حسين سرمك حسن : هل سيرحل “شاكر خصباك” عنّا بلا وداع؟ دراسة “من أدب المحنة: الأصدقاء الثلاثة” (1)

إشارة : بعد أن أكمل الناقد حسين سرمك حسن كتابه “شاكر خصباك وفن البساطة المركّبة” وأرسله إلى خصباك للإطلاع عليه، فوجيء بأن الأستاذ خصباك –ولأول مرة- لم يرد على رسائله برغم تكرارها. ثم جاءت الرسالة المريرة من الأخ الدكتور ثامر نجم عبد الله لتخبرنا أن خصباك الذي لعبت به يد المنافي الظالمة من اليمن إلى الولايات المتحدة قد أصيب بفقدان الذاكرة بعد وصوله الأرض المشؤومة. هل سيرحل عنا خصباك وحيدا وغريبا وبلا وداع ومن دون رعاية ؟ .. هذا ما نتوقعه للأسف في زمن الخراب العراقي هذا.   
ملاحظة تمهيدية ضرورية :
————————–
قمنا بإعادة ترقيم صفحات الرواية التي ضمها المجلد الثالث من المؤلفات الإبداعية (ثمانية مجلدات) ، فتكون الصفحة الأولى بترقيمنا تساوي الصفحة (247) من المجلد ، والصفحة الرابعة والخمسون وهي الأخيرة في ترقيمنا تساوي الصفحة (300) من المجلد ، وذلك لأسباب نقدية .
أدب عصر المحنة :
——————-
وعندما اجترحت هذا المصطلح لوصف الأدب الذي يُكتب منذ احتلال العراق من قبل الامريكان الخنازير الغزاة ، ولم أضع مفردة “عصر” بين مقوّسين معقوفين لكي أوحي باستخدامها المجازي ، فلأنني أقصد من معنى هذه المفردة دلالتها المعجمية التي تعني الدهر .. فعلى وطننا العراق الآن يمرّ دهر طويل مظلم ووحشي من العذاب والخراب والدمار والتشرد والتمزق والموت ؛ دهر طويل لم تشهده البلاد حتى في زمن غزوة هولاكو .. ولعل الأمر يعود إلى الطبيعة السادية للشخصية الأمريكية المستترة والمختزنة حيث يقول المؤرخ “نعوم تشومسكي” نصا : لقد قتلنا أكثر من (120) مليون هندي أحمر لنقيم أمتنا . ولو راجعنا كل شرور العالم الكبيرة الحديثة لوجدناها أمريكية الصنع – بعد أن أفل العهد الاستعاري الوحشي للامبراطورية البريطانية التي كشفت الوئائق الأخيرة التي كشف عنها مؤخرا أن رئيس وزرائها تشرشل حائز نوبل دعا إلى استخدام الأسلحة الكيمياوية لإبادة الهنود المساكين بقيادة غاندي !! لقد دخل العراق نفق دهر شديد الظلمة من التمزّق والاحتراب الداخلي لن ينجو منه في أفضل التوقعات إلا بعد نصف قرن .. أو بحدوث عوامل استراتيجية كونية مثل صحوة عربية تفضي إلى هزيمة الكيان الصهيوني الذي صرح مدير موساده بأنه يمتلك ثمانية عشر مكتبا في العراق أي بعدد المحافظات العراقية .. أو بظهور علامات على بدء انهيار إمبراطورية الشيطان ومصدر كل الشرور : الولايات المتحدة الأمريكية . لقد أقحموا العراق بجهد مخطط في نفق دهر الخراب بعد أن كان واقفا على عتباته في عهد الطغيان والتوحّش .. والأدب الذي يلاحق نتائج عملية الإقحام المميتة هذه هو أدب عصر المحنة .. ومنه رواية “شاكر خصباك” هذه : الأصدقاء الثلاثة (1).

