لي الشرف ان استعير عنوان مقالي المتواضع هذا من كتب تحمل نفس العنوان لأستاذي مدني صالح وهي ؛ هذا هو السياب ، هذا هو البياتي ،هذا هو الفارابي وهي كتب نقدية وفلسفية صدرت عن دار الشؤون الثقافية العراقية وهي تعكس عبقرية هذا الأستاذ الفاضل الذي كان لي شرف التلمذة على يديه خلال دراستي الجامعية في مادة الفلسفة . وعندما وجدت ان الشاعرة لميعة عباس عمارة قد قامت بتعريف وتقديم نفسها شعرا فوجدت ان من المنطقي ان اكتب هذا المقال بهذا العنوان . ولعل قصيدة ” عراقية ” التي عنونت بها مجموعتها الصادرة عن دار العودة هي صورة من صور هذا التقديم . والقصيدة كما بينا في دراسة أخرى (1) مهداة إلى الشاعر عمر أبو ريشة . لميعة كما تقول انها ” تشتهيها كل العيون ” كانت لها مكانتها بين مثقفي وشعراء جيلها فكانوا يتهافتون للحصول على ابتسامة أو نظرة استحسان منها . والقصيدة بالتالي هي من هذا النمط . فالشاعر عمر أبو ريشة كان من المعجبين بالشاعرة . فحاول التقرب منها ولكن دون جدوى كما تبين ذلك هذه القصيدة . لنقرأ القصيدة إذن . تقول لميعة :-
تدخنين ؟
لا.
أتشربين ؟
لا .
أترقصين .
لا .
ما أنت ِ ؟
جمع لا ؟
أنا التي تراني
كل خمول الشرق في أرداني
فما الذي يشد رجليك إلى مكاني ؟
يا سيدي الخبير بالنسوان
إن َّ عطاء اليوم شيئ ثان ِ
حلّق !
فلو طأطأت َ
لا تراني
(عراقية ،ص 5و6)
**********************
أهذي هي المرأة العراقية والعربية والشرقية إذن . امرأة لا تدخن ولا تشرب ولا ترقص ولا تتمادى مع الرجال ..؟ هكذا إذن تصور لميعة نفسها كعراقية وعربية وشرقية . انها كتلة من جمع لا . فهذه اللا هي التي تحكم لميعة إذن . انها لن تقع فريسة الإغراء والإغواء . مسكين عمر أبو ريشة فكان يتوقع ان تكون لميعة واحدة من ضحاياه . لقد وصفته لميعة صراحة ب” خبير النسوان” أنه أمام امرأة من نمط مختلف . نمط غير موجود في مجتمع أبو ريشة ولا في أعرافه . لقد دهش الرجل من رد لميعة له . ان لميعة ليست بهذه التي يتصورها شاعرنا أبو ريشة . لن يتمكن من الوصول إليها بسهولة فبمجرد ان يحلق ويطأطأ رأسه لا يرى لميعة أمامه . أن لميعة دخان حريق ..لا يمكن الإمساك به .انها سحابة عالية لا تتمكن حتى من متابعة مسيرها . والحقيقة في تقديرنا ان لميعة عندما عنونت هذه القصيدة بعنوان عراقية أرادت ان تكون كل العراقيات والعربيات والشرقيات : لميعة . لميعة هي النموذج ..المثال للمرأة في العصر الذهبي الذي تحلم لميعة تحقيقه هي وآدم الذي بانتظارها . وان عبارتها “خمول الشرق ” تعني رفضها وتمردها لذلك الخمول . التدخين والشرب والاحتساء والرقص دالات على الترف والبعد عن الواقع المرير الذي تعيشه لميعة . لقد انسحب شاعرنا من حضرة لميعة وهو يتقطر عرقا من الخجل .كان الأجدر بك أيها الشاعر الكبير الخبير بالنسوان أن تعرف بأنك في حضرة جبل أشم .. عنيد .. لا يضعف لإغراء سيجارة أو قدح من الشبانيا أو موسيقى تجبر الجسد على تحريك انامله .انك أمام امرأة لها طموحات وأحلام وقضايا تسعى وتجاهد لتحقيقها . ماذا ستفعل السيجارة وهذا القدح الصغير من الشبانيا لامرأة شماء مثل لميعة .انك في وهم كبير أيها الخبير بالنسوان ..ما عليك الا ان تستيقظ منه . بينك وبين لميعة جدار سميك وطويل أطول من سور الصين !!. لقد كانت لميعة في مجموعتها الموسومة ” اغاني عشتار ” قد قدمت صورة عن ذاتها من هذا النمط وهي معنونة أيضا ب “لا “. تقول لميعة في هذه القصيدة :-
ِبم َ أ‘غرى؟
بالمال ؟
وقد ذقت‘ العسرا
وأكلت‘ الماء َ شهورا
وشمخت‘ لأعماقي كِبرا ؟
بالحب ؟
وعندي دفء الليل الشاتي
ودعابات الفجر ؟
بالغزل ؟
لا أزهو
(فهم كثر)
يكفيهم مني نزر
بسمة لطف
عذر .
