إشارة : عندما أشدنا بالدراسة الأولى التي نشرناها في الموقع لباحث “حيدر علي سلامة” فقد كنا نشير في الواقع إلى طاقة بحثية ممتازة وثرية.. وهذا ما تؤكده هذه الدراسة المتفردة عن العلامة الراحل (علي الوردي) رحمه الله .. فتحية لحيدر.
قد يتبادر إلى أذهان البعض أن الخوض في الكتابة عن العلاّمة الراحل الدكتور علي الوردي، ربما سوف لن تأتي بأي جديد يُذكر، وذلك يعود لكثرة ما يُكتب ويُنشر ويُتداول عن الفكر الوردي ليس في الأوساط الأكاديمية فحسب بل حتى في الأوساط الثقافية والصحفية. فمن المعروف أن اغلب ما كُتب ومازال يُكتب قد تناول بالدراسة والشرح والنقد الكثير من المفاهيم التي طرحها الوردي، كمفاهيم جدل البداوة والحضارة وازدواجية الشخصية العراقية ومواضيع ثقافية واجتماعية أخرى. كانت تلك الثيمات الثقافية مثار نقد وجدل، تراوح بين مؤيد ومعارض. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل كاد أن يكون فكر الوردي السبب الرئيس والمباشر لظهور انشقاقات واختلافات في مدارس العلوم الاجتماعية في العراق، وانسحبت الكثير من تلك الاختلافات بين صفوف المثقفين، الذين وللأسف الشديد ،ذهبوا مع موجة اختلافاتهم الشخصية حول تلك المفاهيم الوردية، فابتعدوا بذلك عن جوهر الإشكاليات الثقافية التي رسخّها العلاّمة في جميع مؤلفاته. لذا اتسمت الكثير من تلك الآراء- التي لم تجعل من العلوم الإنسانية المعاصرة والدراسات الأدبية والثورات الابستمولوجية الحاصلة في مجالات فلسفات العلوم والدراسات الثقافية أسس تمكنها من إعادة اكتشاف النص الوردي كي يكون معاصرا لاشكالياتنا الثقافية الراهنة – بروح السجالات والردود السريعة والانفعالية أحيانا، عوضا عن انشغالهم في تأسيس ورش عمل ثقافية وأدبية ولغوية تعمل على إنتاج قراءات مغايرة للنص الوردي وتأويله بوصفه نص أدبي قبل ان يكون نص اجتماعي أو انثربولوجي، كيف لا وهو نص يتوفر على لغة أدبية ونقدية تمثل في ذاتها مادة للبحث الأدبي واللغوي والسيكولوجي بل حتى الفلسفي، ناهيك عن الاشكاليات المطروحة في ذلك النص الذي يحتوي على قضايا ابستمولوجية تتأسس على منطق القطائع المعرفية وفلسفات العلوم المعاصرة والابستمولوجية التاريخية. وهذا هو بالتحديد ما سنعمل عليه في محاولتنا هذه، الرامية إلى الخوض في تجاويف المتون الوردية، لاستنطاقها من جديد كشاهد معاصر على تردي خطابنا الثقافي الراهن الذي لم ينتج حتى هذه اللحظة نص ثقافي ثري بعلاماته واستفهاماته كنص الوردي.
الوردي: طبيب أمراض الفلسفة العراقية المزمنة
سترتسم بعض علامات التعجب والدهشة على ملامح من سيقرأ العنوان المقترح أعلاه، وذلك لأننا اعتدنا على قراءة الوردي ضمن نسق معين ضيق وهو حقل العلوم الاجتماعية التي كان العلاّمة مختص به. لكن في الحقيقة، ان ما قدمه الوردي لم يكن مجرد ميراث اجتماعي أو سياسي أو حتى ديني، بل انه أنتج خطاب ثقافي ابستمولوجي يتحرك بمرونة معرفية وهرمونية ثقافية، قلما نجد لها نظيرا في كتاباتنا الأكاديمية الأخرى. بمعنى أخر، ان الوردي انطلق من اختصاصه الاجتماعي متجها نحو الحقول المعرفية المختلفة سواء أشار إلى ذلك أم لم يشر. واللافت أن العلاّمة كان منهمكا في تأسيس خطاب القطائع الابستمولوجية مع كل حقل معرفي يتجه نحوه، سواء كان في العلوم الاجتماعية أو حتى في الفلسفة والعلوم اللغوية. ففي كل حقل معرفي نجده مؤسسا لمنطق القطائع الابستمولوجية والتاريخية بين العلوم أولا؛ وبين الموروث الأيديولوجي الثقافي ثانيا؛ وبين السلطة الشمولية ثالثا. فكيف كانت طبيعة العلاقة بين الوردي والفلسفة؟ وهل كان الوردي فعلا طبيبا لأمراض الفلسفة المزمنة في تاريخ الفلسفة العراقية؟ وما العلاج الذي سيشخصه لتلك الأمراض؟ ومن أين سيبدأ، هل سينطلق من الفلسفة في ذاتها أم من المنطق الذي يمثل سور الفلسفة الحصين لأولئك المتحزبين والمؤدلِجين لخطابها الأكاديمي؟
في العلاقة الأيديولوجية بين الابستمولوجيا والفلسفة في النص الوردي
دشن الوردي من خلال كتابه (منطق ابن خلدون)، خطاب الفصل بين الموروث الفلسفي والممارسة الأيديولوجية للفلسفة -على الرغم من انه قد تناول تلك القضايا في مؤلفاته السابقة- من خلال النقد الابستمولوجي الذي وجهه العلاّمة لصخرة المنطق الميتافيزيقي والسلطوي في خطاب الفلسفة والثقافة العربية الإسلامية، لاسيما نقده لأهم فلاسفتها ومفكريها في حقول السياسة والفقه والتاريخ والخطاب الإسلامي. وعند تتبعنا لتاريخ العلاقة بين الفلسفة والابستمولوجيا نجد انه تاريخ حافل بالصراع بين كل منهما، فلطالما حاولت الفلسفة ان تتكئ على الابستمولوجيا العلمية لتجعل من نفسها خطابا علميا. بمعنى انه كان هناك وعلى مدار التاريخ جدل محتدم بين المعرفة العلمية التي تحاول ان تتخلص من موروثها الأيديولوجي والاستغلالي والاستعلائي أحيانا، وبين المعرفة الفلسفية التي تتحرك على ضوء ذلك الموروث الأيديولوجي(1).
من هنا تتضح أعراض احد أهم الأمراض المزمنة في حقل العلوم الاجتماعية والفلسفية العراقية التي شخصها الوردي. فلا يمكن لاي من هذين الخطابين أن يشتغل في حقله المعرفي، بمعزل عن “التشكيلات الأيديولوجية” السابقة على الممارسة العلمية والرؤية النقدية أو المنهجية. الأمر الذي أدى إلى الاستمرار في إنتاج صور جديدة من أشكال الهيمنة في مجال الفلسفة والعلوم الاجتماعية، وهذه الصور بدورها شكلت ما يمكننا ان نطلق عليه “بالعوائق المعرفية” التي تحول دون تطور العلوم وفلسفات العلوم، كما هو الحال في طبيعة الصراعات التي واجهها العلاّمة في مختلف الحقول العلمية، لأنه حاول ان يسائل تلك التشكيلات الأيديولوجية المعشعشة في أحضان معارفنا الأكاديمية، مما أثار حفيظة مهنّي التجرد والادلجة على حد تعبير مكسيم رودنسون، الذين وجدوا في ذلك النموذج الابستمولوجي الجديد ما يهدد نماذجهم القديمة ليس في مجال العلوم الاجتماعية فحسب بل في كافة الاختصاصات العلمية الأخرى سواء كان في اللغة العربية والتاريخ الإسلامي وعلوم الأديان والعلوم النفسية، تلك العلوم التي كانت إبان فترة الوردي أشبه بالهياكل الأيديولوجية التي كانت تعيد إنتاج التصورات الذهنية بطريقة مستسلمة لخدمة الأنظمة الشمولية في كل عصر وزمان. وقد أشار التوسير بطريقة بارعة وذكية إلى طبيعة تلك الصراعات لاسيما في مجال الفلسفة في مقاله المعنون (تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم) :((ان ما يميز تاريخ الفلسفة ويجعله فريدا من نوعه هو ان كل فلسفة جديدة عندما “تطغى” على الفلسفة العتيقة لتحتل مركز”السيادة ” خلال صراع طويل شديد، لا تقضي على هاته الفلسفة العتيقة التي تستمر في الوجود دون ان تبرز وتعيش الى ما لانهاية له.وهي غالبا ما تناط بدور ثانوي، ولكن الملابسات قد تدعوها لتتبوأ مركز الصدارة في بعض الأحيان. وإذا كان الأمر كذلك، فذلك لان تاريخ الفلسفة “ينهج” نهجا مخالفا لتاريخ العلوم، فنحن نلحظ دوما في تاريخ العلوم عملية مزدوجة: نبذا للأخطاء “التي تختفي كلية” وتقييدا للمعارف والعناصر النظرية السابقة في سياق المعارف الجديدة المكتسبة والنظريات المنشأة. ومجمل القول فإننا نلاحظ “جدلا” مزدوجا: تنحية كلية “للأخطاء” وإدماجها للنتائج السابقة التي تظل صالحة ولكنها تعرف تعديلا داخل النسق النظري للمكتسبات الجديدة.أما تاريخ الفلسفة فينهج نهجا مغايرا: انه يتم عن طريق الصراع من اجل سيادة أشكال فلسفية جديدة على الأشكال القديمة التي كانت سائدة فيما قبل. ان تاريخ الفلسفة هو صراع بين نزعات تتجسد في تشكيلات فلسفية، وان ذلك الصراع يكون دوما من اجل السيادة، والمفارقة القائمة هنا هو ان هذا الصراع لا يتمكن الا من إحلال سيادة مكان أخرى. ولا يستطيع القضاء النهائي على تشكيلة سابقة “كما لو كانت تشكيلة خاطئة. وذلك لأنه لا وجود لأخطاء في الفلسفة بالمعنى الذي نستخدم فيه هذا اللفظ فيما يتعلق بالعلوم” اي على الخصم، فالخصم هنا لايقهر قهرا نهائيا ولا يقضي عليه قضاء مبرما، ولا يمحى من الوجود التاريخي، انه يكون فحسب خاضعا للسيطرة، وهو يظل تحت سيادة التشكيلة الفلسفية الجديدة التي خلعته من منصبه بعد معركة طويلة. انه يستمر في الوجود كتشكيلة فلسفية مقهورة. ولكنها تشكيلة قادرة، بالطبع على ان تنهض من جديد بمجرد ما تتيح لها الظروف الفرصة وتعطيها إشارة النهوض))(2).