واقع ما بعد السوريالية العراقي :
————————————
.. وقد قلت في دراسات سابقة إن هناك تقصيرا فادحا يقع على عاتق المبدعين العراقيين في ملاحقة وهضم ووتمثّل مرحلة عصر المحنة أو ما بعدها ؛ ما بعدها بمعنى تجاوز معنيها الفعلية باشواط طويلة أشد ضراوة ، وقلت إن واحدا من أهم أسباب هذا التقصير هو أن الواقع العراقي القائم في نفق دهر المحنة بات من الصعب على عقل وطاقات المبدع العراقي استيعاب وتمثّل نتائجه الجحيمية التي عبرت حدود المعطيات السوريالية .. وفي كل مكان من العالم يحاول المبدع أن يسبق الواقع بخياله ، ولكن في العراق صار الواقع يسبق الخيال . نحن في مرحلة ما بعد السوريالية العراقية .. بأم عيني شاهدت أمهات عراقيات غارقات في السواد يخرجن من دائرة الطب العدلي وهن يحملن برادات فلينية صغيرة ، وعلى وجوههن أسى قليل شبيه بالارتياح ، لأنهن عثرن على الرؤوس المقطوعة لاولادهن فلذات أكبادهن ولم يدفنوا كجثث مجهولة الهوية (وهي بالآلاف في مقبرة النجف ) .. تُخطف امرأة مع طفلها ثم يستيقظ أهل الدار صباحا على جثتها عند الباب وبطنها منتفخة .. لقد شق الأوغاد بطنها وزرعوا رأس طفلها فيه .. كيف يُخاط رأس كلب على جسد إنسان قُطع رأسه وبأي عملية جراحية ؟! .. بأي درجة من القساوة يُكتب الإسم الثلاثي لشخص ومستواه الحزبي على صدره بالمثقاب الحديدي الكهربائي (الدرل – drill ) ؟! ثم ما هي مشاعر الإبن الطفل الذي يخرج ليرمي الأزبال في المكب القريب فيجد جثة أبيه الذي خطف من بين أولاده ظهيرة الأمس ؟! .. إن مسلسل قطع الرؤوس والذبح الحي – على الطريقة الإسلامية الآن – في العراق هو عنف مؤسساتي لا فردي ، هو منتج أمريكي أسسته الولايات المتحدة عبر تجارب علمية وفكرية وسياسية طويلة . إن هناك علماء متخصصين وشركات متخصصة في إنتاج آلات التعذيب . يقول تشومسكي : ( قبل عشرين عاما أثبت ( لارس شولتز ) في دراسة واسعة وجود علاقة وثيقة بين المساعدات الأمريكية والإساءة إلى حقوق الإنسان في أمريكا اللاتينية حيث تستلم أفظع الدول في انتهاك حقوق الإنسان أعلى المساعدات . وإذا ألقيت نظرة على سجلات هيئة العفو الدولية بشأن التعذيب ، وعلى المساعدات الأمريكية الأجنبية فلسوف تجد العلاقة الوثيقة واضحة . وليس معنى ذلك أن الولايات المتحدة تفتش عن الدول التي تعذب مواطنيها لتقدم لها المساعدات ، ولكن لأن الشرط الأساس في بناء علاقة الولايات المتحدة بأية دولة هو تحسين المناخ الاستثماري حيث ترتفع المساعدات الخارجية حين تتحسن فرص المستثمرين في استخراج موارد بلد ما . ولكن السؤال / المفتاح هو كيف تتحسن فرص الاستثمار في بلد من بلدان العالم الثالث ؟ إنه يتم من خلال قتل مسؤولي الاتحادات وزعماء الفلاحين ونسف البرامج الاجتماعية وغير ذلك ، وهنا تنشأ العلاقة الثانوية بين المساعدات وانتهاكات حقوق الإنسان الفاضحة . فكولومبيا مثلا كانت في العام 1999 أول وأكبر متلق للسلاح الأمريكي رغم أنها كان لها أسوأ سجل في حقوق الإنسان في نصف الكرة الأرضية ، ولكنها حصلت على مساعدات أمريكية أكثر من بقية الدول في نصف الكرة الأرضية مجتمعة . هذه المساعدات كانت تزداد كلما صارت ” مذابح المناشير السلسلية ” أكثر وحشية وترويعا – وهذه المذابح مطابقة لمذابح تقطيع الرؤوس والأجسام التي شهدها العراق بعد الاحتلال – وفي هذه المذابح كان الجيش الكولومبي حين يدخل أي منطقة كان يقوم بتقطيع أجساد الناس إلى أجزاء بالمناشير