إشارة : بعد أن أكمل الناقد حسين سرمك حسن كتابه “شاكر خصباك وفن البساطة المركّبة” وأرسله إلى خصباك للإطلاع عليه، فوجيء بأن الأستاذ خصباك –ولأول مرة- لم يرد على رسائله برغم تكرارها. ثم جاءت الرسالة المريرة من الأخ الدكتور ثامر نجم عبد الله لتخبرنا أن خصباك الذي لعبت به يد المنافي الظالمة من اليمن إلى الولايات المتحدة قد أصيب بفقدان الذاكرة بعد وصوله الأرض المشؤومة. هل سيرحل عنا خصباك وحيدا وغريبا وبلا وداع ومن دون رعاية ؟ .. هذا ما نتوقعه للأسف في زمن الخراب العراقي هذا.
( ومن العسير جدا – بحكم قوانين الدلالة اللغوية وتحركها الجدلي على محور الزمن – أن ننعت العربي الآن بالغباء أو حتى بالغفلة إذا استعمل لفظ (كنيست) ولم يستعمل (المجلس النيابي للكيان الصهيوني) أو قال (المستوطنات الإسرائيلية) ولم يقل (المستعمرات الصهيونية) . إن القضية هنا لا تتصل بالاستعمال اللغوي ، ولكنها تتعلق بالوعي الإيحائي المندرج ضمن خانات التداول . نحن هنا حيال آليات إنتاج المعنى أكثر مما نحن حيال المعنى ذاته ) (7) .
ثم يختم المسدي كلامه المهم هذا بوضع إصبعه على الجرح اللغوي الملتهب ليس في جسد الخطاب العربي حسب بل في العقل العربي ذاته فيقول :
( والعرب – ليقينهم بأنهم هم أهل الفصاحة والبيان – فاتهم أن السياسة في زمننا تُطبخ في ورشات صناعة الخطاب قبل أن تُبسط على موائد التهام القرارات . إنه لن يحذق السياسة من لم يتقن لعبة اللغة . وماننفك نردد ونكرر أنه لن يُغني العرب مال ولا مجد ولا عدد ما لم يتمرّسوا بآليات الخطاب في زمن صناعة الخطاب . ولن نني في الإلحاح بأن للوعي الثقافي الجديد بابا متعيّنا ، ألا وهو إعادة اكتشاف علاقتنا باللغة ) (8) .
# السقوط في “مستنقع التسميات ” :
وها نحن الآن نسقط في مستنقع تسميات ، وليس تسمية ، جاء بها الإحتلال . فسابقا وحين يسأل الطفل أباه عن معنى مصطلح “التحرير” يجيبه ببساطة بأنه تحرير البلاد من السيطرة الأجنبية ، ويضرب له مثلا ، بل أمثالا على ذلك ، فيقول له كما حصل الحال في ثورة العشرين أو في ثورة الجزائر وغيرها ، الآن – وبالتخطيط الأميركي المسموم – فقد أصبح معنى التحرير مجيء قوات أجنبية لتحتل بلدا من أجل إسقاط حاكمه المحلي !! (طبعا هذا لا يعني أن الحاكم كان جيدا ، ولم يكن طاغية) .
(علي : أنت يا زكي تتجنى على أبناء الشعب البسطاء .. فأعمال النهب قد شارك فيها ولاشك قوى أجنبية وعصابات عالمية … إلخ .. لنشر الفوضى في البلاد لإسقاط “التجربة الجديدة”
زكي : دعك من التبريرات يا علي وعلينا أن نعترف بخيبة أملنا في شعبنا . لم يعد أحد منهم يؤمن بالمثل الأخلاقية إلا القليلين منهم ، وأنا شخصيا لم أكن تصور أن يتواجد بيننا هذا العدد الهائل من اللصوص ، بل واللصوص المهرة الذين صاروا من اصحاب الملايين بين ليلة وضحاها وهم الذين سُمّوا بـ “الحواسم” .
علي : ولكنك تتجنّى فعلا على أبناء الشعب يا زكي ، ومن المؤكد أن الكثيرين من النهّابين كانوا ينتمون إلى عصابات عالمية .
زكي : (بسخرية مرّة) وماذا عن الموظفين الذين ينهبون أموال الدولة حتى على مستوى وزراء العهد الجديد ؟ هل هم أعضاء في عصابات عالمية ؟
علي : ما يقوم على خطأ ينجم عنه الخطأ يا زكي . وكان أكبر خطأ القبول بقيام قوة خارجية بإسقاط النظام . وهذه هي النتيجة .
يوسف : قولك صحيح يا علي .