وصف النص أعلاه وبشكل دقيق ما يحصل ليس في حقل الفكر الفلسفي فحسب بل في كافة دوائر العلوم الإنسانية في المؤسسة الأكاديمية العراقية، لكنه اقترب في وصفه الى الفلسفة لانه تناول إشكالية خطيرة تمتد في جذورها إلى أقصى دهاليز الحقل الفلسفي الذي لا يزال يجري التحكم به عن بُعد وذلك بواسطة البردايمات الفلسفية المقهورة والمعزولة عن مناصبها ووظائفها. والانكى من كل ذلك اننا نجد أصحاب التشكيلات الفلسفية المؤدلجة هم الذين يرسمون سير العملية الفلسفية، بل هم من يدعمون براعمهم الأيديولوجية الصغيرة، تلك البراعم التي كبرت وآن لها ان تعيد سلطة الاباء الأولين الذين وضعوا خارطة الطريق للفلسفة الموصِلة دوما الى تشكيلاتهم الأيديولوجية وفلسفاتهم الشمولية.
من هنا نرى كيف ان استعمال فلسفات العلوم وتوظيف مفاهيم الابستمولوجيا يوصلنا إلى نتائج موضوعية في قراءة النص الفلسفي، وينسحب ذلك على نص العلاّمة الذي لطالما حاول ان يُخلص العلوم الاجتماعية من النزعة الاعتباطية والرؤية الأيديولوجية الضيقة التي هي تمثل مجموعة من العوائق المعرفية تَحول دون تطور العلوم الإنسانية لتغدو ممارسة علمية. ذلك يعني ان مشروع الوردي كان بمثابة خطوة نحو إعادة بناء منظومة العلوم الإنسانية آنذاك، وهنا تكمن الفرادة الابستمولوجية لظهور المشروع الثقافي الوردي وسط ركام الخطابات المعرفية المؤدلجة، حيث: ((تتناسب الأفعال الابستمولوجية مع هزات متقطعة من العبقرية العلمية تعطي دفعات غير متوقعة لمجرى التطور العلمي))(3).
ينطلق الوردي من نقد منظومة النماذج الفلسفية والمنطقية في الفلسفة اليونانية التي كانت مهيمنة على مدار تاريخ تطور الفكر الفلسفي الإسلامي، وتركت ظلالها على تطور العلوم الاجتماعية بالضرورة. فسعى جاهدا الى تقويض جميع الفلسفات الأفلاطونية والأرسطية التي يعتبرها جزء لا ينفصل عن التشكيلات الأيديولوجية السابقة على ولادة تشكيل الخطاب الابستمولوجي للعلوم الإنسانية. لذا كان العلاّمة يُعلي من شأن الفلسفات النسبية التي تقف على طرفي نقيض من المنطق الأرسطي العقلاني والفلسفة الأفلاطونية المثالية، وربما اهم تلك الفلسفات هي الفلسفات الشكية والسوفسطائية النسبية والفلسفات الايدونية التي تدعو جميعها إلى النسبية الأخلاقية كبديل عن الأخلاق الميتافيزيقية المنفصلة عن النسبية التاريخية. فعمليات تهميش وتسييس تلك الفلسفات التاريخية مثلت جينالوجيا ظهور أمراض الفلسفة العراقية: ((ان المجتمع عبارة عن منظومة متفاعلة من العلاقات والمصالح، وهو في صيرورة دائمة وتغير مستمر. وهو اذن لا ينطبق عليه ما يؤمن به المنطق القديم من حقيقة مطلقة لا تتغير. يقول الأستاذ شيلر في وصف ذلك المنطق: ان الحقيقة في ضوء هذا المنطق واحدة، والآراء إذن يجب ان تكون فيها متفقة. فأنت أما ان تكون مع تلك الحقيقة او ضدها. فإذا كنت ضدها فأنت هالك. اما اذا كنت مع الحقيقة فليس لأحد ان يجرأ على مناقضتك او الاعتراض عليك. انك محق اذا غضبت على اولئك الذين يجادلونك في الحقيقة. الحقيقة حقيقتك، او هي بالأحرى انت اذا جرّدت نفسك من مشاعرك البشرية. ان هذا هو الذي جعل اصحاب المنطق القديم لا يرضون عن راي غير رأيهم، ويغضبون من الاعتراض عليهم، فالحقيقة قد تمثلت في أذهانهم كاملة، وهي اذن ملكهم لا يجوز ان ينازعهم فيها احد. انهم لا يعترفون بأن لغيرهم الحق في امتلاك الحقيقة مثلهم. انهم يتصورون ان الحقيقة ما دامت مطلقة فلابد ان تكون في جانب واحد، هو جانبهم طبعا، اما غيرهم فلابد ان يكون مبطلا كل البطلان. يذهب بعض علماء الاجتماع الى القول بأن المنطق القديم انما كان على هذا النمط من التفكير لانه نشأ في بادئ امره على يد فلاسفة الاغريق وطبع بطابعهم، فهولاء الفلاسفة كانوا في الغالب من طبقة الاسياد اصحاب العبيد. ويصدق هذا بوجه خاص على افلاطون وتلميذه ارسطو الذي تم على يده وضع المنطق. فكانو اذن أناسا لا يفهمون وقائع الدنيا كما يفهمها العبيد والعمال واصحاب المهن المختلفة. انهم لم يعانوا من مشاكل الحياة ما يجعلهم يفكرون فيها تفكيرا واقعيا. فهم اذا احتاجوا الى شئ امروا عبيدهم بصنعه او احضاره، فلا يعرفون ماذا عانى العبيد في ذلك وكيف عملوا. انهم يجدون الشئ في النهاية كاملا بين ايديهم، وربما غضبوا اذا رأوه على غير الصورة الكاملة التي تصوّروها. وهذا مما جعل تفكيرهم محصورا في الامور كما هي في نهايتها الثابتة. ومن هنا رأينا الحقيقة عندهم لها كيانها القائم بذاته، فهي منفصلة عن شبكة الحياة ومن الممكن حصر النظر فيها دون اهتمام بما حولها من علاقات وعوامل مترابطة. لقد كان فلاسفة الاغريق يعيشون في معزل عن الحياة، يحيط بهم تلاميذهم يحاورونهم في الحقائق المطلقة، اما حقائق الحياة الواقعية فكانوا يستنكفون عن النظر فيها اذ هي في رأيهم تحط من منزلتهم العالية. انها من شأن العبيد والعمال الكادحين. اما الفلاسفة فيجب ان يرتفعوا بتفكيرهم عن مستوى تلك “الطبقة المحتقرة”))(4).
ان النص الوردي السابق يطرح العديد من الاشكاليات، ربما أهمها صعود المركزية الذهنية الشمولية التي هي وريثة المركزية المنطقية الارسطوافلاطونية، حيث نلحظ ان الخطاب الفلسفي العراقي ومنذ إرهاصاته الأولى بقي منشغلا بالطروحات المنطقية والرياضية الى جانب الطروحات الميتافيزيقية، تلك التي أفرزت مرحلة أستذة بيروقراطية لم تأخذ على عاتقها مَهمة اعادة النظر في الموروث الفلسفي المنحدر إلينا عن الفكر الأوروبي، اي انها عزلت الفلسفة بطريقة ما او بأخرى داخل قضبان المؤسسة الأكاديمية المنصاعة الى أوامر المؤسسة السياسية آنذاك وحتى يومنا هذا. أدى ذلك إلى خلق فجوات ومسافات ضوئية بين النص الفلسفي والواقع الخارجي والثقافة التاريخية التي تحكم العملية الفلسفية، لذا بقي النص الفلسفي في الثقافة العراقية مهموم بإشكاليات فلسفية ونظريات ميتافيزيقية هي في النهاية سليلة ثقافة غربية وإشكاليات أجنبية، لا تمثل جوهر اشكالياته التاريخية.
من هنا جاء افتقارنا الى خطابات فلسفية إشكالية تتعامل مع جميع الفلسفات الغربية بعين الواقع الراهن الممتلئ بالمآسي اليومية كالخطاب الثقافي الذي عمل الوردي على التأسيس له في اغلب مؤلفاته الفكرية والاجتماعية، والذي لامس عن طريقه الجرح الفلسفي الذي لا زال ينزف بأمراضه المزمنة، لاسيما تشخّيصه لأهم مشكلة واجهتها الفلسفة العراقية والتي لا تزال قائمة الى يومنا هذا، عندما أشار إلى ان الإشكالية تتجاوز الإيمان بالمنطق الأرسطي بكثير، لان الامر في الحقيقة يتعلق في تشكيل طبقات ثقافية نخبوية ليست لها علاقة بالخارج الثقافي بكافة ترسباته الأيديولوجية وممارساته اللغوية وحياته اليومية. بمعنى ان اللوغوس الأرسطي تحول الى لوغوس شمولي وسلطوي، يخدم الطبقات المسيطرة المهيمنة على المؤسسة الأكاديمية والمؤسسة الثقافية على حد سواء، فترى تلك الطبقات اشد عداوة واحتقارا لكل ما هو جديد ونقدي قد يقوض سلطتهم الذهنية التي هي في النهاية سلطة منطقية او سلطة فلسفية مؤدلجة لا تخدم الا مصالحها الخاصة ومصالح من ينتسب إلى طبقتها المباركة. فعندما وصف الوردي تلك المرحلة الفلسفية المتسمة بسيطرة النموذج الارسطوطاليسي كبردايم فلسفي مطلق، لم يكن يعني بذلك الإشارة الى إشكالية فلسفية فحسب، بل أراد أن يعري تلك الأنظمة والسساتيم التي تعمل مع السلطة على طرح نموذج ثقافي مطلق تخضع له كل أشكال الممارسات المعرفية الأخرى، وكأن العلاّمة هنا يشير الى خطاب مؤسساتنا الأكاديمية عامة والفلسفية خاصة التي لطالما عملت على سيطرة نموذج معرفي واحدي ومطلق من اجل إقصاء ومصادرة كل رأي نقدي او ثقافة ابستمولوجية راديكالية تهدف إلى إحداث قطيعة ابستمولوجية مع الموروث الأكاديمي المؤدلَج.
في القطيعة الابستمولوجية للخطاب السوفسطائي مع التشكيلة الفلسفية الارسطوافلاطونية
بحث العلاّمة في المرحلة الفلسفية للمدرسة السوفسطائية بوصفها واحدة من المدارس الفلسفية التي عملت على تدشين خطاب فلسفي مغاير للخطاب الفلسفي الشمولي المتمثل بالسلطة الميتافيزيقية الارسطوافلاطونية. فمع تلك المدارس، تَشكل خطاب فلسفي جديد مجرد عن الممارسات الذهنية المتعالية او القبلية، وخال من المفردات الميتافيزيقية كالجوهر؛الهيولى؛ العقل الفعال؛ مشكلة النفس والجسد ومشكلة وجود الله …الخ. وذلك يعود الى انشغال تلك المدارس بكل ما أهملته وغلّفته ونسته الفلسفة الارسطوافلاطونية، خاصة مسألة النسبية التاريخية في السياقات الثقافية والأخلاقية. لذا فمع تلك المدارس دُشِن خطاب قيمي نسبي يبدأ من الإنسان وينتهي به.
مثلت تلك الطروحات ثورة معرفية في تاريخ الفلسفة عامة والفلسفة العراقية، سيما وأنها تتعارض مع خطاب السلطة الشمولية والمؤسسة الأكاديمية الذي لا يعترف بكل ما هو نسبي تاريخي؛ متغير متحول، لان ذلك يخالف بالضرورة أيديولوجيتها الميتافيزيقية في التدريس والتدليس للسلطة. ومن اللافت انه من الصعوبة بمكان ان تجد رسائل جامعية في أقسام الفلسفة قد تناولت المدارس السوفسطائية والابيقورية والشكية والايدونية، فهذا تقليد استمر في الفلسفة منذ تأسيسها والى يومنا هذا، أصدفة حصل تهميش تلك المدارس الفلسفية؟ ام ان ذلك جزء من لعبة سياسية وأكاديمية؟ خاصة وان السياسة تخشى التغيير بل تعمل دوما على محاربة كل فكر يبشر بذلك، وإلا فبماذا نفسر محاربة ومطاردة فكر الوردي إبان سيطرة النظام الشمولي؟ ومن المفارقات الفلسفية عندنا ان تلك المدارس النسبية وحتى الفلسفات الوضعية والمادية والماركسية لم تلقى العناية والاهتمام الكافي من قبل بعض أساتذة الفلسفة، فعندما كانوا يدرسونا تاريخ الفلسفة اليونانية تجدهم يصبون جُلّ اهتمامهم وتركيزهم على الفلسفات الشمولية كالأفلاطونية والأرسطية والسقراطية، فتحول ذلك الاسلوب البيداغوجي في تدريس الفلسفة إلى مناهج في البحث والكتابة لاغلب الرسائل الجامعية التي لازالت تتحرك بنموذج المنطق الارسطي باختلاف المواضيع الفلسفية والمدارس الفلسفية التي تتناولها، فنلحظ حرص طلاب االفلسفة اليوم على التخصص في فلسفات مابعد الحداثة ومابعد التفكيكية، ونراهم اقرب الى الشخصيات الغربية التي تحولت إلى موضة في أقسام الفلسفة عندنا مثل “هوليودية” ميشيل فوكو؛ و”نجومية” دولوز؛ و”استعراضية” الانظمة المعلوماتية وفلسفات موت الإنسان، ناهيك عن “اهازيج” المجتمع المدني والفلسفة…الخ، وابعد عن اشكالياتهم الثقافية ومصائبهم المنهجية وخرائبهم الذهنية، حيث تبدأ اغلب الرسائل الجامعية بما هو مؤكد سلفا وليس إشكالي راهن، وبالتالي تنتفي الرؤية التاريخية والنقدية لممارسة الفلسفة.
بعد كل ذلك، علينا ان لا نصاب بالدهشة والسكتة الثقافية عندما نرى ان الذي شخّص لنا تاريخ أمراض الفلسفة المزمنة هو عالم اجتماع وليس جزء من المؤسسة الفلسفية او من تشكيلاتها الأيديولوجية. فأي درس فلسفي كبير ذلك الذي نستخلصه من كتب ورؤية الوردي للفكر والفلسفة والثقافة، حينما جعل من السوفسطائية المرحلة الثانية التي تلي الارسطية لأنه يرى فيها الفلسفة المقبلة التي هي مقدمة لكل فلسفة ممكنة في نقد الأنظمة القبلية السابقة على كل الفلسفات التاريخيةن وهي الفلسفة الأقرب الى عَصَب انطولوجيا الوجود اليومي وإشكاليات الحياة اليومية، يقول الوردي واصفا تلك الفلسفات: ((لقد ظهر تجاه هؤلاء الفلاسفة مفكرون آخرون كانوا اقرب الى منطق الحياة الواقعية منهم، وهم الذين اشتهروا في تاريخ الفلسفة باسم السفسطائيين، فكان من رأيهم ان ليس في الدنيا حقائق مطلقة، انما هي حقائق نسبية، فما يراه بعض الناس حقا قد يراه البعض الاخر باطلا، والإنسان اذن هو مقياس الحقيقة في نظرهم. لقد كان المتوقع ان يتطور الفكر الاجتماعي على يد هؤلاء الى غير ما تطور إليه على يد الفلاسفة، ولكنهم مع الاسف اخفقوا في معركتهم، وانتصر الفلاسفة عليهم انتصارا ساحقا حتى اصبح اسم السفسطة في النهاية لقبا يراد به الذم ويقصد به المغالطة والتفكير الملتوي. يبدوان الفلاسفة تمكنوا من هذا الانتصار الساحق على السفسطة لانهم كانوا سادة من اصحاب النفوذ والمنزلة العالية في المجتمع، بينما كان السفسطائيون معلمين غرباء يحصلون على قوتهم عن طريق التعليم. وظل النصر في يد الفلسفة على توالي القرون التالية، اذ هي بقيت من اختصاص الاسياد من الناس في الامم المختلفة، وكأنها اصبحت ترفا فكريا لا يليق بغير الاسياد ان يشتغلوا به، فاذا اتيح لانسان من سواد الناس ان يدرس الفلسفة فهو لابد ان ينظر فيها بمنظار الاسياد، لاسيما وهو مضطر ان يعيش في كنفهم ويأكل من فضلات موائدهم. ان هذا كان من الاسباب التي جعلت التفكير الاجتماعي الواقعي نادرا في تراث الفلسفة القديمة. فقد كانت الفلسفة القديمة مشغولة عنه بما وراء المجتمع والحياة من افكار مطلقة. واذا تنازل احد الفلاسفة فنظر في امور المجتمع، اخذ ينحو في ذلك منحى طوبائيا وعظيا، اي انه ينظر في “ما يجب ان يكون” لا في “ما هو كائن فعلا”، كما فعل افلاطون في جمهوريته، اوالفارابي في مدينته الفاضلة))(5).