السلسلية ويلقي بهم في حفر . وقد ارتفع عدد الذين يُقتلون سياسيا من عشرة إلى عشرين شخصا يوميا . وبلغ عدد المطرودين من بيوتهم عشرة آلاف شهريا . إضافة إلى المليونين من المهجرين . وقد أدرك الجيش الكولومبي أنه سيحاسب دوليا فسلم جرائم القتل إلى الميليشيات المسلحة وفرق الموت – مثلما سيحصل في العراق – ، ( وتم قتل – والكلام لتشومسكي -) ثلاثة آلاف شخصية بارزة على أيدي فرق الموت المرتبطة بالولايات المتحدة والمدعومة منها عسكريا – ص  ، والجيش متعاون مع شركات أمريكية خاصة مثل شركة دين كورب ومؤسسة الموارد المهنية العسكرية وذلك لخصخصة جرائم الموت وإبعادها عن المحاسبة – نفس ما سيحصل  في العراق – وهذا ما أعلنه الرئيس الأمريكي المسالم ” كلنتون ” ممارس الجنس في حرم البيت الأبيض مصا وإيلاجا بقوله : ” حسنا ، أننا فقط نهملهم ” . يقول تشومسكي أنه تأكد من كل ذلك بنفسه عندما زار كولومبيا مثلما تأكد من طريقة التبخير بالأسلحة الكيمياوية . وقد أعلن كولن باول قائد تدمير العراق في 1991 ثم محتله عام 2003 والباكي عليه الآن – بأن كولومبيا لبّت معايير واشنطن لحقوق الإنسان . وسبب دعم أمريكا لنظام الموت في كولومبيا هو ” إصلاحاتها الاقتصادية ” على الطريقة الأمريكية حيث سجلت رقما قياسيا عالميا في الخصخصة ، أي بتسليم مواردها لمستثمرين أجانب ، ومن بين هذه الخصخصة ، خصخصة الإرهاب ) (2).
قد يتساءل القاريء الكريم عن مغزى هذه الاستطالات التحليلية ذات الطابع السياسي والتاريخي ..- وسيرى بعد خطوات تحليلات اجتماعية أيضا – ؟
والجواب هو أن سيرنا مع تحليل رواية “الأصدقاء الثلاثة” التي كتبها المبدع الكبير “شاكر خصباك” عن نفق دهر الظلمة وفي وقت مبكر من سنوات الاحتلال البغيض وهو عام 2006 ، العام الذي شهد ذروة الماساة العراقية حيث صار العثور على الرؤوس المقطوعة أو الأجساد التي بلا رؤوس في مكبات النفايات أمرا يوميا وعاديا .. ولا تسألوا الأستاذ خصباك واسألوني فقد كنت هناك .. في حين كان خصباك في اليمن الذي كان سعيدا .. لكنني لا استطيع التعبير إبداعيا عن محنة وطني .. فهذا أمر مرهونة أدواته وسبله بالمبدعين – وليس بالنقاد – ومن هؤلاء المبدعين الجسورين “شاكر خصباك” .. كيف تعالج محنة اجتماعية رهيبة وأنت على بعد مئات أو آلاف الكيلومترات عنها ؟ .. هذا أول ما يتبادر إلى أذهاننا .. فأن يكتب شاعر أو قاص أو مسرحي عراقي يعيش في داخل البلاد نصوصا عن محنة بلادهم الدموية العاصفة بعد الاحتلال البغيض ، يبدو امرا مسلما به من خلال المعايشة المباشرة .. لكن أن يتصدى كاتب غادر العراق منذ عقود ، واستقر في اليمن ، لكتابة نص عن محنة العراق بعد الاحتلال ، وهو لم يعش تفصيلاتها ، وما كان يصله كان من خلال الصحافة والفضائيات والروي الشفاهي تحديدا ، فهو أمر يثير الكثير من الإشكالات أولها ما يُثار منذ قرون عن “وحي” الشاعر أو “غوله” أو “جنّيه” .. يحسم هذا الأمر مقولة بسيطة لشاعر ألمانيا العظيم “هاينه” : ” يتحدثون عن الإلهام وأنا أعمل كالحداد” . إن ما قام به خصباك لم يكن إلهاما بل عمل “حدادة” إبداعية صبور ومثابر ، وفوق ذلك فإن هذا الموقف يمثل في جانب منه “البعد” السيكولوجي – وليس الجغرافي برغم مطلوبيته – الضروري لتحقيق الاختمار .  