبيب لأنه أخطأ بالوقت وهذا نهاية الأمر ولم يوجد شيء آخر ليفعله. وفي هذه الحالة يجب أن يحدد موعدا آخر سواء قبل أو بعد أوقات الطبيب الأستشارية. ينبغي أن يناقش خطوته التالية قبل الشروع بها.

جلس كارل على عمود حجري في مكان مناسب جانب الحائط, واخرج الطعام الذي قدم له في ذلك المنزل وأكل منهُ فقط خبز الدقيق الأبيض.

وبعدها بدأ بحث خطاه نحو الضواحي, ومن المفترض أن يصل إلى سكنهِ مساءً.

عندما سأل ذلك الطبيب الفرنسي الودود المتعاون لِمَ لم يحضر ذلك المريض الذي أتى قبل عدة أيام, أخبروه قائلين (( بأن الرجل الألماني جانبهُ الصواب حينما أفترض بأن الساعة السابعة تعني الساعة السابعة صباحًا وليس وقتً آخر, نظًرا, لانه لم يتوقع أبدًا الحصول على علاج بالمجان في ساعات الأستشارة, وعندما سمع الطبيب هذا الكلام, أخذته الصدمة)). 

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| مها عادل العزي : قبل ان تبرد القهوة .

-الخامسة فجرا بتوقيت مكان قصي خلف البحار والمحيطات- اشعر بانهاك شديد.. او انها الحمى تداهمني …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| د. زهير ياسين شليبه : المهاجر .

كان علىَّ اليوم أن أرى فيلم المهاجر! اتصلتْ بي شريكة حياتي، أو “نصفي الأفضل” كما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *