يعد العنوان في الدراسات النصية الحديثة احد موازيات النص , وقد يكون العنوان – في بعض الاحيان – متنا لوحده وهذا ما به حاجة الى قراءة منفصلة .عنوان القصيدة التي بين ايدينا جملة اسمية متكونة من : اسم اشارة + ضمير منفصل معطوفة على جملة اسمية اخرى بالترتيب نفسه . اذن العنونة تدل على الثبات والسكون والتوكيد الذي يخفي وراءه قلق السارد من دفن هويته لدى الآخر , فقد كان بالامكان ان يقول على سبيل المثال لا الحصر (( انا وشجرتي )) , بيد انه اضاف اسماء الاشارة ليعزز ثقته بنفسه حيال الاخر , ويزحزح في الوقت نفسه قناعات الاخر بالاخرين. انه فعل اثبات الذات وهويتها , فالسارد اراد من الاخر ان يتمعن في هويته ويكشف ويكتشف بواسطتها ما خفي وغاص من مآلاتها .
يبدأ المقطع الاول بالدال اللساني \ هذا \ وقد أقترن بالضمير المنفصل \ أنا \ , وهو مع هذا التركيم والثقة بالنفس الا اننا – كمتلقين – ما زلنا في حيرة عند العتبة الاولى الا ان هذه الحيرة سرعان ما تتبدد بالتوصيف اللاحق \ فرقد ارضعته الانوثة قسوتها \ .هذا التوصيف الجميل والدقيق والمخالف لكينونته الاصلية يستند على حقيقة تاريخية مفادها ان المرأة وان بدت رقيقة الا انها قاسية حين تستدعي المواقف ذلك . اذن \ الانوثة \ اعطت منتجا مخالفا لطبيعته اضافة الى الخيط الممتد ما بين السماء والارض والمنقلب الى غواية تمثلها خطيئة \ التفاحة الاولى \ .لاحظ ان المثلث – هنا – غير متساوي الاضلاع , فقاعدته \ السارد + الفرقد \ , وقمته \ التفاحة \ الغواية \ .لقد استفاد الشاعر من الموروث ووظفه توظيفا راقيا وذكيا , اذ انه احدث خلخلة داخلية في اطروحة الموروث , فحيرته المنتجة ( بفتح الجيم ) والمتشكلة على هيأة \ تفاحة \ قد افرزت حيرة مضاعفة الى الاستفهام لأنه خائف من حصول غواية ثانية له بسبب من وجود تربة صالحة لنموها , فهي متأتية من : ارضاع + انوثة + تفاحة . هذه هي مفردات الغواية وبذرتها الاولى , لهذا يحاول السارد ان يتساءل عن امكانية الوثوق بالمتحصل فيما بين يديه , او ذهابه الى ما يمكن ان يوصله الى الحقيقة . ومع هذا كله , يدفعه قلقه للعودة الى مثابته الاولى التي يظن انها اولى من ان يقدم رقبته الى السياف بيديه . نعم انه منصاع للتغيير بيد ان هذا التغيير غير ماتلبس بالشبهة , انه عملية مراجعة وليس تراجعا بدليل القرينة النصية :
هذا انا واحد قابل للتبدل
وسواي الشبهات
انه لا يريد ان يخرج من بشريته , لكن هذه البشرية تحمل بذرة ديالكتيكيتها , بشرية قادرة على التحول الاتجاهي وليس الكمي , بشرية ذاهبة بأتجاه اكتساب متحصلات انسانية ترضع من صدر الحقيقة التي هي اصدق من كل المعتقدات . في المقطع الثاني ينسحب السارد من المشهد ويحاول ان يدع الاشياء تطرح نفسها من دون ان يتدخل في مسيرها , اذ تدور علاقات الاسناد في فضاءات تنفتح على اكثر من دلالة متقابلة رأسيا مع ما يجاورها , فالاحتمالات بفص التأويل تأتي كتحصيل حاصل , والاصابع تنسل نحو خيارات جديدة هي