يتضح من قراءة النص أعلاه، كم كان العلاّمة مهموم في إشكاليات الحياة العامة للناس البسطاء الذين يصفهم بما هو كائن وليس بما ينبغي ان يكون على طريقة الفلاسفة المترفعة عن ملامسة المعاناة اليومية التي لا تعنيهم بشيء. واللافت في نص الوردي استعماله لمفردة “فلاسفة” مع أفلاطون وأرسطو ومفردة “مفكرون” مع المدرسة السوفسطائية، على الرغم من ان كتب تاريخ الفلسفة تصفهم كمدرسة فلسفية في تاريخ الفلسفة اليونانية، فلماذا لجأ إلى ذلك الاستعمال دون غيره؟ هل كان ينوي تبديل الفكر الميتافيزيقي بالفكر البراكسيسي على طريقة الفيلسوف غرامشي؟
كانت للوردي مواقف لم تخل من الدهشة المعرفية وصفت لنا طبيعة تفكير أبناء عصره آنذاك، وكيف كانوا يقدسون المنطق الصوري والسكوني والشمولي الذي يرفع من شان الردود المنطقية والخصومات الكلامية المجردة…الخ. فهؤلاء الذين كانوا يمثلون ثقافة العراق، لم يعيروا ادنى اهتمام بإشكاليات الناس وحياتهم المريرة ووجودهم المسحوق تحت أقدام الأنظمة الشمولية، بقدر انشغالهم في الرد على كتب العلاّمة. في احد تلك المواقف، يكتب الوردي في رده على احد نقاده الذي وصمه بالانتماء إلى المدرسة السوفسطائية، على اعتبار ان السوفسطائية شيء معيب بالنسبة للكاتب والمثقف والأكاديمي المتزن: ((كتب الأستاذ مرتضى العسكري كتابا اسماه “مع الدكتور علي الوردي” حاول فيه ان يفند ما جاء في كتاب “وعاظ السلاطين” وكتاب “خوارق اللاشعور” الذي صدر قبله. وقد امتاز هذا الكاتب عن غيره من الناقدين باهتمامه بالناحية المنطقية، حيث اخذ يدافع بحرارة عن منطق ارسطوطاليس ويهاجم منطق السفسطة بلا هوادة. واتهمني الاستاذ العسكري بأني اميل الى السفسطة وادعوا لها وأدافع عنها. ولعله ظن اني سأمتعض من هذه التهمة او احاول ان ابرئ نفسي منها. وما دري اني افتخر ان اكون “سوفسطائيا” وعندي ان هذه السفسطة خير من هذه الخزعبلات المنطقية التي يتمشدق بها اصحاب المنطق القديم. من محاسن السفسطة انها غير متأفقة. فهي تؤمن بالحقيقة النسبية قولا وفعلا. اما اصحاب المنطق القديم فهم يؤمنون بالحقيقة المطلقة نظريا ويخالفوها عمليا، …،فكل فريق منهم يدافع عن الحقيقة التي يشتهيها ثم يدعي بعد ذلك انه من طلاب الحقيقة الخالدة التي تصلح في كل زمان ومكان))(6).
ويتابع الوردي شرح الانجازات الثقافية التي حققتها السوفسطائية قائلا: ((ومن المبادئ السوفسطائية المعروفة قولهم: “الانسان مقياس كل شئ”. واستطاع السوفسطائيون بهذا المبدأ ان يخدموا الفكر البشري خدمة كبرى. يقول البروفسور زيلر: ان الخدمة الدائمة التي قدمها السوفسطائيون للفلسفة هي انهم وجهوا الانظار نحو دراسة الانسان ووضعوا الاساس للتربية النظامية. وذهب السوفسطائيون الى ان الحقيقة هي تناقض ونزاع. فكل انسان يرى الحقيقة حسبما تقتضيه مصالحه وشهواته، وبتنازع هذه الحقائق الفردية تنبعث الحقيقة الوسطى التي تنفع النوع الانساني بوجه عام. ولو ان القدماء فهموا هذه النظرية السوفسطائية حق فهمها واعطوها ما تستحق من عناية لاختفى جزء كبير من الظلم الذي كان يعج به التاريخ القديم. والملاحظ ان طغاة الزمان القديم كانوا أُولي عقلية افلاطونية من حيث لا يشعرون او يشعرون. فقد كانوا يقيسون العدل بمقياس ما يشتهون ثم يظنون ان مقياسهم هذا خالد مطلق لا يتجادل فيه اثنان. وبهذا وجدناهم يظلمون الناس من حيث يظنون انهم عادلون، فاذا اعترض عليهم احد صاحوا “يا جلاد خذ عنق هذا الزنديق” وعند هذا يذهب الزنديق الى جهنم لعنة الله عليه))(7).
من هنا يتضح ان الوردي حاول وضع أسس أولية لفلسفة عراقية مقترحة تكون بديلا لجميع التشكيلات الفلسفية ذات الإرث الشمولي والأيديولوجي، حيث يبدو جليا انه عمل على إبراز تلك العلاقة الخطيرة بين الفلسفة الأفلاطونية وصناعة الطغاة في التاريخ. فهل كانت مصادفة تاريخية إذن تلك التي جعلت شيخ الأساتذة في قسم الفلسفة وهو من الرعيل الأول الذي عمل على تأسيس الأكاديمية الفلسفية العراقية، ان يختار موضوع أطروحته الجامعية “الفلسفة الأفلاطونية عند مفكري الإسلام” لنيل درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كامبردج، لاسيما وان ذلك الأستاذ، وهو سليل احد التشكيلات الشمولية والعشائرية الممتدة إلى نفس أصول النظام الشمولي الحاكم آنذاك، كان يمثل مؤسسة من الرعب القائمة بذاتها، فما ان يحضر الى قسم الفلسفة حتى تنقطع أنفاسنا ونتلو الشهادتين على أرواحنا وعقولنا. ترى أي دافع شعوري او لاشعوري ذلك الذي دفع ذلك الأستاذ الممتلئ بالفكر الشمولي والأصول الاستبدادية نحو اختيار الفلسفة الأفلاطونية؟ ولماذا لم يختص في الفلسفات النسبية كالسوفسطائية والابيقورية وما شابه؟ ولماذا لا نجد له أبحاث ودراسات تتناول تلك المدارس الفلسفية؟ والغريب ان ذلك الأستاذ كان لا يتعب من ترديد تلك المقولة على اسماعنا مع بداية كل درس من دروس “جدول الصَلب الفلسفي” ومفادها: “تذكروا ان الفلسفة هي أفلاطون وان أفلاطون هو الفلسفة وان جميع الفلسفات الأخرى ما هي إلا شذرات صغيرة خرجت من جبة أفلاطون”. على شاكلة تلك الطريقة الاستبدادية كنا نتعلم حب الحكمة، فأي حكمة تلك التي نتعلمها من أمثال أولئك الشموليين، الذين كانوا يسحقوننا بتاريخ الفلسفة ويقصوننا في كل لحظة بتاريخهم السياسي القابض على انفاسنا؟
كانت جميع مؤلفات الوردي لا تخلو من ذكر جميع الفلسفات النسبية وعلى رأسها الفلسفة السوفسطائية التي تقف على طرفي نقيض من الفلسفة الأفلاطونية التي أسست جميع المركزيات الذهنية. لقد كان الوردي بذلك السبّاق في تشخيص ألامراض العضال المزمنة للفلسفة العراقية، التي ابتليت كما ابتلي الوردي من قبل بأولئك الذين يقدسون المنطق السلطوي الارسطوافلاطوني. لذلك نراه كان لا يكل ولا يمل عن تكرار أهمية دور السوفسطائية في الفلسفة والفكر الاجتماعي، بوصفها علاج لتاريخ الثبات الدوغمائي ألقيمي والاجتماعي والمنطقي والفلسفي، فبهذا العلاج يتحرر الناس من أغلال العبودية الشمولية التي يبدأ من نقد الأنساق الميتافيزيقية لينتهي بنقد الأنساق السلطوية.