زكي : فلنكن واقعيين يا علي . هل كان بإمكان قوى المعارضة إسقاط ذلك النظام الجبّار الذي رسّخ نفسه لخمسة وثلاثين عاما ؟! لقد انتفع جماعته بمقولة هتلر الشهيرة “جئنا إلى برلين لنبقى ) . ولم يسقط هتلر فعلا إلا بقوة خارجية . ولقد ثبت أن الطاغية وزّع الاسلحة ووسائل التدمير على أتباعه للوقوف أمام أية محاولة للإطاحة به . وقد أودعت تلك الاسلحة في مخابىء سرية في جميع أنحاء البلاد .
علي : على أية حال أنها لقضية شائكة ومحيّرة حقا يا زكي . وكأن هذا قدر شعبنا ، وما علينا إلا أن نتحمل النتائج . ولكن ينبغي ألا تُضعف أمثال هذه السلبيات من ثقتنا بشعبنا – ص 5 و 6 ) .
وهنا ، وعبر هذا الحوار الموجز تتضح أبعاد الخوض في مستنقع التسميات والمفاهيم بجلاء .. فرفاق ثلاثة عاشوا عمرا سوية ، ومتحوا من معين فكري واحد .. وينتمون إلى حزب واحد .. يواجهون هذا الاختلاف العميق في تفسير ما حصل .. وهو أمر يسمى ببساطة إحتلالا . وحتى بالنسبة لظاهرة السلب والنهب فهي ظاهرة متكررة في سلوك الفرد العراقي ينبغي عدم التقليل منها مثلما يجب عدم تضخيمها . فقبل أيام حصلت حوادث سلب ونهب في لندن .. وقبلها في الولايات المتحدة وفرنسا وغيرها ، ولكنها ليست بالسعة والتواتر الذي حصل في المجتمع العراقي .
# وقفة مع ظاهرة السلب والنهب :
———————————–
وهذه ظاهرة خطيرة جدا في حياة المجتمع العراقي ، نبّه إليها الوردي كثيرا ودعا إلى تفحّص عواملها وسيرورتها التاريخية . ولأن لا أحد من المرجعيات السياسية التي تتحكم بالسلطة يريد رؤية الحقائق “المزعجة” التي يعرضها الوردي ، فقد استمرت ظاهرة سلب ونهب المدن في المجتمع العراقي . وهي ظاهرة بكل معنى الظواهر الاجتماعية السلبية التي تفتك بالمجتمع . كما أنها ظاهرة تاريخية منذ ظهور دويلات المدن السومرية كما أشار إلى ذلك “صموئيل نوح كريمر” الذي بين أن أكبر عدد من مراثي المدن في الحفريات الأسطورية عثر عليه في أرض سومر . فهناك مراث لأور وأخرى لنفر وثالثة لأكاده وهكذا . في مرثية لأور يتفجّع الراوي على خسارته لممتلكاته التي نهبت :
“لقد سلبت ممتلكاتي ، كما لو كان سالبها جرادا كثيفا زاحفا
آه ، يا لممتلكاتي أقول
ممتلكاتي ، من جاء من الأراضي السفلى ، أخذها إلى الأراضي السفلى
آه ، يا لممتلكاتي سأقول
ممتلكاتي ، من جاء من الأراضي العليا ، أخذها إلى الأراضي العليا
آه ، يالممتلكاتي سأقول
معدني وحجري الثمين وحجري اللازوردي قد بعثرت هنا وهناك …”(9)
وهذه مرثية أخرى لأور تذكرك بحرق وسلب المدن العراقية سنة 1991 :
” إيه أبانا ( نانا ) إن تلك المدينة قد حوّلت إلى رميم
وملأ شعبها ، وليس كسر الفخار ، كل محلاتها
وتصدّعت جدرانها والناس يئنون
في أبوابها العالية ، التي كانوا فيها يتنزهّون ، رميت جثث الموتى
وفي شوارعها المشجرة ، حيث كانت تُنصب الولائم استلقوا متناثرين
وفي كل طرقاتها التي كانوا فيها يتنزهون سجت جثث الموتى
وفي ميادينها حيث كانت تقام الإحتفالات استلقى البشر بالأكوام
( أور ) التي أكل الجوع أقوياءها وضعفاءها
وكوت النيران الآباء والأمهات الذين لم يبرحوا منازلهم
والأطفال المضطجعون في أحضان أمهاتهم
كالأسماك حملتهم المياه بعيدا
وفي المدينة هُجرت الزوجة وهجر الابن وانتثرت الممتلكات في كل جانب
أواه ( نانا ) لقد دُمرت ( أور ) وشُرّد أهلها …” (10)
و “لم يُعثر حتى اليوم على نماذج لمراث حثّية أو كنعانية أو فرعونية. ومن المعتقد اليوم أن أصول المراثي التوراتية هو سومر، والبكاء على حائط سليمان في أورشليم ليس إلّا استعادة لما دشّنته مدن سومر منذ أكثر من 4000سنة ق. م ” .