جزء من ذلك الديالكتيك الكلي الحامل لها كحاضنة . من اللافت للنظر ان هذه القصيدة تحاول تصعيد فعل الذات \ الانا \ وهي في خضم مجموعة من الاحتدامات النفسية لتنبثق من رماد الاحداث فيتسرب منها نشيج روحي مفعم بالنقاء ومتصد للأنحراف من اجل ان يتواشج الخاص والعام . هذا التضايف يتجاوز المألوف , بمعنى انه يبحث في تنظيم ابجدية الحياة عبر مرتسمات لغوية ونظام لغوي يتيح لمرجعية خارجية ان تكون قادرة على تأويل الخطاب بواسطة بنية الاحتمال التي تكسر كل القوالب الجاهزة . في المقطع الثالث تنبجس الذات كمقاوم ذاتي :
هذا انا
قوة اقف خارج المستطاع
انه يبني عالمه من اجل ان يطلق امكاناته المحبوسة في داخل الجسد , يشيد عالمه الخاص الذي تبنيه حريته القابضة على جمرة الحقيقة التي تأخذ اشكالا غير محددة . فالسارد يثابر على تحرير ذاته من ربقة الآخر ليس بالوسائط او الوسائل لكن بما تختزنه الذات من امكانات احتياطية قادرة على ايقاد شرارة اللامحسوس الذي يتمرآى في اكثر من صورة
اشهدي ايتها الوقائع
اشهدي اضطراب الاخر
اشهدي ركوني خلف عكازتك
امسح عن خشبهاما تكسر من
الوقت
وعن حديدها رقوش البخار
انه يهتم بالافعال لا الاقوال بواسطة النتائج المستخلصة من تلك الافعال وان كانت عبر فعل القول المجسد لها :
سأقول لبعضك : هذا دمي
سأقول لما تبقى : امكثي تحت
يدي ايتها المغاليق
فما الخيانات سوى الخمول
انه يقترح الضدية مسلكا للتفرد عن الاخر واستجماع للشتات الروحي تحت لهيب الذات المهيمنة على المشهد برمته . في المقطع الرابع كما في المقاطع السابقة تبقى \ الانا \ هي المركز المهيمن الذي تتفرع منه كل الدلالات , وهو ايضا القوة المركزية التي تتحقق بواسطتها كل الفيوضات الرؤيوية التي تجري في العالم الخارجي . اذن الذات هي التي يذوي في كنفها كل شيء
هذا انا حريق اصابعي شجن
يسعى
محتملا ما يريب من افعال الروح
في المقطع الخامس ثمة حركة متداخلة بين داخل يتوق للخروج وخروج محمول على غيره . فالسجال الحاصل بين السارد وذاته سجال متذبذب لا يقف عند محطة بسبب من قلق تلك الذات مما يعتريها على الرغم من ان المسكوت عنه اكثر تأثيرا مما يتبدى لنا ظاهريا
هكذا انا ادوزن موسيقى الكائن
في هذا السطر يضاعف السارد من تضخيم اناه , فعملية \ الدوزنة \ تحتاج – في هذا المقام – الى الخبرة الحياتية لا العلمية لأنها متعلقة بالتجربة الحياتية وما يترشح منها في نبض الحياة اليومية وان جاءت – هنا – على هيأة اشارة او علامة موسيقية الا انها ترمي الى هدف استعلري . ومما يلاحظ ان هذه الذات المكابرة سرعان ما ينفرط من بين يديها هذا المقام الرفيع لتضعنا امام اشكالية يترتب عليها تحجيم دور \ الانا \ وضغطه وهي تعوم في بحر لجي
هذا انا الخاسر كأي انحناءة على
خنجر
هذا انا اتشاجر ومساري
سأترك قاربي وحيدا بين اسماكه
عله يدرب لهوي على اقتفاء
الرحيق
