# أميركية مع سبق الإصرار والترصّد:
————————————–
إننا نواجه امرأة مشرفة على الثلاثين ، متطوعة في جيش بلادها بدراية وتخطيط وحماسة وعزم .. وهي مصرة على استخدام ضمير المتكلمين الجماعة في كل مكان . وهذا أمر طبيعي فهي لا يمكن ان تكون ساردة بضميرين . تتحدث عن : جيشنا (قصدها جيشهم الأميركي) .. جنودنا (قصدها رفاقها الجنود الأميركان الغزاة) .. عن وطننا (قصدها وطنها الولايات المتحدة الأميركية) .. وإلخ . من هذه المواضع الموقف الذي قابلت فيه مهيمن الذي استفزها بالحديث عن جرائمهم في النجف :
(زينة : أرجوك ، أنت تؤذيني .
مهيمن : لا بأس. قليل من الأذى لا يميت . هل تعرفين طالب شنّون؟ حسن عبد الأمير؟ مظفر الشطري؟ وقيس وهاتف ورعد وعبد الحسين الندّاف؟ هؤلاء أصدقائي ماتوا في القصف .
مهيمن الذي ضحك عليّ بإيميلاته المتسامحة جاء ليؤذيني. وليس من عادتي السكوت. لكن ردّي غاص في حنجرتي. هل أسأله عن بايرن وجيسيكا ومايكل والميجر لايتلي؟ أصدقائي الذين مزّقتهم الهاونات والألغام ؟.
يقرأ مهيمن صوت وجعي . يقرؤني. لا يعرف الرحمة.
-لماذا جئتم؟
-خلصناكم من صدّام.
كأنني مذيعة في “فوكس نيوز”. . عبارتي تقليدية. ستشطبها المؤلفة حتما.
يقترح مهيمن فكرة أكثر ابتكارا :
-طردتم كينغ كونغ من المدينة وقبضتم ثمنه العراق كلّه –ص 184 )
# الفلسفة الذرائعية لا تتقبل العميل المُستعمل :
————————————————
وفي حوارها النهائي والحاسم مع مهيمن – حبيبها المحرّم – ترد ملاحظة صارت من أطروحات المقاومة التقليدية في أي بلد وهي أن المستعمرين (الأميركان هنا) يهربون ويتخلون عن عملائهم (هم الفيتناميون الجنوبيون هنا) بلا رحمة .. يستعملونهم ثم يرمونهم كمناديل المسح الملوّثة :
(-خفت عليك في الأسابيع الأخيرة
-لم تقصّروا. حصدتم الأخضر بسعر اليابس وأوصلتم الدماء إلى للرُكب
خاطبني باعتباري البنتاغون، لا زينة “أختي العزيزة”، وحزّ ذلك في نفسي :
-إسمع ، أنا لن أبقى هنا طويلا، سينتهي عقدي بعد شهرين..
-بل يجب أن تبقي حتى النهاية. ألم تقولي إنك تحبين السينما ؟
-ليس وقت مزاح.
-لن تهربي قبل أن تشهدي فيلم خروجكم من هذا البلد.
-مهيمن، لا أحب هذا الأسلوب.
لم يلق بالا لاعتراضي. بدأ يسرد عليّ مشاهد أعرفها. فيتناميون متعاملون مع الجيش الأميركي يتعلّقون بعجلات طائرات الهليوكوبتر. الطائرات تحلّق مبتعدة بالجنود وموظفي السفارة. طارت من دونهم . تركتهم لبئس المصير – ص ص 183).
وقد أثبتت الوثائق التي أعلنت بعد ثلاثين عاما من انتهاء الحرب الفيتنامية أن القادة الأميركان في فيتنام عندما اتخذوا قرارهم الخطير بالتخلي عن عملائهم في فيتنام الجنوبية حتى لو ركضوا وتعلقوا مستميتين بعجلات طائرات الهيليوكوبتر الأميركية المغادرة ، لم يكونوا ينطلقون من مبدأ عسكري يتمثل في النجاة بأقل الخسائر ، ولكن من منطلق فلسفي مادي حلولي – سوف لا تصدقون بفعل وعيكم الضحل فاعملوا على استيعاب الفلسفة المادية الأميركية التي ستدمر العالم بتربية نماذج مثل زنزن- أثبتت هذه الوثائق أنه تم التخلّي عن هؤلاء العملاء لأنهم لم يعودوا صالحين “للإستعمال” بمعنى الكلمة.