ويمضي بنا الزمان ومسيرة سلب ونهب المدن وحرقها وتخريب بنيانها لا ينقطع . هذا الشاعر ( ابن الرومي ) يبكي في قصيدة طويلة البصرة التي سلبها وأحرقها الزنج :
لهف نفسي عليك أيتها البصرة لهفا كمثل لهب الضرام
لهف نفسي لجمعك المتفاني لهف نفسي لعزّك المستضام
أين تلك القصور والدور فيها أين ذاك البنيان ذو الإحكام
بٌدلت تلكم القصور تلالا من رماد ومن تراب ركام
وقد سار “بعد خراب البصرة” مثلا بين الناس .
أما بغداد وكما يقول “باقر ياسين” في كتابه “تاريخ العنف الدموي في العراق” فقد أحرقت وسلبت بعد حرقها وسلبها على يد هولاكو إثنتي عشرة مرّة .
يصف الوردي حال بغداد في تلك الليلة الليلاء – 10 آذار 1917- التي انسحبت فيها القوات التركية منها ، وهي ليلة اجتمع فيها ظلام الليل وغبار العواصف الشديدة ، فيقول :
” أخذ الأتراك ينسفون مخازن الذخيرة التي يمكن أن يستفيد العدو منها … كما نسفوا باب الطلسم لوجود مخزن للذخيرة فيه وهو من أبواب بغداد القديمة ويعد من كنوزها الأثرية . وقد هزّ نسفه المدينة هزّا عنيفا . وقد انتهز السجناء الفرصة في تلك الليلة كذلك ، إذ هم لم يكادوا يسمعون بانسحاب الحكومة حتى أسرعوا إلى أبواب سجونهم فحطموها ثم انطلقوا نحو الاسواق والخانات ومحلات اليهود والنصارى يكسرون أقفالها ويعيثون فيها نهبا وتخريبا . وانضم إليهم غوغاء المدينة وضواحيها وبذا أخذ نطاق النهب يزداد اتساعا ساعة بعد ساعة … وشب الحريق في بعض الخانات والأسواق وكان سبب ذلك ان بعض الناهبين أوقدو أوراقا وخرقا للاستضاءة بها اثناء النهب ثم رموها دون ان يهتموا باطفائها ، فامتدت النار منها إلى البضائع الموجودة وأخذت تتسع شيئا فشيئا دون ان ياتي احد لاطفائها , فقد كان الناس ليلتئذ كأنهم في يوم الحشر ، كل واحد منهم يهتم بنفسه ولا يبالي بغيره . واستمر النهب طيلة الليل ، وعند الصباح استفحل واتسع نطاقه بعد أن هدأت الريح ، فأخذ الكثير من الأطفال والصبيان يشاركون فيه .. وأصبحت دور الحكومة ودوائرها طعمة للغوغاء يعيثون فيها كما يشاؤون فلم يبق فيها شيء من الكراسي والمناضد والرفوف حتى الأوراق والاضبارات بعثرت ومزقت تمزيقا ، كما حطمت الأبواب والشبابيك لاستخراج الخشب والحديد منها . وكذلك فعل الغوغاء بدكاكين باعة الكتب والقرطاسية في سوق السراي” (11) .