لقد كان الوردي واعيا بمخاطر تلك التشكيلات الأيديولوجية المتشكلة في الخطاب الفلسفي وخطاب العلوم الإنسانية، محذرا ومذكرا بأهمية جعل النسبية التاريخية المتمثلة في المنهج السوفسطائي السبيل الأمثل لبث أفكاره ومخاوفه من سيطرة النظم الشمولية في المؤسسات الأكاديمية والحياة الثقافية. لذا نراه كان حريص كل الحرص على ملاحظة ونقد ظواهر الأستذة النخبوية التي تبشر بالمرحلة الشمولية، وقد شخص صفات ذلك التحول حينما قال: ((حول أفلاطون البحث النظري من الشارع الى “الأكاديمية” وبهذا عزله عن الحياة الاجتماعية وجعله مغرورا يتعالى على الناس. واصبح طلاب العلم شامخين بأنوفهم يظنون ان العلم يجب ان يسموا عن دراسة الهموم التي تشغل بال الجمهور. وإذا نزل المفكر نحو مستوى العامة احتقروه وعدوه مشعوذا. واخذ طلاب العلم “الأكاديميون” يبتكرون المصطلحات الرنانة التي لا صلة لها بالحياة العملية كالهيولى والكلي والميتافيزيقيا وما اشبه. ففغر العامة افواههم اعجابا بها وظنوا انهم رموز كبرى تكمن فيها اسرار الكون. وجاء المترفون وشجعوا مثل هذه الحذلقة الفارغة، حيث وجدوا فيها وسيلة لإلهاء عقول الناس عن البحث فيما هم من بلايا وارزاء. وكلما ازداد المفكر حذلقة ازداد المترفون له تقديرا وإكبارا. ولا يزال العامة عندنا متأثرين بهذا الاتجاه الافلاطوني. فإذا سمعوا كلاما غامضا مملوءاً بالمصطلحات التي لا يفهمونها اعتبروه من آيات البلاغة والفلسفة العالمية. رأيت ذات يوم رجلا من العامة يستمع الى خطيب وهو معجب به اشد الاعجاب. فسألته: “ماذا فهمت”؟ أجابني وهو حانق: “وهل استطيع ان افهم ما يقوله هذا العالم العظيم!”. يظن هذا المسكين ان من شروط العظمة في المفكر ان يكون غامضا غير مفهوم، فإذا اتضح كلامه وادرك المستمعون معناه بسهولة، انحط من مكانته العالية التي كان فيها. كان السوفسطائيون فقراء يحترفون التعليم لكل من يدفع لهم اجرا. وكانوا اذن يختلفون عن افلاطون المترف الغني الذي كان العبيد يكدحون ليل نهار ليكسبوا له المعاش الوفير. جعل السوفسطائيون العلم حرفة كالنجارة والحدادة. فغضب من ذلك افلاطون والمترفون امثاله اذ هم يريدون ان يتميزوا علي العامة بمصطلحاتهم الرنانة كما امتازوا عليهم بلباسهم الزاهي ومسكنهم الباذخ… يقول السر لفنجستون: ان السوفسطائيين كانوا يبسطون العلم وينشروه بين الناس على طريقة “العلم للملايين” المعروفة في عصرنا هذا. وهم اذن يشبهون ويلز وهكسلي وهيردز وغيرهم من الكتاب العلميين الذين يؤلفون الكتب الشائعة في هذا القرن. ولهذا كرههم المحافظون والمتزمتون، وعَّد افلاطون طريقتهم براقة فارغة))(8).
ابستمولوجيا الوردي وإشكالية العلوم الإنسانية
مما سبق ذكره، يتبين ان العلاّمة كان منشغلا في إعادة تشكيل خطابات العلوم الإنسانية، انطلاقا من المعرفة الاجتماعية والسيكولوجية واللغوية، مرورا بالمعارف الدينية والتاريخية والسياسية، حيث شكلت مجمل تلك العلوم علاقة الوردي النقدية بموروث العلوم الإنسانية الذي سبقه، فكيف كانت طبيعة ذلك الموروث؟ هل كان موروث قريب الى الواقع والى حياة الناس ولغة العامة؟ واذا كان ذلك الموروث متفاعل مع الوجود التاريخي لحركة المجتمع الثقافية، فهل هناك ثمة حاجة للثورات العلمية كتلك التي عمل على تشكيلها خطاب الوردي؟ فلماذا لا نجد أثريات لخطابات العلوم الإنسانية الماقبل وردية؟ ولماذا نجد ان العلاّمة كان لا يكتب الا بهدف مساءلة الأصول ونقد الجذور؟
نتيجة لتلك المساءلات، انشغل الوردي ليس في تشكيل خطاب اجتماعي فحسب، بل انهمك ايضا في إعادة تشكيل العلوم الإنسانية بطريقة جديدة وبمناهج معاصرة، لاسيما وهو كان يحاول تأسيس خطاب ثقافي جديد على أنقاض الثقافة العراقية التي سبقته. اي انه سعى الى تحقيق هدف مزدوج يتمثل في تأسيس خطابات العلوم الإنسانية وإعادة تشكيل الخطاب الأكاديمي، الذي أصبح خطاب لا يحاور ولا يفكر الا بذاته المتضخِمة، حتى تحول الى خطاب لا تاريخي؛ ويتمثل الهدف الأخر في جعل انطولوجيا الوجود اليومي بمثابة البنية التحتية التي تتشكل عليها طبيعة المناهج الثقافية والعلوم الاجتماعية وليس العكس، كل ذلك من اجل إن تولد حركة نقدية وثقافية في المجتمع. فكيف كان يرى الوردي طبيعة العلوم، وهل يعتبرها منفصلة ام متصلة؟
في كتابه (منطق ابن خلدون) الذي من الممكن عده بمثابة “الاورجانون الجديد” في العلوم الاجتماعية والفلسفية، يوضح الوردي كيف يمكن ان تظهر الطفرة الخلدونية بوصفها طفرة ابستمولوجية في إعادة كتابة التاريخ الإسلامي والاجتماعي. وقد نجحت تلك الطفرة في إحداث قطيعة ابستمولوجية عن المنظومة الأرسطية، ثم كيف تتشكل “ابستيمات معرفية” جديدة بعد إحداث تلك القطيعة. يقول العلاّمة:((اتضح لدى علماء الاجتماع ان ما نعده من البديهيات العقلية هو من الامور النسبية، اذ هي خاضعة للمألوفات الاجتماعية والتطورات العلمية. فرب امر نعده اليوم بديهيها ثم يتبين لنا اخيرا انه مما يجوز الشك في صحته او ضروريته العقلية. خذ مثلا ما كان الناس يعتقدون قديما من كون الارض مسطحة وانها ثابتة تدور الشمس حولها. وهي في الواقع كذلك في نظر من لا يعرف من امور الكون غير ما يلاحظه بعينه المجردة. ولاغرو ان تكون عنده تلك الاراء حول الارض من الامور البديهية التي لا يجوز الشك فيها. وبعدما تقدمت البحوث العلمية تبين ان تلك الاراء ليست بديهية، فقد حلت محلها “بديهيات” اخرى . وصارت البديهيات تتهاوى الواحدة بعد الاخرى تبعا لتقدم العلم وتطور الحضارة. لقد اصبح العلم الحديث يقوم على مبدأ الاحتمال، بينما كان المنطق القديم يقوم على مبدأ اليقين. وشتان بين المبدأين. ان المنطق الارسطي يعتمد على مسّلمات يفترض فيها الصدق المطلق، وهو لذلك يعد النتائج المستنبطة منها بالقياس الصحيح لابد ان تكون يقينية لاشك فيها. اما العلم الحديث فمن شأنه ان يشكك في كل شئ، وهو لذلك يستخرج نظرياته وقوانينه من استقراء الوقائع الجزئية، وهو يعود ليعلن ان صدق النظريات والقوانين التي استخرجها محدود بحدود الوقائع التي استخرجت منها. وربما ظهرت وقائع جديدة تجعل تلك النظريات والقوانين في حاجة الى تبديل اوتحوير، وقد حدث هذا كثيرا في الفترة الاخيرة من عصرنا))(9).