# وقفة على أطروحة “المواطن العالمي” :
——————————————
إفتتحت الكاتبة فصل روايتها الثامن والعشرين بمونولوج لزينة تستعيد فيه حديثا لها مع شقيقها في الرضاعة “مهيمن” :
(يُلقي عليّ مهيمن بنظرياته حول الشرخ الذي تحفره الهجرة في النفوس. يسألني عشرات الأسئلة عن حياتي في أميركا. إنه مهموم لأن خمسة ملايين عراقي تركوا الحياة التي يعرفون ومضوا إلى المجهول. يقول إن الهجرة مثل الأسر؛ كلاهما يتركك معلقا بين زمنين، فلا البقاء يريحك ولا العودة تواتيك. أما أنا فأرى الأمر بشكل مختلف. أقول له إن الهجرة هي استقرار هذا العصر، والإنتماء لا يكون بملازمة مسقط الراس.
يعجب مهيمن للقادرين، مثبي، على الغستقرار في الهجرة. يسمّينا “الذين يغيّرون جلودهم”. لا تعجبني أحكامه القاطعة. أحتج :
-ليس لي غير جلد واحد. ولكنه بعدة ألوان.
-إسمك زينة وليس حرباء. أما أنا فلا أعرف سوى الوطن الأمّ. لا يمكنني أن أتصوّر الوطن الخالة أو الوطن العمّة. أشد ما يثير سخريتي تعبير “الوطن الثاني”.
-يمكن للعالم كلّه أن يكون وطنك. ألم تسمع بمصطلح “المواطن العالمي” ؟
ينظر نحوي بلإشفاق مسالم، كأنه يتابع بعينيه قشّة في مهب الريح تبحث عن شجرة تتعلّق بها ، يتأملني ويتمتم كلاما لا أفهمه. تمتماته تبدأ خفيضة ثم تعلو. نصوص من شعر كتبه في رأسه عندما كان في السجن. حفظه لأن الورق كان ممنوعا. قصائد رقيقة في مقاطع منها أو غامضة. تشبه الأدعية والأحاجي. طلاسم للتمويه على حرّاسالسجن. هل يخشى السجين من أن يقرأ سجّانه الأفكار؟ – ص 144 و145 ) .
وصحيح أن مهيمن ، حتى لو أظهر أقصى درجات التماسك وعدم التأثر بسنوات الأسر – فإنه يبقى يعاني من متلازمة أسرى الحرب – prisoner of war syndrome ” – وهنا ليس مجال شرحها ، وما يمكنني قوله هو أنه قد ثبت علميا أن اسرى الحرب يبقون يعانون من تأثيرات الأسر النفسية لأكثر من أربعين عاما بعد إطلاق سراحهم، فالأسر يعد في علم النفس من أنواع “الشدائد الفاجعة – post traumatic stress disorder ” وهي الشدائد التي لا يمكن أن يفلت من تأثيراتها أي إنسان مهما كانت صفاته وتماسكه. لكن أطروحة زينة شائعة في العالم ويروّج لها الفلاسفة الغربيون، وتتشدّق بها طلائع التكنوقراط الثالثي المنبهر بالغرب. ومن جديدة أنبّه بل أحذّر من النظر إلى أطروحات زينة في الرواية على أنها أفكار مضطربة لفتاة تتخبط بين هويّتين !!. إنها أفكار راسخة ومتأصلة نابعة من تربية في مجتمع تحكمه فلسفة مادية حلولية كمونية ، مقابل تربية في مجتمع تحكمه فلسفة توحيدية وهيومانية (humanism) . وهذان النمطان كثيرا ما يخلط بينهما المثقفون والنقاد (ولا أعرف كيف يمكن لناقد أن يبني منهجا نقديا من دون إطار فلسفي؟ ) العراقيون خصوصا، عندما يناقشون مفهوم “المساواة” في الفلسفة التوحيدية الإنسانية المتجاوزة، ومفهوم “التسوية” وصولا إلى المواطن العالمي في الفلسفة المادية وكما طرحته زينة ببراءة. رؤية زينة محكومة بإطار فلسفي يرى أن (الإنسان ما هو إلا جزء من هذه الطبيعة وهذه المادة، , وقد صدر هو أيضا عنهما من خلال عملية التطور، إذ لا يوجد سوى قانون طبيعي واحد يسري على الإنسان والأشياء، فالوجود الإنساني نفسه يتحقق من خلال الآليات التي يتحقق من خلالها وجود كل الكائنات الأخرى، أي الصراع والقوة والتكيّف. وهو وجود مؤقت ، تماما مثل مكانته في قمة سلم التطور، إذ أنه حتما سيفقد مكانته هذه من خلال سلسلة التطور التي دفعت به إلى القمة. بل ويمكن القول بإن الأميبا من منظور تطوّري صارم أكثر تميّزا من الإنسان لأنها حققت البقاء لنفسها مدة أطول من الإنسان. والإنسان، شأنه شأن الأميبا (وهي حيوانة عالمية) ، لا يتمتع بأية حرّية ولا يحمل أية أعباء أخلاقية، فالقوانين الأخلاقية هي مجرد تطوّر لأشكال من السلوك الحيواني الأقل تطورا والحرص الغريزي على البقاء البيولوجي. وهذا يعني أن القانون الأخلاقي (وبضمنه قانون الهوية)، وكل القوانين هي قوانين مؤقتة نسبية، ترتبط بحلقة التطوّر التي أفرزتها ، ولذا يتم الإحتفاظ بالقوانين مادامت تخدم المرحلة. ومن ثم فإن الأخلاق المطلقة أخلاق دينية تدعو إلى حماية الأضعف والأقل مقدرة إلى الإشفاق عليه والعناية به. وهذا يعني أن كل الأمور نسبية تماما (وبضمنها الهوية والولاء) ولا توجد أية مطلقات) (15)
وختام هذه الوقفة سيحيلنا إلى استنتاج رهيب يتعلق بالأخلاقيات الأميركية الدموية ضد “الآخر” مهما كانت هويّته، والذي انعكس على رغبة زينة الطافحة في التطوّع في جيش تعلم علم اليقين أنه سيدمّر بلدا مسكينا مظلوما – أعود إلى القول إن هذا لا يعني أن النظام العراقي السابق لم يكن ديكتاتوريا جلادا- .
# لعبة الشجن :
—————-
من المفردات الحاكمة في البناء اللغوي لهذه الرواية هي مفردة “الشجن” . تبدأ إنعام كجه جي روايتها بها على الصفحة الأولى ، وتنتهي بها على الصفحة الأخيرة (ص 195) . وبين الصفحتين تتكرر هذه المفردة العديد من المرّات . ولمعلومات القاريء وبعيدا عن النوايا الدلالية التي خططت لها إنعام أقول إن الثقافة العراقية كانت تتحدث عن موضوعة “الحزن” العراقي .. في الغناء .. في الشعر .. في سلوك .. إلخ . لكن في مقابلة تلفزيونية أدارتها مذيعة كانت تتولى منصبين بالإضافة إلى منصبها كمذيعة – وهذا بقرار من مجلس قيادة الثورة – لأن العراق خال من الكفاءات، قال الفنان الذي التقت به في برنامجها : لدينا حزن عميق .. فقاطعته فورا : لا عيني لا .. مو حزن .. شجن .. أوي ..