وهذا المشهد تكرّر تفصيليا في المدن العراقية وكأنه شريط فيلم مسجل أعيد عرضه في أحداث عام 1991. ثم وقع من جديد وبتفاصيله المشؤومة في بغداد بعد دخول القوات الأمريكية الغازية سنة 2003. والوردي بخلاف كل من أرّخوا وحلّلوا وقائع ثورة العشرين يرى أن هذه الظاهرة ؛ ظاهرة السلب والنهب يجب أن تُكشف ونقر بها ثم نبدأ بتشريحها بالطريقة نفسها التي نتعامل فيها مع الجوانب الإيجابية للثورة . يقول الوردي إنه كان ذات يوم في مجلس وجرى الحديث عن ثورة العشرين والنهب الذي حصل في بعقوبة ، وكان أحد الحاضرين قد شاهد السلب بنفسه لكنه أنكره ، ولكن حين ألح عليه الآخرون قال إن النهب حصل في بعقوبة فعلا ولكني لا أحب أن أذكره مخافة أن يُنشر فيسيء إلى سمعة الثورة !! . ولأن الثقافة الشعرية الحماسية والنظرة الانفعالية إلى الأمور هي المسيطرة على تفكير وسلوك ولاة الأمور فإن لا أحد قد استمع للوردي فلدغ المجتمع العراقي من الجحر ذاته أكثر من مرّة كان آخرها وليس أخيرها السلب والنهب المدمر لمؤسسات الدولة الذي حصل بعد الإحتلال الأمريكي في 9/ نيسان / 2009 بمباركة وتسهيلات من القوات الأمريكية نفسها. ومما يؤكد المخطط الأمريكي المسبق في تدمير بنى الدولة العراقية عن طريق تشجيع وتسهيل سلب ممتلكاتها ثم حرقها هو رد وزير الدفاع الأمريكي آنذاك “رامسفيلد” عندما سأله الصحفيون لماذا لا تمنع القوات الأمريكية الغوغاء من حرق مؤسسات الدولة ببغداد فقال باستهتار وبابتسامة متشفية : إن لكل شعب طريقته في الإحتفال بالحرية !!! . لكن ما يهمنا هنا هو تأكيد الوردي على أن نزعة السلب والنهب كانت نزعة واضحة في مختلف مراحل حياة المجتمع العراقي . فهي من المظاهر السلوكية المتأصلة في البداوة ، فالبدوي ” نهّاب وهّاب ” حسب وصف الوردي ، وقد امتدت خصال البداوة في شخصية المواطن العراقي بسبب الصراع الدائم بين قيم الحضارة وقيم البداوة وما ترتب عليه من تناشز اجتماعي عاشه المجتمع العراقي وخصوصا بعد صدمة الحضارة الأولى ممثلة بالحرب العالمية الأولى ودخول القوات البريطانية بغداد في عام 1917 .
# عودة :
———–
وهناك إشارة أخرى لا تقل خطورة في هذا الحوار وتتمثل في خلل بنيوي تأصل في سلوك الحركات الثورية العربية عموما والعراقية خصوصا وهو إفراطها في “السلوك الحلمي” إذا جاز الوصف ، فهي حركات تحدوها الحماسة والإنفعال في التعامل مع الظواهر الواقعية ، وقد أعمت العاطفة الجامحة بصيرة قياداتها وقواعدها على حدّ سواء في رصد المتغيرات والإمساك بها ، وكانت في كثير من الأحوال تتعامى – سلوك النعامة – عن الظواهر السلبية التي شابت سلوك وشخصية الجماهير التي تصدّت لقيادتها وكانت وسيلتها وغايتها كما تقول في شعاراتها . ففي هذا الحوار الأول يصرّ علي كرمز للدور القيادي والعقل المفكر على أن شعبنا لم يكن يعرف كل هذه السلبيات التي تحصل على أرض الواقع بعد الاحتلال ، والتي جعلت زكي يقف موقفه المتشائم هذا . ومع تصاعد الحوارات والمونولوجات سنجد أن هناك الكثير من الدلائل التي تشير إلى ما هو عكس هذه النظرة “القيادية” العاطفية المتحمسة .
ويُستهل الحوار بما يشير إلى معاناة الأصدقاء الثلاثة من الحرمان الحسّي الذي يجعل حركة الزمن تختلط عليهم ، فلا يعلمون حدود الليل من النهار بسبب الظلمة الشديدة ، مثلما لا يستطيعون معرفة عدد الأيام التي أمضوها في غرفة المعتقل . فيرى يوسف أنهم أمضوا أسبوعا لأنهم ذهبوا سبع مرات إلى المرحاض ، وهذا ليس دليلا كما يقول زكي معترضا لأن الخاطفين يمكن أن يكونوا قد سمحوا لهم بمرة كل يومين . فيقترح يوسف اعتماد عدد وجبات الطعام وهذا لا يعني شيئا فالخاطفون لم يتقيدوا بمواعيد محددة لوجبات الطعام . وبشيء من السخرية يقترح زكي اعتماد الضرب الوحشي ، فيعترض يوسف إذ من الممكن أن يضربهم الجلادون أكثر من مرة في اليوم الواحد . وهذا الحرمان يلجأ إليه جميع الجلادين مهما كانت هوياتهم لغرض جعل الضحية تام الإعتماد على جلادها ، وهي الطريق الممهدة لإهارتها وتسليم مقدراتها للأخير الذي سيسهل عليه تشكيل استجاباتها.
3-حوار داخلي (مونولوج) :
وهي سلسلة التداعيات الداخلية الفردية التي تجري في ذهن كل واحد من الاصدقاء الثلاثة ، وفيها تتكشف حقائق تتعلق بشخصية هذا الصديق اولا ، وبالصديقين الآخرين ثانيا ، وبعائلته وعائلات صديقيه ثالثا ، وبالواقع الاجتماعي والسياسي لمجتمعه رابعا .