فللانفعال بالمحنة وجهان متكاملان : الأول قريب ، حاد ، حماسي ، تقريري ومباشر يمكن لنا أن نصفه بـ ” الخارجي ” ، والثاني بعيد ، مزمن ، تراجعي ، تأملي وغير مباشر يمكن أن نصفه بـ ” الداخلي ” . والثاني هو الذي يحتاج إلى إنضاج و”اختمار – incubation ” . والأديب ، كما يقول الأستاذ يوسف ميخائيل أسعد في كتابه  ” سيكولوجية الإبداع في الأدب والفن ” :                 ( كالمصور الفوتوغرافي الذي لا يستطيع أن يلتقط صورة إلا عن بعد معين . وقل نفس الشيء بالنسبة لعملية الإدراك ذاتها التي ندرك بها الأشياء . فأنت لا تستطيع أن تدرك منظرا ما من المناظر بعينك إلا إذا كان بعيدا عنك نسبيا ، فإذا ما التصق الشيء تمام الالتصاق بعينك فإنك لا تستطيع حينئذ أن تدرك صورته . على أن الأديب لا يكتفي بالبعد المكاني بل يضيف إلى هذا البعد بعدا آخر هو البعد الزماني … فهو بحاجة ملحة ( بعد الانفعال ) إلى فترة نسمّيها ” الهضم الخبري ” .. ) . وهناك خمسة ضرورات لهذا البعد الزماني نعرضها ، لأهميتها ، بإيجاز وتصرّف ، وهي :                                                                                            – إن الانفعال لا يسمح للمبدع إدراك نفسه كذات من جهة وكموضوع من جهة أخرى ، بل ذاتا مشتغلة فقط .                                                                                                – الانفعال لا يسمح بإصابة الهدف ( التعبير الرصين ) بدقة .                                          – الانفعالات لحظية وسريعة التدفق وبالتالي فالإمساك بها يكون مستحيلا . لكننا نستطيع القبض على آثار الانفعالات في نفوسنا ( صور الانفعالات البعدية أو التلوية ) .                        – في غمرة الانفعالات لا يستطيع الأديب إقامة علاقات بين تلك الانفعالات وبين غيرها من الخبرات السابقة .
– بعد أن يفيق الأديب من انفعالاته فإنه يستطيع ربط صور الانفعالات بثقافته وبالأحداث الجارية وبخبرات الآخرين ، أي يصوغ تلك الصور الذهنية في قوالب اجتماعية وذلك لأن الصور الذهنية الانفعالية وحدها لا تشكل أدبا إلا إذا ارتدت أثوابا اجتماعية (3) .
معنى ذلك أن فاصلة الثلاث سنوات الزمنية (الرواية مكتوبة في عام 2006 بعد الاحتلال عام 2003) ضرورية من ناحية أطروحات علم النفس لتأمين مرحلة “الإختمار ” هذه التي لا يتمثل فيها المبدع – لاشعوريا- مخزون لاوعيه بمراجعات تثيرها المقارنات مع الحوادث اليومية واستثاراتها ، والقراءات والحوارات وحتى أدنى الحوادث البسيطة التي تمر عابرة حسب .. ولكن الأهم هو انتساجها مع خيوط قماشة اللاوعي المختزنة عبر تجارب الحياة الطويلة العاصفة ومنها – بطبيعة الحال – حياة مبدع مقاوم مثل شاكر خصباك . وفي أوقات المحنة المباشرة – فرديا كحال الأصدقاء الثلاثة الذين ينتظرون سكين الجلاد “المؤمن” ليذبحهم على الطريقة “الإسلامية” ، أو جمعيا كما يحصل لشعب بلادهم على أيدي الأمريكان ومن ينفذون مخططاتهم بوعي أو من دون وعي – يكون البطل الشيطان في الحدث هو “الذاكرة” . يقول “جوليان سوريل” بطل “ستندال” في روايته الشهيرة “الأحمر والأسود” : “وأنا أسير إلى المقصلة ، تأتي إلى ذهني كل أبيات الشعر التي سمعتها في حياتي .. هذه علامة الإنحدار ” . وهذا ما حصل لأبطال خصباك الأصدقاء الثلاثة . فمع اقترابهم من موعد الذبح الذي يهددهم به “الصوت” بين وقت وآخر بسبب تعطّل تسليم الفدية من قبل الحزب الذي ينتمون إليه ، يبدأ سيل .. كلا يبدأ جحيم من الذكريات يكتسح جداول ذاكراتهم الهشّة . وهذا السيل الجحيمي يأتي – بتصميم من الكاتب – في صورة حوار .
# رواية الحوار (المسرواية) :
يتحكم الحوار بين الشخصيات ببنية رواية “الأصدقاء الثلاثة” ، وهي بنية مميزة للروايات الكلاسيكية حيث كان الحوار والأحاديث يستولي على القسم الأعظم من صفحات الرواية ، في حين يشغل الوصف أغلب القسم الباقي . وكان الروائي يسرف في الوصف ، وحسب تعبير “سومرست موم”  كان بطل “بلزاك” حين ينزل من شقته لشراء فرشة أسنان من دكان ما فإن المؤلف يصف كل المنازل التي مرّ بها البطل والسلع المعروضة للبيع في المحال التجارية والناس الجالسين في المقاهي والعربات التي تجري في الشوارع … إلخ . وبسبب هذا الغرق في التفاصيل الخانقة استثنى موم رواية “مارسيل بروست” “البحث عن الزمن الضائع” من كتابه “عشر روايات خالدة” رغم أنها كانت على قائمته الأصلية ، ورغم أنه يعدها أعظم رواية في هذا القرن [= القرن العشرين] . ويبرر موم موقفه هذا بالقول :                                                                                          ( ولم أندم على ذلك ، فرواية بروست ، وهي أعظم رواية في هذا القرن ، بلغت من الطول حدا بالغا ، وقد يكون من المستحيل اختصارها إلى حجم معقول حتى لو لجأنا إلى الحذف المتعسف . لقد حققت هذه الرواية نجاحا ساحقا ، ولكن الوقت لم يحن بعد لتقييم حظها من الخلود . ويستطيع المعجبون المتعصبون لبروست – وأنا من بينهم – أن يقرأوا كل كلمة من كلمات الرواية في شغف ، وقد كتبت ذات مرة ، في لحظة تحمّس ، أنني أفضل أن يصيبني السأم من بروست على أن أتسلى بأي كاتب آخر ، ولكني على استعداد الآن للإعتراف بأن أجزاء الرواية تتباين في قيمتها . ويبدو لي أن الغد سيكف عن الشعور بالمتعة وهو يقرأ هذه الفصول الطويلة من كتاب بروست التي كتبها متأثرا بالأفكار السيكولوجية والفلسفية الشائعة في عصره وقد اكتشف الناس أن بعض هذه الآراء خاطئة . وأعتقد أنه سيتضح في المستقبل – أكثر مما هو واضح الآن – أن بروست من أكبر كتاب الفكاهة ، وأن قدرته على خلق الشخصيات الأصيلة النابضة بالحياة تضعه على قدم المساواة مع بلزاك وديكنز وتولستوي . وحينئذ قد تظهر طبعة مختصرة لمؤلفه الضخم بعد حذف تلك الأجزاء التي يذهب الزمن بقيمتها ، والإبقاء على الأجزاء ذات المتعة الدائمة لأنها من صميم الرواية . ومع ذلك ستبقى رواية ” البحث عن الزمن الضائع ” في صورتها المختصرة رواية طويلة جدا ، ولكنها ستكون رواية رائعة ) (4) .
وعندما كنت أناقش أصدقائي من الكتاب العراقيين حول أن رواية “دون كيخوته” هي أقرب إلى روايات التسلية منها إلى الروايات العظيمة ، كانوا يرمونني بنظرات تقدح شررا ويتداولون تعبيرات ساخرة عن رأيي هذا . لنستمع إلى ما يقوله “سومرست موم ” عن هذه الرواية على طريقة شهد شاهد من أهلها :                                                                                     ( ولقد قال كوليردج عن دون كيشوت إنه كتاب يقرأ قراءة كاملة مرة واحدة . أما في المرة الثانية فيمر القاريء على بعض صفحاته فقط . ولعله يعني بذلك أن بعض أجزائه مملة ، بل وتافهة ، بحيث يمكن القول إنها مضيعة للوقت لو قرأتَ هذه الأجزاء مرة أخرى . إنه كتاب عظيم وهام ويجب على طالب الأدب المتخصص دون شك قراءته قراءة كاملة ( وقد قرأته أنا نفسي ثلاث مرات من الغلاف للغلاف ) لكني لا أظن أن القاريء العادي ، القاريء الذي يقرأ للمتعة يفقد شيئا إذا هو لم يقرأ الأجزاء الهزيلة من هذا الكتاب . من المؤكد أنه سيستمتع أكثر بأجزاء الرواية التي يدور فيها السرد مباشرة حول المغامرات والحوار بما فيها من متعة وقوة تأثير والتي تدور حول الفارس الرقيق وتابعه الواقعي ) (5) .