ومنذ تلك اللحظة شاعت مفردة الشجن بدلا من مفردة الحزن العميقة المعبرة رغم أن اللفظتان مترادفتين قاموسيا . لكن يبقى الجذر “حَزَنَ” أشد وقعا في النفس منن الجذر “شَجَنَ” ، وهذا يجد تفسيره في نظرية العلامة العراقي الراحل “عالم سبيط النيلي” اللغوية الجديدة التي دحضت نظرية سوسير ، وذلك في كتابه : “اللغة الموحدة والحل القصدي للغة” من خلال القيمة الصوتية والفعل النفسي لحرف الحاء والزاي في الجذر حزن ، مقابل حرف الشين والجيم في الجذر شجن . وفي بداية السبعينيات منعت الحكومة العراقية الضحلة أجمل الأغاني العراقية من الستينيات والخمسينيات والأربعينيات بدعوى أنها حزينة والإنسان الإشتراكي الجديد لا يعرف الحزن.. هو فرحان ومبتسم دائما (أي مواطن سفيه هذا ؟! ) .. بعد سنوات عادت الحكومة عن قرارها . هذه الخفة والتخريجات السلطوية التافهة “الطفلية” توقّفت عندها إنعام كجه جي ناكئة الجرح ، وبمهارة ، بإصبع بارد وساخر وذلك حين عرضت وقائع عدة منها اثنتان مهمتان مضحكتان ومؤلمتان في الوقت نفسه ، تكشفان لك أي عقول تافهة كانت تتلاعب بمصائر العراقيين في ظل النظام السابق :
-الأولى هي التي شُلت فيها أحوال عائلة موصلية كاملة واعتقل قسم من رجالها واقتُحم بيتها من قبل رجال الأمن بسبب لفظة موصلية عريقة أوّلوها “بوليسيا” وهي مفردة “صندويلات” وهي مصارين البقر الواسعة التي تحشى بخليط اللحم والثوم والبهارات لعمل الباسطرمة. أوّل رجال الأمن البغاة هذه اللفظة كرسالة مشفّرة كناية عن البنادق والرشاشات التي تختزن ضد الثورة !! (ص 51 – 53) .
-أما الثانية فهي يوم سألت جدتها عن المستطيل الشبحي الذي على الجدار وكأنه مكان صورة منزوعة فأجابتها بأن طاووس جاءت ذات يوم وقالت لهم إن صدام يزور الناس في البيوت .. ونصحتهم بشراء صورة له توضع فوق التلفزيون .. علّقوها فوق الصليب !! ولكنه لم يأت . ولما انتهت الحرب رفعوها !!
# تسطيح معاناة حتى الأمهات الأميركيات المثكولات :
—————————————————-
ولا تتيح لنا زينة أي فرصة إنفعال حقيقي على الإطلاق . فهناك فصول تدور حول مواقف شديدة الجدّية والـتأزم ، وينبغي – فنيّا ونفسيا ، وهذا ما يدركه أبسط سارد- أن يكون المدخل الإستهلالي في الفصل تحضيريا يعدّ المتلقي ويهيّئه لاستقبال الثيمة المركزية الصادمة . عوّدنا جماعة الواقعية السحريّة على تناقض المداخل والمخارج إمعانا في المفارقة وبشكل مقحم وحتى سخيف أحيانا ، كأن يحصل العاشق المتيم في رواية الحب في زمن الكوليرا على أول نظرة من حبيبته فرمينيا داثا بعد صبر سنوات عدة فيكون رد فعله أن “يخرى” على نفسه!!. لكننا أمام رواية تجري وسط الجحيم ، وكل تفاصيلها تبعث على التوتر والقلق والحزن . خذ مثلا الفصل السابع والعشرين الذي خصصته الكاتبة لمأساة إنسانية – سنجد قريبا أن مآلها النهائي رشوة مضافة – هي مأساة “ريجينا بارنهيرست” الأم الأميركية التي فجعت بمقتل ابنها في احتلال العراق ، لقد استهلته الكاتبة على الشكل التالي :
(تتقشّرالغشاوات عن حدقات الأعين مثل طبقات قشرة البصلة. تحزّ طاووس البصل بالسكين حزوزا جانبية . تغمسها في ماء مغلي فيسهل عليها سلخ طبقاتها. إنها الخطوة الأولى في فالس “الدولمة”.هل تسمحين لي بهذه الرقصة يا آنستي ؟ – ص 140 ) .