أ- يوسف : وسمة سلوك يوسف كما أشرنا سابقا هو أنه إنسان ذو طبيعة رومانسية يعتمد النظرة الحلمية التي تتطلب روحا متفائلة تتعالى على المعطيات الواقعية الصادمة ، وهو مصر على هذا الموقف وهم في أتون محنتهم هذه ، برغم أن سكين الجزار على رقابهم :
(نعم .. سأظل أحلم بانتهاء كابوسنا . وأنا أعلم أن هذا الحلم هو نوع من المعجزة . فكيف يتسنى لرفاقنا أن يجمعوا مليون دولار ؟ لكن الأحلام تراودنا لقهر المستحيل – ص 7 ) .
ومن خلال تداعيات يوسف نفهم أن يوسف هو إبن “ياقو النزّاح” وهي مهنة محتقرة في مجتمعنا برغم أننا لولاها لغرقنا في فضلاتنا ، وفي هذا جانب من الرد على ما يشيعه “علي” ، ومعه صديقاه ، إلى حد كارثة الأحتلال – حيث أيقظتهم من غفوتهم الشعارية الرغيدة الحقائق السلوكية بعدها – من أن شعبنا منسجم ومتلاحم وكله إيجابيات ذهبية . فأولا مجتمعنا يحتقر العمل اليدوي ، وخصوصا حين يتعامل مع التنظيف والفضلات !! . هذا الأمر هو الذي جعل يوسف يتهرب من صداقة زميله علي في ثانوية الكرخ ، إذ كان يعتقد أن من الأحلام المستحيلة لشخص مثله أن يتخذه إبن القاضي جواد الراضي صديقا له . حتى أبوه لم يكن يصدق بمثل هذه العلاقة ونصح إبنه بأن يبتعد عن هؤلاء الناس الكبراء . كان يخجل من مهنة أبيه ، لكن الأفكار التي يؤمن بها علي ، بالإضافة إلى سلوكه الشخصي وتربيته ، تقوم على رفض الفوارق الطبقية . وقد انرعب الأب والأم عندما أخبرهما ابنهما يوسف بأن علي سوف يزورهم في بيتهم . فهذه الزيارة تعني الفضيحة بالنسبة لهم . لكن علي امتلك قلوبهم جميعا خصوصا مريم الإبنة شقيقة يوسف .
ثم نفهم من خلال حوار يوسف الداخلي أن علي هو الذي أقنعه بالإنخراط في العمل السياسي من خلال الإنتماء للحزب . ثم عاش الأصدقاء الثلاثة أياما عصيبة عند أداء الخدمة العسكرية ، وكان الموت يتهددهم من كل جانب في جبهات القتال . وبعد أن أفلتوا من عجلة الحرب الطاحنة ، واجهوا البطالة والتشرد . لكن علي اقترح على صديقيه أن يفتحوا جميعا ورشة لتصليح الأدوات الكهربائية قام بتمويله هو ، فانتشلهما من الضياع .
وفي كل هذه المحطات يرسّخ الكاتب في أذهاننا السلوك الحلمي الذي يسم حياة يوسف . ففي حديثه عن إقناع علي له بالعمل السياسي يقول :
(وعندما اجتذبتني إلى السياسة فتحت لي أبواب الأحلام على مصاريعها – ص 8) .
وكان من المتوقع موضوعيا أن السياسة تفتح للفرد الذي يتعاطاها طريق الحسابات الواقعية المضنية ، فالحالمون لا يصلحون للسياسة أبدا . هؤلاء “شعراء” يتمتعون بعقلية شعرية لا تناسب بيدر السياسة بإطلاق . لكن خصباك صمم شخصية يوسف وفق هذه الصورة لتمرير رؤاه التي رسمها مسبقا بقصدية عالية . وليس عفويا اختيار اسم يوسف .. الذي هو في الموروث أكبر حالم .. حلم برؤيا الفجيعة .. ثم صار مفسرا للأحلام بطريقة جعلته أمينا على خزائن الطاغية .