بالمنصب ؟
ملهاة الساعة ؟
بالشهرة ؟
لمع فقاعة ؟
أنا بنت هذا الشعب من آلامه ألمي
ومن أفراحه أفراحي
وصديقي الجائع والحافي
مات التبر
في بؤبؤ عين جحظت
ولسان عضته الأسنان
ومات الانسان .
طيبي المسك‘ ،
وبخوري المألوف بكل الأكواخ
وإذا ‘مت‘ سيبقى طيب
يتصاعد من كل الأكواخ
(اغاني عشتار ،ص 107-110)
تلك هي لميعة يا شاعرنا الكبير عمر أبو ريشة . فلم تتمادى وتريد منها ما تريد .
كف عنها وامضي إلى سبيلك ودعها تمضي في سبيلها . هي صورة جميلة تقدمها شاعرتنا لميعة عن نفسها . ترى هل ترجمت تلك الصورة إلى واقع معاش .وهاهي في قصيدتها المعنونة “إلى خبازة ” تعيش لميعة خبرة الألم واليأس والإحباط جراء هوسها بقضايا الشعب والجياع والهوس الأكبر هو هوس الشعر إذا صح هذا التعبير . والمنظر الذي يتجلى في القصيدة منظر ريفي في جنوب العراق مسقط رأس شاعرتنا . وربما مارست الشاعرة هذا العمل في طور من أطوار طفولتها أو شبابها . عمل الخبز بالتنور .انه من المهام الأساسية للمرأة الريفية في جنوب العراق . وكما ان الخبازة تقوم بإنضاج الخبز لتقديمه إلى الجياع هكذا تريد لميعة من شعرها ان يكون غداءا لجياع شعبها تردده على ألسنتها . ولكن للأسف وبإقرار لميعة نفسها لم تفلح في ذلك . لنسمع لميعة في قصيدتها تلك :-
تمنيت شعري كتنوركم
تستدير الحروف به أرغفة
تغذي المساكين
كل الجياع على الأرصفة
ولكن شعري واأسفاه
يظل حروفا
ترف على الشفة المترفة
(عراقية ، ص33)
*************************
ولا بأس ان نختتم هذه السطور بعبارة للشاعرة وضعتها على الغلاف الأخير لمجموعتها الموسومة ” لو أنبأني العراف ” حيث تقدم لنا لميعة صورتها عن ذاتها فتقول :-
قد لا أكون
شاعراً كبيرا
ولكني
ما كنت‘يوما
إنسانا صغيراً
*********************
تلك إذن هي لميعة كما ترى نفسها وقد حاولنا التعرف على تلك الصورة ونأمل أن نكون قد وفقنا في ذلك .
shawqiyusif@hotmil.com
shawqiyusif@yahoo.com
الهوامش :-
1- بهنام، شوقي يوسف ، مشاعر الغيرة عند لميعة عباس عمارة ؛دراسة قيد الانجاز .