هذا الإستهلال الساخر بـ “فالس الدولمة” و “طلب الرقصة” هو الذي صممته إنعام للوصول إلى “المتن” المتمثل بفاجعة الأم الأميركية “ريجينا بارنهيرست” ممثلة لمأساة الأمهات الأميركيات اللائي فجعن بمقتل أولادهن في العراق وكانوا جزءا من جيش الإحتلال الذي :
وأتساءل هل طلبت أنا كمواطن عراقي هذا الجيش الغازي كي يأتي ليدمر وطني ، وهل أنا ملزم إنسانيا أو شرعيا ، بأن أحزن على من يُقتل في بلدي من الأميركان ، وقد جاء ليحتله قاطعا آلاف الكيلومترات . أنا من حقي – وهنا تثبت طبيعة الرشوة الفكرية والعاطفية بصورة قاطعة – أن أسأل إنعام كجه جي عن عدد العراقيين الذين قتلهم الجندي الأميركي “إريك هيرزبيرغ” إبن جينا كما تلقب قبل أن يقتل بطلقة قناص ؟! ومن المهم أن تتأكد إنعام من عدد العراقيين والعراقيات الذين سفح دمهم “لورنس” إبن “ليزا فيليبون” قبل أن يُقتل في اشتباك بالقرب من الحدود السورية ، وعن عدد الأطفال الأبرياء العراقيين الذين سحقهم الكابتن “بريان ليتندر” قبل أن يُقتل في تفجير انتحاري في العراق (وتسويد مفردة الإنتحاري من عندنا لأنها ضمن لعبة الحرب اللغوية الإصطلاحية الأميركية التي يناقض مصالحها وصف تفجير استشهادي مثلا .. أليس من يفجر نفسه ويقتل جنديا يحتل بلاده شهيد ؟ أليس هذا ما تقره كل الشرائع السماوية والدساتير الوضعية ؟ كيف واجه الأميركان المحتل البريطاني قبل قرون ؟ ).
وحتى مآسي الأمهات الأميركيات المتعبات تسفّهها إنعام بطلب الرقصة الذي يلح على بالها باستمرار . الآن إنعام – ولا تقولوا لي إنها زينة .. أنا مقتنع بلا رجعة بأن الكاتب هو المؤلف الحي الذي لا يموت ، وسحقا للأطروحات البنيوية- تصف معاناة هؤلاء الأمهات المحطمات فتقول :
(هنا ، على شمرة عصا من الكونغرس والبيت الأبيض ، تعرّفت ليزا على عشرة ثكالى وشكّلت معهن ناديا لأمهات الجنود القتلى في حرب العراق . ثم بدأت نساء أخريات في الإنضمام إلى النادي . هل تسمحين لي بهذه الرقصة يا ماما ؟ – ص 142 ) .
وفي الوقت الذي يبدو فيه هذا الموقف الوصفي السردي للمتلقي العراقي المحطّم – وحتى الأميركي – في غاية السخف والاستهتار بمشاعر البشر المثكولين حتى لو كانوا من أبناء وطنها المتفضل الذي منحها الجنسية ، فإنه – ووفق معطيات التحليل النفسي – يكشف لنا – مع الدلائل السلوكية السابقة واللاحقة التي سوف تأتي – عن بنية نفسية سايكوباثية ، هي في الواقع من صنف القتلة ذوي الدم البارد – cold blood killer ” هل كانت هذه البنية هي التي جعلتها لا تعيش معاني الحب الحقيقي في بلد الانفتاح والإباحية كما تقول ؟ وهل هي التي دفعتها للتطوّع في مهمة من أول احتمالاتها هو القتل أو قطع الرأس؟ .