ب- زكي :
وزكي أيضا يستهل مونولوجه بالإعلان بأنه مدين لعلي بأحلامه الآسرة في تغيير قوانين وأعراف المجتمع الجائرة . ومن جورها ما عاناه في دراسته منذ المرحلة الإبتدائية من مواقف تكشف – من جديد – أن الحديث عن لحمة وطنية متماسكة هي نظرة تفاؤلية مخادعة ، فكل رفاقه في المدرسة كانوا يسمونه “الكافر” وذلك لأنه من الطائفة الصابئة المندائية !! وحين كان يضرب من يشتمونه يقوم مدير المدرسة بمعاقبته . وحين تبلغ شكاوى المدرسة أباه كان الأخير يعاقبه أيضا ، فتراكمت شحنات النقمة في ذاته على المجتمع والحياة الجاحدة الجائرة ، وعلى اللاعدالة التي تسوده . كان ناقما حتى على أبيه ، وقد هجم عليه وعض يده ذات مرة مسقطا – كما يقول – مقولة “طاعة الأب من طاعة الخالق” . وهذه البنية التي جعلته “متوحشا” كما كان علي يصفه ، توجّه انتباهنا إلى قضية نفسية يثيرها المبدع خصباك – ومعلم فيينا كان يعلن دائما أن المبدعين هم اساتذته – حول احتمالية أن يكون الإنتماء السياسي منفذا لتفريج ضغوط الثورة على الأب ، وتحصيل الثأر من المجتمع ، وتفريغ شحنات العدوان الفردية . ألهذا السبب كان زكي متأهبا للتضحية بحياته من أجل العقيدة الجديدة ؟ ودائما عليك الحذر ممن يقفون على طرفي “المتصل – continuum ” المتقابلين : الحذر ممن لا يكترثون لأي شيء .. الخاملون في الحركة السياسية .. وممن يغالون كثيرا في التضحية في سبيلها على حدّ سواء . وزكي من هذا النوع تتخفى ثاراته وراء استار التضحية من أجل العقيدة .
وقفة :
——–
قال أحد القادة الشيوعيين السابقين معلومة في غاية الخطورة ، وهي أنه زار الرئيس العراقي الأسبق (صدام حسين) في مكتبه ، أيام كان نائبا ، ووقت قيام الجبهة الوطنية ، فوجد في مكتبه مؤلفات ستالين وأغلب ما كُتب عنه . فسأله ممازحا :
-سيادة النائب لديك أغلب ما كتب عن الرفيق ستالين .. هل أنت شيوعي ؟
فأجابه صدام حسين إجابة تستحق وقفة طويلة في التحليل النفسي لا يتسع لها المجال :
-وهل ستالين شيوعي ؟؟؟؟
ونستطيع القول وفق هذه الرؤية إن صدام حسين يقصد أنه هو نفسه لم يكن بعثيا !!
عودة :
——-
ويصف زكي حماسته المفرطة بالقول :
(وكنت كمن بُعث إلى الحياة من جديد ، ولشدة حماستي لتلك اللأفكار كنت متأهباً للتضحية بحياتي من أجلها . وكنت أنت نفسك يا علي تُضطر بين حين وآخر إلى التخفيف من غلوائي . فقد كنت أتصدر المظاهرات الوطنية دائما . وبما نني كنت متميزا بضخامة جسدي وقوته فقد كنت أتولى دائما حمل من يهتفون بشعارات المظاهرة على كتفي . وكثيرا ما تساقط الرفاق من حولي جرحى وقتلى برصاص الشرطة . ومرة سقط زميلي الذي كنت أحمله على كتفي صريعا بين اقدامي . لكن تلك المخاطر ما كانت إلا لتزيدني حماسا .. وكنت أنت يا علي تخشى علي من هذا الإندفاع خشية شديدة – ص 259 )
وفي لمحة نفسية مهمة وبليغة أخرى أشرنا إليها قبل قليل سريعا ، يشير زكي إلى أن أباه ( كان أشد موظفي دائرته تحمسا للطاغية رغم أنه يكرهه ، وظل يعلق صورته في غرفة الإستقبال إلى آخر يوم – ص 258 ) .
وهنا ينبغي التنبيه إلى أن من الحقائق التي اكتشفها التحليل النفسي – من منجزات معلم فيينا – هو أن الكره من الممكن أن يظهر في صورة حب عبر أوالية “التكوين العكسي- reaction formation ” من ناحية ومرورا بمرحلة “التضاد العاطفي – ambivalence “. فعندما يمر الطفل بمرحلة ( عقدة أوديب ) فانه ستعتمل في داخله مشاعر الغيرة والعداء نحو ابيه الذي يحبه الطفل بالرغم من ذلك حبا عظيما وهذا ما نسميه بـ ( التناقض الوجداني ) أو ( التضاد العاطفي ) : حب عميق وبغض شديد يتجهان تحو شخص واحد بعينه . وستكون المحبة الناتجة عن ازدياد شدة عاطفة الحب سببا لتماهي الطفل مع أبيه واكتسابه لخصائصه مدفوعة ببطانة الغيرة والعداء . وهذا التناقض الوجداني قائم خلف الكثير من الممارسات في حياة البشر . إنه موجود في العقدة الأوديبية وفي موقفنا من الموت وفي الموقف من الحرام وفي الموقف من السادة . فبعض الشعوب ترى ان على الملك أن لا يهدر قوته وطاقته مثل ( إمبراطور اليابان ) الذي كان اتباعه يغسلون جسمه ليلا وهو نائم وعندما يجلس على عرشه عليه أن لا يلتفت مطلقا لأن الجزء الذي سيلتفت إليه سيخرب من مملكته … فالعداوة تخنق في هذه الحالة تحت وقر الغلو المفرط في الرعاية والمحبة . فتوقير الملوك قديما تقابله عاطفة عداء دفين ( بعض القبائل تقوم بضرب الملك ضربا مبرحا في عشية اليوم السابق لتتويجه). والطقوس لا ترفع الملوك فوق مقام جميع الناس بل تحيل أيضا حياتهم إلى جحيم وقد سنحت الفرصة لسانشوبانشا بطل ( سرفانتس ) في روايته “دون كيخوتة” ما كان حاكما على جزيرته ليختبر في نفسه بالذات مدى صحة هذا التصور عن الطقوس في رواية ( دون كيشوت ) .