ولكن خصباك صمم لحواره دورا آخر شكلا ومضمونا . لقد تخلى الكاتب عن الوصف في هذه الرواية تماما ، وركز على الحوار بنوعيه : الخارجي الذي يدور بين شخصيات الرواية الثلاث ، والداخلي الذي يدور في أعماق كل شخصية في صورة حوار داخلي / مونولوج . لكن هذا الحوار ، بنوعيه ، يتسم بسمة كبرى هي أن الكاتب يقدّم من خلاله التاريخ الشخصي لكل شخصية في أبرز محطّاته من جانب ، ويصور جوانب من السمات الشخصية والسيرة الذاتية لشخصية (أو شخصيات ) اخرى من جانب آخر . فحين يكون الحوار الداخلي ليوسف مثلا فإنه لا يتحدث عن الوقائع البارزة من حياته (أنه مسيحي كلداني مؤمن ، طالب متعثر في الرياضيات نجح بعون صديقه “علي” ثم أصبح مهندسا ، خاض تجربة حب فاشلة مع “جورجيت” ) هو حسب ، بل يكشف لنا طبيعة العلاقة بين والديه (علاقة متوترة تسخر فيها أمه من أبيه الذي يعمل نزّاحا للفضلات ، وجوانب من حياة أخته مريم (توقفها عن إكمال الدراسة بعد المتوسطة ، توجهها للعمل في متجر لإعانة والديها، رفضها النهائي للزواج الذي سنعرف أسبابه من حوار علي الداخلي ، والسمات الأساسية لشخصية صديقه ورفيقه علي – الإنتماء السياسي المبكر، شهرة والده القاضي “جواد الراضي” ، تواضعه وتفوقه ومواقفه الوطنية .. إلخ ) .
ويحصل الأمر نفسه حين يتحدث “زكي” مع ذاته فنعرف أنه صابئي مندائي ، وأن العلاقة بين والديه معكوسة حيث يتسلط الأب الشرس المحب للطاغية برغم أنه يكرهه !! (وسنقف على معاني هذا التناقض لاحقا ) ، على العائلة بقسوة وعنف ، وأنه أحب فتاة صابئية هي إبنة شيخ الطائفة وأحبته ، لكن أباها رفض تزويجه منها رغم إصرارها ، وأن أباه كان يتذلل لشيخ الطائفة وأمه تقوم بخدمة زوجته في بيتها ، كما نعرف أنه يتعرض للإستهزاء به من قبل رفاقه في المدرسة الأمر الذي جعله شديد العنف وكثير المشاجرات معهم .. إلخ .
والحوار بين الثلاثة يرسم لنا صورة عن الملامح المرعبة لمرحلة الطغيان السابقة على الإحتلال . فوالد علي القاضي النزيه “جواد الراضي” والذي كان أبا حنونا متفهما لأبنائه ، تحول إلى شخص كئيب منعزل بعد أن اصطدم بالسلطة الطاغية التي شوّهت القضاء وحلّت محلّه ، فأحيل إلى التقاعد ليموت قهرا وكمدا في حالة من التشاؤم الخانق نافضا يديه من أي أمل خصوصا بعد أن توفيت زوجته التي كانت تتفهمه وتحبه برغم فارق الثقافة بينهما حيث لم تكن تحمل غير شهادة الدراسة المتوسطة . وفي ظل السلطة الطاغية كانت الأصوات الشريفة تُكمم ، والشخصيات المناضلة الرافضة تتم تصفيتها جسديا . فهذا الأستاذ (بلال) الذي أسهم في إقناع علي بالإنتماء إلى الحزب في الدراسة الاعدادية ، وكان قدوة أنموذجية أمام طلّابه في الرعاية والمثابرة العلمية والمواقف الوطنية ، يتم اغتياله بلا رحمة .. وغير ذلك الكثير كما سنرى .. أي أن الكاتب أحال مسؤولية سرد الحوادث الشخصية والاجتماعية والسياسية التي كان يضطلع بها الروائي أو “الصوت” الذي يمثله في العادة ، إلى الحوار الدائر بين الشخصيات ، وفي أعماقها المنذعرة . وعلى أساس تقنية الحوار هذه يمكن تقسيم بنية هذه الرواية إلى أربع عشرة حركة :
1-صوت :
وهو صوت الجلّاد (والصوت هو شكل حواري يغيّب فيه طرفا الحوار الأصليين) الذي يستهل الرواية ويفجّر جوهر ثيمتها المركزي :
( صوت :
إسمعوا أيها الزنادقة ، يظهر أن جماعتكم لا يهتمون لأمركم ، فلم يحاولوا حتى الآن الإتصال بنا والتفاوض بشأن الفدية . ليكن .. السكاكين أعدّت لذبحكم .. وعمّا قريب ستُحزّ بها رقابكم – ص 1 ) .