يتعزز هذا الإستنتاج من خلال الحركة شبه الختامية لهذا الفصل الذي نتحول فيه من آلام الأمهات الأميركيات المحطمات- كما يُفترض- إلى حركات الزوار المصورين الاستعراضية ، إلى وصف آلات التصوير ( وهذه من سمات الشخصيات النيكروفيلية الخطيرة ) .. واسترجاع ذكرى “جاكي” زوجة الرئيس “جون كنيدي” التي تعهّرت بزواجها من أوناسيس الملياردير العاجز .. وورثته .. يا إلهي ما هي الفسحة السردية الشرعية لهذا المشهد ؟ .. هل من الضروري أن نستشير روائيا ساردا خبيرا مثل غائب طعمة فرمان أو فؤاد التكرلي أو غيرهم .. ممن لم يكونوا يضعون نقطة بسيطة إلا إذا نزلت على رأس حرف سردي يعزز أواصر الربط بين حلقات السلسلة السردية ويؤجج تأثيرها النفسي ؟ نحن أمام “روائية” مدحوها بمجاملات وبلا وجه حق . وها نحن نواجه وعبر سنتين مضاعفات هذه المجاملات التي قادها (…) بمقالته القصيرة والتي تشي بمهادنته وبأنه كان يإمكانه أن يفصح عن تحليلات أكثر وأكثر .. لكن لعن الله حياة المنافي .. طبعا المنافي غير السياحية . تقول إنعام – ومن هنا لن نعود إلى زينة الخائنة ، بل إلى خالقتها التي تتشارك معها في كل شيء ، فنحن ممن يؤمنون بأن المؤلف هو الحي الذي لا يموت كما أسلفنا ونعيدها للمرة الألف :
(تنمو الحشائش أكثر خضرة في أرلنغتن. مقبرة العاصمة. يأتيها أربعة ملايين سائح ، كل عام . يمرّون أمام ضريح الجندي المجهول، يلتقطون الصور وهم يبتسمون للكاميرات الإلكترونية الصغيرة والهواتف النقالة ، ثم يتوجهون للوقوف مطولا أمام قبر الرئيس جون كنيدي، ينظرون إلى صورته ويفكرون بأن جاكي وقفت هنا ، وأن أقدامهم قد تقع على موضعي قدميها . كان أبي يقول “وقع الحافر على الحافر” – ص 143 ) .
وحين أنتقل الآن المقطع التالي الذي يلي الاقتباس السابق مباشرة بكامله ، فلإن تأسيس منظور الطبيعة السيكوباثية الذي افترضناه من أدبيات علم النفس الكلاسيكية، أو “النيكروفيلية” وفق المصطلح الذي اجترحه العالم النفسي “إريك فروم” حديثا نسبيا ، أواخر الخمسينيات ، يقوم في جانب كبير منه على هذه السمات التي اكتسحت المسار السردي في الرواية باكملها ، والذي يشي باندفاع عارم للمؤلفة لـ “التماهي” مع بطلتها ، وتمرير حفزاتها المكبوتة والمعطلة طويلا :
(يختلط زوّار القطّاع 60 بالسيّاح فلا يعود ممكنا التمييز بينهم ، يتفرجون على الكاسيتات والكاميرات ذات الأسماء الرياضية ، وقناني الماء المعدنية تطل من الحقائب الخفيفة . يرون شاشات الهواتف مشرعة في كل الأيدي، تلتقط صور الصفوف اللامتناهية للشواهد البيض . أحجار دومينو (كذا!) حُفرت عليها أسماء وتواريخ بدل النقاط السود. يعود السيّاح إلى الحافلات التي تنتظرهم في موقف السيارات . تبقى الأمهات جالسات أمام الشواهد الواقفة تحرس رؤوس الغائبين – ص 143 ) .