هكذا يفهم الوردي فلسفة العلوم لكن هذه المرة بدون فلسفة تدّعي لنفسها حق امتلاك الحقيقة المطلقة، لأنه اعتمد مفهوم القطيعة الابستمولوجية. فكيف يشتغل ذلك المفهوم في خطاب العلوم الإنسانية حسب رؤية الوردي؟ وما هي الفائدة من إدخاله في المنظومة المفاهيمية للعلاّمة؟
ان عملية تشكيل المعرفة العلمية، هو في واقع الامر، جاء نتيجة لتاريخ طويل من الصراعات التاريخية بين اشكال معرفية ميتافيزيقية متعالية عن الواقع التاريخي، كما هو الحال مع الفلسفة وأشكال من المعارف العلمية مرتبطة بالشروط التاريخية التي تنتجها وتنتج الواقع معه، حيث((..ترى الابستمولوجيا في التعميمات الفلسفية لنظرية المعرفة، عائقا امام تطور المعرفة العلمية ذلك ان التصورات الزائفة عن المعرفة تؤثر سلبا في مجال المعرفة العلمية وخاصة حين تضع حدود للعلم. ان الابستمولوجيا ليست استمرار لنظرية المعرفة في الفلسفة، بل هي تغيير كيفي في النظر الى علاقة الفلسفة بالعلم وتجاوز التناقض بين نظرية المعرفة والعلم، ليس هذا فحسب بل ان الابستمولوجيا اتت على انقاض ما كان يعرف بفلسفة العلم، التي تولدت من علاقة الفلسفة بالعلم، وتناولت جملة من الموضوعات اهمها؛علاقة العلم بالمجتمع وتأثيره في تكوين النظرة الفلسفية الى الطبيعة والكون…وعموما فانه اذا ما اعتمدنا على قراءات ابرز تلاميذ باشلار وهو جورج كانغيلام سنجد ان ابستمولوجيته تبدو من خلال المبادئ الاساسية الثلاث: 1-الأولوية النظرية للخطأ بحيث نجد باشلار في هذا المبدأ قريبا الى نظرة فريدريك نيتشة للعلم اذ يقول “ان المعرفة العلمية هي اخطاء تبث نفعها في معركة الصراع من اجل البقاء”…اذ انه بالفحص الدقيق للواقع يبدو ان الحقيقة لا توجد بشكل منفصل عن الخطأ انها متداخلة بنسيج من الاخطاء وتبقى مهارة العالم تكمن في كيفية انتزاع الحقيقة من هذه البراثين. يقول باشلار…”لا يمكن تشكيل معرفة علمية صحيحة الا على انقاض المعرفة الخاطئة” وهذا اكبر دليل على شراسة الصراع ضد الخطأ من اجل التوصل الى الحقيقة، وبالتالي إحداث القطائع الابستمولوجية الجديدة. 2- اعتبار المعرفة العلمية معرفة غير حدسية، لانها لا تنتج عن طريق الحواس والحدوس. بل ان المعرفة العلمية تنبني على التجربة والممارسة واستخدام آليات القياس العلمي، اذن قد يشكل مرحلة اولى في المعرفة العلمية والتي ينبغي التخلص والتخلي عنها بعد ذلك.3- رفض كل الأيديولوجيات والأنماط المعرفية التي تأتي من الفوق، من خارج الواقع، لان فهم الواقع لن يتم عند باشلار، الا من خلال الواقع ذاته، هذا الاخير الذي يتحرك طبقا لمنطقه الخاص وقوانينه الداخلية، كما ينبغي ان يتم التعامل مع هذا المنطق الخاص، وتلك القوانين، داخل الواقع الحاضر وليس الماضي))(10).
اذن كيف يمكننا بعد ذلك ان نفهم خطاب الوردي الثقافي بمعزل عن الابستمولوجية والقطائع الابستمولوجية التي تبدأ مع الفلاسفة وتاريخ الفلسفة التقليدي؟ وهل يمكن لخطابات العلوم الإنسانية ان تبقى مستقلة عن التحولات الابستمولوجية التي تجعلها تتجاوز أخطائها الماضوية وتتصالح مع الوقائع التاريخية؟
من اللافت للنظر، ان الوردي كان قريب في نقده للفلاسفة والفلسفة في الخطاب العربي الاسلامي الى الفيلسوف باشلار الذي يعد من المفكرين الأوائل في خطاب الابستمولوجيا والقطائع الابستمولوجية في تاريخ العلم، فهو من ((يعتبر الفلاسفة غير مهتمين بالتطورات العلمية الصعبة. بل انهم يظلون متمسكين بحلول فلسفية قديمة وبمشاكل علمية بالية، ناسين ان هذه الحلول المنبجسة من اشكالات سابقة ومذاهب ثابتة قد تجاوزتها الثورات العلمية المعاصرة الى غير رجعة))(11). لكن رأي باشلار هذا، لا يعني رفض الفلسفة أو الفكر الفلسفي، وذلك لان الكثير من تأملاته الفلسفية والجمالية والتحلينفسية نهلت من روح الفلسفة وتاريخها، لكن ما كان يسعى اليه هو تشكيل خطاب فلسفي جديد ينطلق من فلسفة الرفض لكل موروث أيديولوجي سابق على الممارسة العلمية والفلسفية، تماما كما فعل الوردي عندما رفض جميع الافكار الفلسفية المبنية على اسس ارسطوافلاطونية غير تاريخية وبالتالي بعيدة عن هموم الناس البسطاء. اضف الى ذلك ان منطق القطع الابستمولوجي او الاسترداد الابستمولوجي عند باشلار يكاد يتطابق ايضا مع رؤية العلاّمة النقدية لتاريخ الفلسفة. حيث يرى باشلار أن مفهوم منطق الاسترداد الابستمولوجي هو مفهوم ((يمكّن من تطوير تاريخ نظري ومعرفة نظرية لتاريخ العلوم. كما يمكن تصوير الصيرورة الضرورية لعلم ما، بربط معرفة ماضيه بتحليل حالته الحاضرة ويجعل هذه الحالة رهينة كل العناصر التي تجعلها ممكنة. وهكذا فان تاريخ علم ما تعقبه دائما معرفة يقظة بنسقه الحالي، وهو يلغي وقتيا كل ما يتعلق بتاريخه البالي))(12).
من هنا تأتي ضرورة قراءة الخطاب الثقافي للوردي من خلال الاكتشافات الابستمولوجية وفلسفات العلوم، هذا إذا أردنا ان نصل إلى معرفة المفاهيم الوردية المتحولة بين جدل نصوص العلوم الاجتماعية إلى جدل نصوص العلوم اللغوية وحتى جدل نصوص العلوم السيكولوجية…ألخ، حيث تعكس مسيرة تلك المفاهيم مجمل التمثلات الثقافية للشخصية العراقية المتفاعلة مع الواقع الأيديولوجي العراقي آنذاك، الذي عمل الوردي على رصده وتشخيصه وتحليله من خلال جدل النصوص الثقافية والوقائع التاريخية.
إشكاليات اللغة: من بلاط النخب إلى صِرايف العوام
نلحظ عند تصفح مؤلفات الوردي، حضورا لثقافة العوام بشكل متواز مع نقد النظام الارسطوافلاطوني الفلسفي والمنطقي، حتى كاد أن يتحول ذلك التلازم إلى شيفرات ميتافورية وسمت مجمل النتاج الثقافي للعلاّمة. فهل كان هناك ثمة علاقة منطقية وجدلية بين نقد أشكال المنطق القديم وبين الوجود الاجتماعي لطبقة العوام؟
من ابرز وأجمل ما يميز لغة الوردي، إنها لغة تصرخ بآلامنا وتستنطق صراخنا، لأنها لغة متألمة تثور دوما على أبجديات اللغة المتأفقة والمتأنقة والمتكلفة التي تعكس التوجهات الثقافية والأكاديمية للطبقات الشمولية المسيطرة آنذاك، تلك الطبقات التي تملك زمام الأمور في تسيير مجالات الثقافة والفكر والتعليم، لكنها في الوقت نفسه، حبيسة برجها العاجي ومتعالية عن ملامسة صيرورة الناس البسطاء وحياتهم اليومية التي لطالما أقصوها من دائرة منطقهم الميتافيزيقي، يقول الوردي:((ويمكن القول ان منطق أرسطو كان عاملا هاما في عزل المفكرين عن سواد الناس. فهو قد جعل الناس على طبقتين منفصلتين من ناحية التفكير: طبقة قد صعدت في برجها العاجي تتلذذ بالتأمل في الحقيقة المجردة، وطبقة أخرى بقيت منجرفة بتيار الحياة تريد ان تتكيف للحقائق المتغيرة يوما بعد يوم. أصبح رجل الفكر بتأثير من هذا المنطق يحتقر رجل العمل ويستهجن طريقة حياته ونمط تفكيره. فهو قد ارتفع في السحاب واخذ يبني لنفسه هنالك القصور والعلالي. فهو لا يفهم مشاكل الحياة ولا يريد ان يفكر فيها إذ هو يعتبر هذه المشاكل سفاسف مؤقتة لا تتصل بالحقيقة المطلقة ولا تلائم طبيعة التفكير الصحيح))(13).
كانت تلك هي أهم البردايمات والنماذج الثقافية التي كانت تمثل “ميتافيزيقا الحضور” على حد تعبير دريدا، لان نماذجها الكلية والمطلقة تهيمن على إنتاج معنى واحدي يمتلك الحق المطلق والأبدي في تفسير الأشياء، مما أدى إلى تخلف جميع العلوم الإنسانية ومن ضمنها العلوم الاجتماعية. يقول الوردي:((ان المستقرئ لتاريخ العلوم المختلفة قد يندهش حين يرى العلوم الاجتماعية نشأت متأخرة بالنسبة للعلوم الطبيعية. والواقع أن من أهم العوامل في تأخر العلوم الاجتماعية هو انتشار هذا المنطق الذي اهتم بالحقائق المطلقة وأهمل الحقائق النسبية. ان العلوم الاجتماعية تحاول دائما ان تنزل الى الواقع المتغير لتكتشف قوانينه. اما المناطقة فيرون في هذا النزول ضعة وتسفلا لا يليقان برجل الفكر. ان المفكر في زعمهم اجل وأسمى من ان يشغل أوقاته الثمينة بما يفعل عامة الناس وما يفكرون به من أمور طارئة لا تكاد تظهر حتى تختفي))(14).