2-حوار :
وهو الحوار الأول الذي يجري بين الأصدقاء الثلاثة المخطوفين : يوسف وعلي وزكي ، وفيه ندرك أن الثلاثة قد اختطفوا من قبل “جماعة” ستتكشف هويتها لاحقا ، وتم رميهم في غرفة مظلمة معصوبي الأعين . وأن الثلاثة منتمون إلى حزب طلب منه الخاطفون فدية رهيبة تفوق إمكانياته المالية (مليون دولار) . وسبب ضخامة مبلغ الفدية كما يقول علي ليوسف هو أن خاطفيهم ( ليسوا من صنف عصابات المجرمين العاديين، فأمثال هذه العصابات تطلب فدية معقولة .. خمسين ألف دولار .. او كما يقولون خمسة دفاتر .. وعلى أبعد تقدير مائة ألف دولار . وهي في العادة مستعدة للمساومة . أما هؤلاء فلا يساومون – ص 3 ) .             وبسبب تأخر الحزب في جمع مبلغ الفدية فإن يوسف وزكي يعتقدان بأن حزبهما عاجز عن دفع الفدية ، وهذا يعني أن مسألة ذبحهم ستكون مؤكدة . ومن خلال الموقف من هذا الأمر المرعب – عدم جمع المبلغ وتأكد الموت – من ناحية ، ومن الموقف من القاعدة الشعبية العريضة التي ناضل الثلاثة وحزبهم عبر عقود طويلة من أجلها ، وها هي الآن تخذلهم من ناحية أخرى ، نتلمس ملامح من البناء النفسي لشخصية كل من الأصدقاء الثلاثة . فـ “يوسف” شخصية حالمة ، يراهن على أن الحلم بالآمال الكبيرة هو مفتاح تحقيقها حتى لو كان الفرد يعيش في أحلك الظروف ، أما زكي فهو “واقعي” إنفعالي قاطع الأحكام لا يؤمن بالأحلام ويرى أنها كانت سبب الخراب الذي يعيشونه الآن أفرادا وحزبا ومجتمعا ( كنّا نحلم أحلاما جميلة فقط ، أما الكوابيس فلم تكن تخطر على خيالنا – ص 2) .
أما علي فهو الواقعي العقلاني بينهم كما عهداه منذ أيام الدراسة ، وكان هو المسؤول عن إقناعهما بالإنتماء للحزب ، فأحكامه متأنية وموضوعية لا يشوبها الإنفعال ولا تغلب عليها العاطفة . وبلمسة حوارية بسيطة يختم بها الكاتب هذه الحركة بعد حديث طويل نسبيا ، يجمع الفروق الأساسية بين الشخصيات من خلال النظرة إلى خاتمة هذه المحنة الرهيبة :
(يوسف : المهم أين نحن من كلّ ذلك ؟ هل سينجح حزبنا في إنقاذنا وتخليصنا من هذا الكابوس ؟
زكي : لا أمل في ذلك يا يوسف .. ليس هناك من يهتم بمصيرنا ؟
علي : لا يا زكي .. ليس الأمر كذلك .. ولكن ليس بيد حزبنا حيلة .
يوسف : أنا أيضا لا أصدق قولك يا زكي .. سيبذل حزبنا المستحيل ليجمع مبلغ الفدية ، وسأظل أحلم بذلك مهما قلتما .
زكي : (بسخرية) لا بأس إذن أن نحلم معك يا يوسف ، فلقد كنّا نحلم بالأوهام دائما .
علي : من يدري ؟ لعل أحلامك تثمر فعلا يا يوسف – ص 6 ) .