# وقفة نظرية ثانية :
——————–
إن صاحب الطبع النيكروفيلي يهتم عادة بـ “الأدوات” والمظاهر الجامدة أكثر من اهتمامه بالمشاعر والإنفعالات العميقة . وهذا الطبع هو الذي يميّز شخصية الفرد في الغرب عموما ، وفي الولايات المتحدة خصوصا . إن هذا الفرد يصرف اهتمامه عن الحياة والأشخاص والطبيعة والأفكار – وباختصار عن كل ما هو حيّ ؛ ويحوّل الحياة كلها إلى أشياء ، وفي جملتها نفسه وتجليات قدراته الإنسانية على العقل والرؤية والسماع والتذوّق والحب . وتصبح الدوافع الجنسية مهارة تقنيّة ” آلة الحب ” ، وتتسطح المشاعر وفي بعض الأحيان يحل محلها الإفراط في تغليب العاطفة ، ويحل الهزل أو الهياج محل الفرح ، الذي هو التعبير عن الحيوية الشديدة ، ويتوجّه كل ما لدى المرء من الحب والرقة إلى الآلات والأدوات الصناعية . ويغدو العالم مجموع المنتجات الصناعية التي لا حياة فيها .. يصبح الإنسان كله جزءاً من الآلية الكلية التي يسيطر عليها ، وفي الوقت نفسه تسيطر عليه . وليست لديه خطة ، ولا غاية في الحياة ، إلا ما يحدد له منطق التقنية أن يفعله . ووفق هذا الطبع رصدت زينة ما يجري في مقبرة الجنود الغزاة القتلى الأميركان وردود فعل ذويهم بصورة تقرب من وصف حفل مسرّ أكثر منه مشهد لموقع يستثير عواطف الأسى والإنكسار. فمن “فالس الدولمة” إلى “هل تسمحين بالرقصة يا ماما ؟” .. فاستذكار العزيزة الجميلة “جاكي” .. فقطع الدومينو … إلخ . ( ولكن الرابطة الأخرى التي من غير الممكن ألا تخطر في البال ونحن ندرس طبع الإنسان المغترب كلّياً والخاضع لعلم التحكّم هي : خصائصه الفصامية . ولعل الخصلة الأدعى إلى الإنتباه هي الانقسام بين الفكر – العاطفة – الإرادة ( وقد كان هذا الإنقسام هو الذي شجّع ” أويجين بلويلر ” على اختيار اسم ” الشيزوفرينيا – schizophrenia ” [ الفُصام ] من الكلمة اليونانية schizo ومعناها الانقسام ، و phren ومعناها النفس لهذا النمط من المرض ) . وفي وصفنا لإنسان علم التحكم كنّا قد رأينا بعض الأمثلة التي توضح هذا الإنقسام ، في غياب العاطفة عند الطيّار القاذف للقنابل والصواريخ ، مثلاً ، الممزوج بالمعرفة الواضحة أنه يقتل مائة ألف إنسان بضغطة زر ، ولكننا لسنا مضطرين إلى الذهاب إلى أمثال هذه الأحوال المتطرفة لملاحظة هذه الظاهرة . وكنا قد وصفناها في تبدّياتها الأكثر عمومية . وإنسان علم التحكّم يكاد يكون موجّهاً بالعقل حصرياً : إنه إنسان أحادي التفكير . فمقاربته للعالم الكلي حوله – ولنفسه – مقاربة عقلية ؛ وهو يريد أن يعرف ما هي الأشياء ، وكيف تؤدي وظيفتها ، وكيف يمكن تركيبها والاحتيال عليها . وهذه المقاربة قد غذّاها العلم ، الذي أصبح مهيمناً منذ نهاية القرون الوسطى . وهذه هي الماهية الصميمية للتقدم الحديث ، وهي أساس السيطرة التقنية على العالم والاستهلاك الجماعي .