علينا أن نتساءل إذن عن طبيعة وبنية اللغة التي تشكلت في مرحلة سيادة ذلك المنطق، فهل هي لغة تشتغل ببنية ونظام المنطق القديم، وما علاقة كل ذلك بالإشكالية اللغوية؟ وكيف نظر العلاّمة الى اللغة، هل أعاد قراءة اللغة بمعزل عن التشكيلات الأيديولوجية السابقة عليها والمتكونة من نماذج النص الشعري؛ والنص المقدس؛ ونص البلاغة الميتافيزيقية ؟
كان الوردي، وكما ذكرنا سابقا، مهموم في إعادة تأهيل وتشكيل العلوم الإنسانية وفي مقدمتها العلوم الاجتماعية، من اجل إن تكون مرآة ثقافية تعكس الحياة الواقعية للناس البسطاء الذين استبعدتهم الدوائر الرسمية والأكاديمية جراء بيروقراطيتها الشمولية التي تصنف البشر كيفما تشاء، والذين أهملتهم أيضا المؤسسة الأكاديمية اللغوية باختصاصاتها الأدبية وكافة فنون الشعر والنثر، على الرغم من ان هؤلاء المستبعدون يتحدثون بلغتهم العربية الأم، لكنهم لا يجيدون فنون الحذلقة اللفظية والبهرجة النحوية، لأنهم اناس منزوون ومنسيون في “صرايف” هي أشبه بالخرائب السكنية المهملة والمتروكة في ارض الله الواسعة، هؤلاء المنسيون عندما ذكرهم العلاّمة وطالب بان يكونوا جزء لا ينفصل من البحث الأكاديمي والاجتماعي وجزء لا يتجزأ من العملية الأدبية للنص الأدبي، اثار بذلك حفيظة حراس التشكيلات الأيديولوجية التي يحتمون بظلها ويسبحون بحمدها، فما ان بادر الوردي بتشكيل خطاب لغوي جديد خال من الترادفات اللغوية الزائدة، كي يكون خطاب مفهوم وواضح لأولئك الناس المنسيين في صراخهم والراقدين في أصواتهم، حتى انبرى الجميع لمواجهة ذلك الخطاب بكل شراسة، وتحولوا الى أقلام ناقدة وناقمة على كل ما جاء به الوردي من أراء، بدت لهم خارجة عن أطرهم الشمولية والسلطوية التي لا تهتم الا بمصالحها ومصالح طبقاتهم التقليدية ذات الثقافات المركزية والنزعات اللانسانية المتطاولة دوما على طبيعة الثقافات المحلية والشعبية.
هكذا كان الوردي يخوض الصراع تلو الاخر ليبشر “ببردايم ثقافي جديد” لم تألفه الثقافة العراقية من قبل، فيدخل في جدل مع حماة الأدب واللغة المقدسة، كي يتجاوز نظريتهم الأيديولوجية “الأدب للأدب”، ليجعل كل من اللغة والأدب مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية وتطورها، وذلك عبر محاولته في جعل الأدب نص ثقافي متصل ببقية العلوم الاجتماعية والسيكولوجية والتاريخية، ففي فقرة تحت عنوان “الأدب وعلم الاجتماع” يكتب العلاّمة: ((اود ان انتهز هذه الفرصة لأبين وجهة نظر علم الاجتماع في هذا الموضوع. فالمعروف عن علم الاجتماع انه يدرس الأدب والتاريخ والاقتصاد والسياسة والدين والفن وما اشبه. وقد ثار من جراء ذلك جدال طويل بين الباحثين: أيجوز لعلم الاجتماع ان يتدخل في مواضيع هي من اختصاص غيره؟ ومن التهم التي وجهت الى علم الاجتماع انه أصبح كدائرة المعارف، اذ هو يتدخل في كل فرع من فروع المعرفة ويبدي رأيه فيها. ومعنى هذا انه يشبه الحمص الذي يدخل في كل طبيخ عندنا. وكان جواب علماء الاجتماع على هذه التهمة ان علمهم لا يدرس فروع المعرفة المختلفة الا من الناحية الاجتماعية. فهو حين يدرس حادثة تاريخية مثلا، لا يهمه كيف توصل المؤرخون الي تحقيق تلك الحادثة او الى استقصاء القرائن والدلائل فيها. انه يتركهم وشأنهم في إتباع منهجهم الخاص بهم. ولكنه يأتي أخيرا فيأخذ النتيجة التي توصلوا إليها ويستعين بها في دراسة المجتمع البشري بوجه عام))(15).
يصف لنا الوردي من خلال نصه أعلاه، طبيعة انفصام العلاقة الابستمولوجية بين العلوم الإنسانية آنذاك، حيث كانت النظرة السائدة التي يتحكم في نظامها المعرفي هو بردايم المنطق القديم الذي جعل العلوم تعيش حالة من العزلة فيما بينها، وهذا ما جعل المختصون في اللغة وغيرها من العلوم الإنسانية يستهجنون محاولة العلاّمة في قراءة النص الأدبي واللغة من زاوية سوسيولوجية واجتماعية، لأنهم يعتقدون إن ليس من حق عالم الاجتماع دراسة النص الأدبي واللغوي لأنه من اختصاص أهل اللغة وبالعكس.
شكل ذلك النظام المعرفي طبيعة التصورات والتمثلات الثقافية لذوي الاختصاصات العلمية والإنسانية، التي تركت ظلالها على الناس البسطاء ومجتمع العوام آنذاك، وهذا هو بالضبط ما واجهه “بردايم” الوردي الجديد. قد يتضح ذلك من خلال رد العلاّمة على احد أساتذة الأدب واللغة العربية، ضمن فقرة بأسم “هل انا متطفل” حيث يقول:((قد يظن الدكتور ان ناقد الشعر يجب ان يكون قبل كل شيء شاعرا، او على الأقل قادرا على إنشاد الشعر في دار الإذاعة العراقية الجليلة. وهذا رأي لا أوافقه عليه. ولست اعتقد ان هناك كثيرين من الناس يؤيدونه فيه. أكاد اشعر بأن تحدي الدكتور لي لم يكن في محله. ولست ادري ما الذي دفع الدكتور الى هذا التحدي الغريب. للدكتور الحق في ان يتحدى رجلا يريد ان ينصب نفسه حكما بين الشعراء فيفضل بعضهم على بعض من الناحية الفنية. وهنا أؤكد للدكتور اني لن افعل هذا ولن افعله، ولست منه في العير او النفير!. اني لم اقل بان شعر الجواهري اروع من شعر محي الدين، ولم اقل ان اسلوب دعبل اكثر جزالة من اسلوب البحتري. ولو كنت قد قلت هذا او شبهه لحق للدكتور ان يدعوني الى الامتحان وان يرسبني فيه ايضا. ارجو من الدكتوران لا ينسى بأن الشعر له ناحيتان: فنية واجتماعية. وهو في ذلك لا يختلف عن اي شيء من شؤون الحياة. فالقصيدة الشعرية هي قبل كل شيء قطعة فنية. انما هي بالإضافة الى ذلك ظاهرة اجتماعية لها مساس مباشر بما ينشأ بين الناس من صلات التعاون والتنازع. للباحث الاجتماعي ان يحلل القصيدة من حيث علاقتها بالمجتمع الذي ظهرت فيه، دون ان يتطرق الى ما فيها من صفة فنية، اذ هو يترك ذلك للمختصين من الادباء. وهم في بلادنا كثيرون يكاد لا يخلو منهم مكان والحمد لله..))(16).
لا نظن اننا نحتاج هنا الى كبير عناء لفهم رؤية العلاّمة للنص الأدبي وعلاقته بالثقافة والسياقات الاجتماعية والأيديولوجية، بمعنى ان ما كان يعمل على تأسيسه تجاوز حدود نمطية القصيدة الشعرية بكثير. لأنه في الحقيقة كان مهموم في إشكالية النص الأدبي وعلاقته مع جميع أشكال التلقي، لاسيما المتصل منها بأولئك المستبعدين من مفاهيم التلقي في منظومة البلاغة التقليدية التي يمثلها الدكتور محي الدين، الذي كان يجادل طروحات الوردي في اللغة والأدب من خلال “منظومته وتشكيلاته الأيديولوجية” لتاريخ البلاغة العربية، وبالتالي جاء نقده بعيد عن مقاصد ورؤية العلاّمة الإشكالية لعلاقة الأدب مع الواقع الثقافي؛ وعلاقة اللغة بالوجود اليومي او انطولوجيا الحياة اليومية؛ وعلاقة اللغة بالذهن او العقل الإنساني؛ وعلاقة اللغة باللسان اليومي او التداولي؛ وعلاقة البلاغة في صنع وإعادة إنتاج المؤسسات الاجتماعية على حد تعبير الآن تورين، وسوف نأتي على شرح مجمل تلك العلاقات لاحقا.