ويعلمنا التحليل النفسي بأن من الآليات الدفاعية المهمة التي يتبعها الفرد لا شعوريا للتخفيف عن دوافعه اللاشعورية الغير مقبولة وتفريغها بصورة مقبولة هو ما نسميه بـ ( التشكيلات الارتجاعيـة – Reaction Formation ) وفيها يظهر الإنسان أفعالا و عواطف هي بالضبط عكس ما يضمره في أعماقه . تصور فتاة صغيرة لها أخت اصغر منها تنافسها على حب والديها ورعايتهم .. سينمو في داخلها نوع من الانزعاج الذي يتصعد إلى كره لا يحتمل لا تسمح به القيم الدينية والاجتماعية فيولد في داخلها شعورا بالذنب يدفعها إلى إظهار عكس ما تبطنه أي العناية المفرطة بشقيقتها وتسريح شعرها وحمايتها وتقبيلها .
لقد كان آخر تصرف قام به من باع المسيح (ع) من اتباعه ومريديه هي (قبلة) طبعها على جبين النبي الطاهر قبل أن يسلمه لقاتليه .
ومن تاريخ الحركات السياسية نسمع في اكثر من مناسبة ان رفاق الأمس هم أعداء اليوم حيث كانت جمرة البغض تستعر بألم ومعاناة تحت رماد المحبة البارد إلى ان تلتهب تحت حدث بارز ما هو إلا غطاء للقطيعة وانبثاق المكبوت الدفين .
ومثلما أنهى الكاتب مونولوج يوسف بمراودة الأحلام المخدرة ، والإصرار عليها ، فإنه ينهي مونولوج زكي بوقفة ختامية مع الأحلام من موقع مغاير ، موقع ممتليء أسى على أحلام تهاوت وتشظّت بلا رجعة :
(ولكن وا أسفاه يا علي ، ها هي ذي أحلامنا تنتهي نهاية كارثية . وأصارحك يا علي أن قناعاتي بأفكار الحزب بدأت تهتز ، وأن ثقتي بشعبنا بدأت تنهار . وأنا حزين لذلك .. حزين جدا – ص 14 ) .
وفي الخاتمة ؛ خاتمتي حواري يوسف وزكي الذاتيين ، يصير الخطاب موجها إلى علي باعتباره الصديق المسيطر الذي قادهما إلى دروب النضال والسياسة . ولذلك من المتوقع – وبتخطيط من الروائي البارع – أن يأتي حوار علي الذاتي موجّها إلى صديقيه : يوسف وزكي .
ج- علي :
في حوار علي الذاتي – وانظر إلى التخطيط القصدي المحكم ، فالقصة القصيرة فن والرواية علم إذا جاز الوصف – يأتي الاستهلال أيضا بالحديث عن الأحلام لكن وفق منظور ثالث مغاير ناجم أساسا عن تركيبة شخصية علي وبنيته الفكرية :
(معذرة يا صديقيّ العزيزين أن انتهت أحلامنا العظيمة إلى مثل هذه النهاية المأساوية . فلعلني مسؤول عن سوقكما إلى هذا المصير . لكن الحلم الذي حاولت أن أشرككما فيه معي ينطوي على هدف نبيل يستحق كل تضحية .. وهو هدف تيسير التقدم لبلادنا وإشاعة العدالة للناس جميعا وإنهاء المعاناة الإنسانية التي فرضها الحكم المتجبر – ص 15 ) ( .. ) .