ان مغزى هذا الانكسار الروحي يكمن في تحقيق وبلورة الذات المستجيبة لمجموعة من الواعزات الذاتية المتجذرة في كينونتها . فترك القارب \ الذات \ \ بين اسماكه \ ناسه ومجتمعه ينبثق منه ما يروي عطش تلك الذات لكل ما هو رقيق وشفيف \ الرحيق \ . ان عملية ترك الذات في هذا الخضم المتلاطم يأتي سببا للتحول الى قيمة عليا ينبثق عنها مغزى جديدا يحقق جدية الطرح عبر تخطي تلك الذات لما يعرش فوقها من تعب مكدود للوصول الى معابر آمنة . في المقطع السادس ينتقل الخطاب الى لغة غير مباشرة تخفي نفسها وراء ظلال كثيفة من الترميز , ولعل الشاعر فعل ما هو صائب اذ ان هذه الانعطافة قد كثفت من المغزى المبيت في سطور عصيىة لا تعطي نفسها بيسر , ولو فعل الشاعر غير هذا لظهر النص بفحوى غير منتجة في اقل تقدير , لهذا كانت عملية التظليل مهمة لتكون مغزى وظيفيا جديدا للكلمات
هذا انا قطرة من رخام
تحت بهجتي ينام الزغب
مستأنسا بدفء الحراك
لاحظ الاستعمالات الظلالية الدقيقة للكلمات , فالشاعر لم يقل \ قطعة من رخام \ ولو قال هذا لأنفض الامر ومات الزغب ولم تحصل البهجة , ثم كيف يحصل الحراك في قطعة لكنه متحصل في قطرة وجوبا . في المقطع الاخير تشع من الذات \ البؤرة الرئيسة \ مجموعة معان شديدة العتمة تستمد قوامها من تلك البؤرة بما يمثله الانشطار الحاصل في تلك الذات بأتجاهات شتى تبدأ من السطر الثاني من هذا المقطع اذ يزحف التخييل زحفا منظما بأتجاه ما يحيط تلك الذات . فوقوف الحدائق امامه وتتبعها له توكيد على القوى الخارقة الثاوية فيه والفاعلة فيما حولها فعلا اتجاهيا بقدر ما تنطوي عليه تلك الذات من تصرفات مختلفة . انها هنا تستعمل التعويض النفسي compensation لتحقيق :
1 – حافز جديد نتيجة اعاقة حاجز قديم
2 – استبدال طريقة من طرائق التعبير عن الحافز مباشرة بنحو غير مباشر لأستحالة اللجوء الى الاولى
لماذا اللحظة اكاشفها تبعد عن جسد
الفراشة
فيضطرب شدوي
وانسل كاللصوص الى المقعد
الخلفي
حيث العتمة تسدد ديوني
ان عملية الانسدال وحلول الظلمة بديلا عن \ الانا \ ما هو الا عملية نكوص regression , لهذا لجأت الذات الى الاختباء وراء ظلال الكلمات \ الشعر الذي تعده الذات عملية خلاص
لا بد من لعبة تشبه الشعر
بل هو بعينه
لقد ارجأ الشاعر الكشف عن شجرته الى نهاية القصيدة بسبب ان كل الاشياء محكومة بها في نهاية المطاف ’ لذلك كانت هذه الشجرة هي الشعلة المتقدة في نهاية النفق والتي تتشبث بها تلك الذات المحترقة من اجل ان يكون لها موطىء قدم في اللائحة الانسانية .
امسك بيدي هاتين بقايا
سلالتي
منتظرا بهائيذلك الذي يبدو
كشجرة
تظلل اسلافا نجباء , قد اكون
احدهم
لقد حققت هذه القصيدة الرائعة هدفها في لغة شعرية راقية وبنيان متماسك رصين عبر تقنيات شعرية متميزة اذ انها ابتدأت من النهاية وانتهت اليها بواسطة مجموعة من الكنائيات الحاملة لحقول دلالية كثيفة لكنها طرية مانحة اياها سمات تحمل مكوناتها الاساسية بأقتدار عال . انني ارى في حميد حسن شاعرا ذا قدرة شعرية متميزة .
*** جريدة الصباح \ ملحق ادب وثقافة \ العدد 2354 \ 28 ايلول 2011