اراد الوردي، من خلال تأكيده على أهمية نقل النص الأدبي من دائرة المنطق القديم وتشكيلاته الأيديولوجية السابقة ووضعه وجها لوجه مع الممارسات الذهنية واللغوية ضمن السياق الثقافي الذي يحتوي ذلك النص، إن يلفت أنظار كتاب عصره ومثقفي زمانه المتطابقين مع سياق التشكيلات الأيديولوجية والأكاديمية التي كانت تمثل لهم المعين الذي لا ينضب من المعارف الأرثوذكسية، الى وجوب إعادة قراءة علوم اللغة ضمن سياقاتها واشكالياتها الثقافية والاجتماعية والسياسية أيضا.
اللغة: من مأزق البلاغة الميتافيزيقية الى بلاغة الخطاب اليومي
تبدو العلاقة الأيديولوجية بين البلاغة بوصفها نسق ميتافوري أو ميتافيزيقي وبين الأشكال الأولية لممارسة النص السياسي، ذات طبيعة متداخلة وشائكة عبر التاريخ، لاسيما في تاريخنا المعاصر الحافل بالمهاترات السياسية والكليشيهات الخطابية والمواعظ الدينية. وذلك لان بنية الفكر البلاغي في خطابنا الثقافي لم تتخلص بعد من هيمنة النموذج اللاهوتي على وظيفة اللغة، كي يسخرها في خدمة التشكيلات الأيديولوجية السابقة، من اجل إن تعيد إنتاج النماذج الثقافية التي تشكل مجموع التصورات والتمثلات الذهنية للوجود الإنساني. هكذا اتصفت بنية الفكر البلاغي بكونها بنية تقليدية محافظة على أصولها وميثولوجياتها السياسية؛ وفي كونها بنية منفصلة عن الوجود التاريخي والحياة اليومية لصيرورة الناس البسطاء. من هنا لابد من التساؤل كيف يمكن إحداث ثورة ابستمولوجية وثقافية في العلوم الإنسانية بمعزل عن أنظمة اللغة وتاريخها التقليدي وبنيتها المنطقية؟ وإذا كان المشروع الثقافي للوردي يرتكز على إعادة بناء تصورات الحياة الذهنية والثقافية للعوام والتواصل والاتصال بكافة مكوناتهم الثقافية والنفسية والتاريخية، فهل يمكن تحقيق ذلك دون أدنى مساس بالجسد الثقافي المقدس لجميع تلك التصورات وفي مقدمته اللغة والبلاغة والنص الأدبي؟ وكيف للباحث في خطاب العلوم الاجتماعية ان يعيد تشكيل الواقع اليومي المعجون باللغة الميتافورية السياسية، دون إعادة النظر في القالب الأيديولوجي الذي يشكل منطق الكلمات وينتج أشكال التعابير الكلامية اليومية ؟
لذا عمل الوردي جاهدا على تحويل البلاغة التقليدية إلى نظرية في التواصل والاتصال الاجتماعي والثقافي اليومي، بدلا من ان يبقى مجال اشتغالها محصورا في الشعر والخطب الدينية. وهذا يعني انه كان يسعى إلى تشكيل ما يُعرف “بالقطيعة الابستمولوجية” مع جميع مخلفات العلوم الإنسانية بحمولاتها الأيديولوجية. علما ان مفهوم البلاغة شهد الكثير من التحولات والثورات الابستمولوجية في حقول الدراسات الأدبية والثقافية واللغوية، فلم تعد البلاغة ذلك العلم الذي يشتغل بطريقة متعالية تعيد إنتاج السياقات السلطوية، بل اخذ يعني مفاهيم متقدمة وراديكالية لاسيما في مجال نظريات التواصل والفلسفة واللغة. وعلى أساس من مجمل تلك المتغيرات، حدثت العديد من التحولات الثقافية والسوسيوثقافية والفلسفية والاجتماعية أيضا في بنية الفكر الغربي برمته. وعند تأمل المشهد الفلسفي الغربي الراهن، نلحظ كيف نتج عن انقلاب المفاهيم والتصورات الكلاسيكية للغة والبلاغة والنص الأدبي، انقلابا مماثلا في الخطاب الثقافي الغربي. فبعدما كان خطاب متمركز حول اللوغوس الميتافيزيقي منذ أفلاطون حتى نيتشه، بات اليوم متحرر من هيمنة الأنساق المتعالية والأطر القبلية المتعلقة في إنتاج الكلام والعلامة والصوت وتشكيل المعاني الإنسانية، فأصبح بذلك خطاب مرتبط بالسياقات الثقافية والسياسية والقوانين التاريخية على حد تعبير جوليا كرستيفيا*. منذ ذلك الحين، صار يشهد الفكر الغربي ثورة تلو الأخرى، فمن الثورات النيتشوية الى الفرويدية والتوسيرية وحتى الثورة اللاكانية التي تنطلق في مجموعها من تفكيك بنية اللغة ومنطقها الداخلي ووظيفتها مرورا بنقد علاقتها بمجمل الأبنية الثقافية السائدة، الأمر الذي حدا بالفيلسوف الفرنسي بول ريكور إلى وصف كل من نيتشه وفرويد وماركس بفلاسفة الشك والارتياب لأنهم وضعوا جميع أصولهم الثقافية في موضع التساؤل والشك، فقال مقولته الشهيرة: بعد فرويد يجب علينا ان نضع الوعي تحت التشريح. فلماذا لم نضع الوعي العراقي تحت التشريح بعد رحيل الوردي؟ ولماذا قوبلت أرائه الفكرية واللغوية بالإهمال والنسيان؟ ولماذا يتم الترويج والتذكير بالفلاسفة الغربيين أكثر من ذكرنا لأفكار العلاّمة، وهي على بساطة مفرداتها اللغوية، حملت في عمق أعماقها أفكار ورؤى وتصورات نهضوية وتقدمية في مجالات العلوم الإنسانية والفلسفية، فلماذا غابت دروس الوردي في جامعاتنا؟
من كل ما سبق ذكره، هل يمكننا أن نُعلمِن لساننا الثقافي العراقي دون إن يسبق ذلك علمنة نقدية لجميع مكونات ثقافتنا؟ ربما هذا ما جعل الوردي يعيد النظر في اللغة والبلاغة وعلوم البيان وما شابه، إضافة إلى نظريات النص الأدبي، ليحول وظائفها إلى سياقات ثقافية مرتبطة بالأبنية اللغوية وعمليات إنتاج الكلام اليومي، فكان ذلك جزء من همومه الثقافية التي اشتغل عليها. لذا لم تكن نظرته للغة والبلاغة نظرة دوغمائية، بل كانت نظرة نقدية وثقافية في آن واحد، وقل نفس الشيء فيما يتعلق بنقده للشعر العربي وصلته بالطبقة الحاكمة، حيث يقول: ((قلت أشياء كثيرة عن الأدب العربي بوجه خاص. وقد حاولت جهدي إن لا اخرج في ذلك عن نطاق اختصاصي. ومما قلته في هذا الصدد إن الشعر العربي القديم اختص بأمور ثلاثة قلما نجدها مجتمعة في أشعار الأمم الآخرين وهي:1-مدح الظالمين 2-وصف الخمرة 3-التغزل بالغلمان. والذي دعاني إلى هذا القول ما رأيت لدى بعض أدبائنا المعاصرين من هيام مصطنع بالحق والحقيقة، فهم يصفون أنفسهم بأنهم “شموع تحترق” بينما هم يمجدون عبقرية البحتري وأبي نؤاس والاخطل وغيرهم من الشعراء القدامى الذين كانوا من ابعد الناس عن طبيعة الشموع المحترقة. نجدهم يحترمون الأديب الذي يتزلف إلى السلاطين والمترفين ويعيش على فضلات موائدهم. ولكنهم في الوقت ذاته يحتقرون من يحاول إن يتزلف بأدبه إلى أبناء الشعب وينزل بأسلوبه إلى مستواهم. أنهم يتهمون من يكتب للشعب بأنه تاجر يرتزق بأدبه. أما من يكتب للمترفين أو يمدحهم بقصائده سعيا وراء الجائزة فهو في نظرهم أديب عبقري، وله في قلوبهم مكانة عليا))(17).
ولاحظ هنا كيف يشخّص العلاّمة طبيعة الاختلاف بين الأزمنة الذي ينتج عنه اختلاف بالضرورة في طبيعة المعرفة والثقافة التي تخضع للتغير والتبدل من خلال صيرورة التاريخ، وذلك حين يقول:((ان الذي رجوناه منهم ان يدركوا طبيعة الزمان الذي يعيشون فيه، فلقد مضى عهد السلاطين وحل محله عهد الشعوب))(18).