وفي مراجعة مهمة لمسيرة حزبهم السابقة – وهي حقيقة متفردة في تاريخ الحركات السياسية العراقية – يذكّر علي بحقيقة أن حزبهم كان الأنموذج الذي حقق حلما عراقيا عزيزا ، فقد جمع أبناء البلد الواحد بكل طوائفه ومذاهبه وأديانه . ولعل الأصدقاء الثلاثة أنفسهم هم أفضل تجسيد لهذه الحقيقة : مسيحي وصابئي ومسلم . ولاحظ نباهة الروائي الذي لم ينجرف مع التيار المتحمس الذي وظّف موضوعة الطائفية بصورة تصبّ في مصلحتها المدمرة النهائية . فقد حوّل بعض الكتاب موضوعة “الصراع” بين السنة والشيعة الذي فُجّر في العراق بعد الإحتلال ، فحوّلوه إلى مسلسلات ومسرحيات .. جعلوه “فنّاً” !! إن من المقبول الطرق على موضوعة التنوّع الديني : المسيحي والصابئي والمسلم ، لكن من غير المسموح تحويل الصراع بين الشيعة والسنة إلى “فن” سيعمّق الجزئيات ويرسخها ضمن الدين الواحد ، ولذلك لم يكن ممكنا – وفق رؤية خصباك الفذّة – أن يكون أبطاله أربعة اصدقاء : مسيحي وصابئي وسني وشيعي .
وعلي يحمل ذاته شعورا باهضا بالذنب لأنه قاد صديقيه إلى هذه الطريق التي أوصلتهما إلى حالة الندم والمراجعة القاسية ورثاء الذات التي يعيشانها الآن . لكنه يرى أن هذا كان قدره وليس قدرهما فقد نشأ نشأة غير نشأتهما ، فقد ترعرع بين يدي أب مثل أبيه يؤمن بالعدالة لكل الناس . (ولاحظ ارتباك التعبير حين يقول علي : “رُزقت” أبا مثل أبي !! ) .
ثم يستشهد بأستاذه القدوة الذي اختاره في مرحلة الإعدادية ليضمه إلى صفوف الحزب ، وهو الأستاذ “بلال” الذي اغتالته السلطة الديكتاتورية بطريقة مأساوية في ليلة سوداء . وهنا سيثور تساؤل خطير يكشف جانبا من جوانب الخراب الاجتماعي والتربوي الذي اشاعته الحركات الثورية السياسية العراقية . فمن مسلمات علم النفس المؤصلة أن الإنسان لا يصبح راشدا قادرا على دراسة معضلات حياته ، وظروف مجتمعه المحيطة به بصورة موضوعية وهادئة بعيدة عن الإنفعال ويصير مسؤولا عن تصرفاته بالمعنى “القانوني” ، إلا إذا تجاوز سن الثامنة عشرة . والحركات السياسية العراقية تفتخر بأن مناضليها الأشاوس كانوا ينضّمون طلابا في المرحلة الإعدادية ، بل في المرحلة المتوسّطة ، أي أنهم يقومون بتنظيم “أحداث” أغرار لا يعرفون من معاني العمل السياسي غير الحماسة وتأكيد الذات “التراجيدي” بالإخراج السينمي .. فهل هذا الفعل يمكن الفخر به ؟ ؛ أن تقوم بـ “توريط” فتية لم تكتمل مداركهم المعرفية وحدّة أحكامهم التقييمية ولم تصل مستوى العقل الراشد . هذا ما قام به الأستاذ بلال في مدرسته ، مع فتى من تلاميذه “أقنعه” بجدارة بالإنتماء إلى حزبه الثوري . وهنا يمسك خصباك بحلقات روايته ، فلا ينسى شيئا منها كما يحصل لدى البعض من الروائيين ، ومنهم مبرزون عالميا ، مثلما نسي “ماركيز” الطريقة التي قُتل بها ابن الكولونيل في روايته “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه” ، فقد رواها بطريقتين مختلفتين في موضعين من روايته . يعود خصباك وفقا لهذه الرؤية إلى الإشارة إلى أن زكي “انفعل” وقتها بطريقة هائلة وكان أعظم تأثرا لموت أستاذهم بلال حدّ الإنتقام من قتلته باغتيالهم .
يختم الروائي فسحة مونولوج علي هذه بمخاطبة صديقيه ، وبالعودة إلى موضوعة “الأحلام” ، ولكن – وكما قلنا – من مقترب مغاير :
(هكذا كان دربنا الطويل يا صديقيّ .. أياما تفيض حماسة وثقة وعزيمة .. أياما تعمر قلوبنا بأحلام عظيمة . وكنتما سعيدين سعادة بالغة بهذه الأحلام . وكنتما على استعداد للتضحية بكل شيء من أجلها . فهل تراني مصيبا في تخيلاتي هذه ، أم أنكما نادمان الآن على معرفتكما بي ؟! – ص 16 ) .