فهل في هذا التوجّه أي نذير بالشر ؟
وبالفعل ، قد يبدو أن هذا الجانب للتقدم ليس منذراً بالشر لولا بعض الحقائق التي تبعث على القلق . أولاً ، إن هذا التوجه ” أحادي التفكير ” لا يقتصر وجوده على المنهمكين في العمل العلمي ، فهو مشترك في قسم هائل من السكان : في العمال الكتابيين والباعة والمهندسين والأطباء والمدراء ، وبصورة خاصة في الكثير من المفكرين والفنانين ،- وفي الواقع ، يمكن أن يقدّر المرء أنه موجود في معظم السكان المدنيين . فهم جميعاً يقاربون العالم بوصفه كتلة ململمة من الأشياء التي يجب فهمها لتُستخدم بصورة مجدية . ثانياً وليس أقل أهمية ، فإن هذه المقاربة الدماغية العقلية تسير مع غياب الاستجابة العاطفية . ويمكن للمرء أن يقول إن المشاعر قد ” جفّت ” لا كُبتت ، وبالنظر إلى أنها حيّة ، فإنه لا يُعتنى بها ، وهي فجّة نسبياً ؛ وهي تأخذ أشكال الشغف ، كالشغف بالكسب ، وإثبات التفوق على الآخرين ، وبالتدمير ، أو الاهتياج بالجنس والسرعة والضجة . ويجب أن يُضاف عنصر آخر : إذ يتصف الإنسان إحادي التفكير بملمح آخر مهم جدا : هو نوع من النرجسية يكون موضوعها بالنسبة إلى الشخص جسده ومهارته – وباختصار نفسه – بوصفها وسيلة للنجاح . والإنسان أحادي التفكير هو جزء من الآلات التي أنشأها إلى حدّ أن الآلات تكون موضوعاً لنرجسيته كما هي ذاته تماماً ؛ وفي الواقع ، يوجد بين الطرفين نوع من العلاقة التواكلية وهي ” اتحاد ذات فردية واحدة مع ذات أخرى ( أو أية سلطة أخرى خارج الذات نفسها ) على نحو يجعل كلاً منهما يفقد سلامة ذاته ويجعل كلاً منهما معتمداً على الآخر ” . وبالمعنى الرمزي لم تعد الطبيعة هي أمّ الإنسان التي تغذّيه وتحميه بل ” الطبعة الثانية ” التي بناها ، وهي الآلات ) (16)
( والملمح الآخر في إنسان علم التحكم ، وهو ميله إلى التصرّف بطريقة رتيبة وغير عفوية ومقولبة ، موجود في أعنف شكل له في الكثير من المقولبين الاستحواذيين الفصاميين . وأوجه الشبه بين المرضى الفصاميين والإنسان أحادي التفكير لافتة للإنتباه ، ولعل الأدعى إلى الانتباه هو الصورة التي يقدمها صنف آخر غير متماثل مع ما يُربط الآن بالفصام ، هو صنف ” الأطفال المنسحبين من الواقع – autistic children ” …(وهذه سمات زينة في جانب كبير منها ) وهذه أهم سماتهم : (1) فقدان التفريق الاصلي بين الحي والمادة التي لا حياة فيها . (2) التعلّق بالأشياء غير الحيّة ، كالكرسي أو الدمية ، ممزوجاً بالعجز عن التواصل مع شخص حي ، ولاسيما أمهاتهم ، اللواتي كثيراً ما يذكرن أنهن ” لا يستطعن الوصول إلى أطفالهن ” . (3) الدافع الاستحواذي إلى ملاحظة التماثل الذي هو ملمح كلاسيكي في الانسحاب الطفلي من الواقع (4) الرغبة الشديدة في أن يُترك وحده ورفضه لكل مطالبة بالاحتكاك الإنساني والاجتماعي (5) استخدام اللغة ( إذا تكلموا ) لأغراض احتيالية ، ولكن ليس بوصفها وسيلة للاتصال الشخصي المتبادل . إن هؤلاء الأطفال المنسحبين من الواقع يأمرون ، بالإشارات والإيماءات ، البالغ بأن يؤدي دور الامتداد التنفيذي من النوع الآلي شبه الحي أو غير الحي (6) تركيزهم المنخفض نسبياً من طاقتهم النفسية على سطح جسمهم ، مما يُفسر نقص حساسية الألم عندهم إلى حدّ كبير . وبالإضافة إلى النقص التركيزي في مركز الحسّيات هناك الافتقار إلى ترتيب المراتب ، وعدم الحساسية الجنسية بالنسبة إلى المناطق المختلفة من الجسم وتتابع هذه الحساسية .
وأنا أشير بوجه خاص إلى عدم التفريق بين ما هو حي والمادة غير الحية ، وعدم تواصلهم مع الآخرين، واستخدام اللغة للاحتيال لا للتواصل، واهتمامهم الراجح بالآلي وليس بالحي) (17)