لكن الحالم – شاء أم أبى ، بعد الأمر أم اقترب كما سنلمس ذلك – لابد أن تصدمه صخرة الحقائق الواقعية المسننة ، فيصحو للحظات ، ثم يعود ليغمر وعيه بأحلامه خصوصا في لحظات اليأس . فيوسف قبل لحظات اتفق مع زكي على أن ما يمرون به الآن هو كابوس فردي وجمعي لم يحسبوا له حسابا ، وأن ثقتهم في شعبهم ليست في محلها ، لأن من المفروض أن يهب الجميع لإنقاذهم . وعلي يرى أن مواجهتهم محنة الموت ذبحا هو الذي يزعزع ثقتهم بشعبهم الذي يراهن عليه حتى النهاية ، في حين أن زكي يعلن أنه ليست محنة مواجهة الموت ذبحا هي التي هزت ثقته بشعبه بل المظاهر السلبية الخطيرة التي رافقت الإحتلال من سلب ونهب للممتلكات العامة وسطو على مؤسسات الدولة ونهب البنوك ، والأفظع هو نهب الآثار العظيمة . ولكن علي يرى محقا – وهذا ما شاهدناه بأم أعيننا من أفعال كريهة ومخططة لقوات الإحتلال التي كانت دباباتها تحطم أبواب الوزارات والجامعات الضخمة المقفلة ويدعو ضباطها الرعاع للدخول وسلب محتوياتها هاتفين : أدخل علي بابا !! ) .. علي يرى أن هناك قوى أجنبية وعصابات عالمية إضافة إلى الآلاف من المجرمين الذين أطلقهم الطاغية من السجون .. وكذلك الآلاف من حرّاسه وفدائييه الذين أصبحوا بلا عمل .. هم وراء نشر الفوضى في البلاد . (أتساءل أنا ؛ الناقد : من يصدّق أن مواطنا بسيطا يساهم في سلب وزارة من عشرة طوابق يأتي حاملا قنينة بنزين معه من البيت ليحرقها ويحيل المبنى الضخم إلى رماد خلال ساعات ؟ كانت العصابات الملثمة المتخصصة والمدربة تستخدم مواد كيمياوية شديدة التطور ترشها على جدران الطوابق ثم تشعلها وتدمر المبنى . وهذه العصابات كانت تحدد وقتا للصوص والنهابين ثم تبدأ بالصياح : إطلع إطلع .. ليبدأ الحرق والتدمير .. ثم يكتبون على الجدار : يا لثارات الـ ….. هذا ما سيكشفه التاريخ الذي لا يرحم ) . ولكن زكي يعتقد أن الأمر هو ظاهرة سلوكية تتجاوز تبرير علي بالعصابات العالمية فيقول :
(زكي : (بسخرية مرّة) وماذا عن الموظفين المرتشين الذين ينهبون أموال الدولة على جميع المستويات حتى على مستوى وزراء العهد الجديد ؟ هل هم أعضاء في عصابات عالمية ؟ – ص 5 )
وقد أثار الإحتلال – كما يتكشّف من خلال الحوار – إلتباسا في صياغة واستخدام المصطلحات حتى لدى اشد المثقفين وعيا وأكثر المناضلين حرصا . لقد أوقعنا الإحتلال في “مستنقع تسميات ومفاهيم” ، وعلي يسمّي تجربة ما بعد الإحتلال بـ “التجربة الجديدة” التي يعمل على إسقاطها المتآمرون . ومستنقع التسمية مأخوذ عن الدكتور “عبد السلام المسدي” في كتابه الأخير ” الأخير (نحو وعي ثقافي جديد) . يقول المسدّي :
( ما يجب أن نخلص إليه مبدئيا هو أن براءة اللغة وهم كامل ، وأن الحيادية المطلقة في اصطفاء الألفاظ وهم كامل ، وأن الموضوعية الفكرية مسألة نسبية كثيرا ما يتهاوى صرحها بمجرد عبورها جسر اللغة حتى لنقول إن التعامل السياسي مع اللغة – كالتعامل اللغوي مع السياسة – طريق محفوفة بالأفخاخ ، وأعظم فخ فيها هو “مستنقع التسمية ” الذي لا مناص لنا من اجتيازه . لقد أفرزت حرب الكلمات بحكم سطوة الإعلام نوعا جديدا من الأدلجة فنشأ ما يجوز لنا أن نقول عنه إنه “أيديولوجيا التسمية ” والذي قد يبدو للناظر المتعجل ترفا فكريا …. والدليل هو أن جهات عديدة في مختلف أرجاء العالم تتطوّع بتقديم الدعم لعقد المؤتمرات الفكرية .. ولكل تلك الجهات الداعمة قراءتها للأسماء قبل انخراطها في المسميات . وبناء عليه لن تجد مؤسسة واحدة منها تدعمك إذا عرضت عليها مشروع مؤتمرك الفكري وقد بنيته على مصطلح الوطن العربي أو الأمة العربية أو العرب ، وإنما تدعمك فقط إذا قلت “العالم العربي والعولمة” أو “العالم العربي بين الحاضر والمستقبل ” . فالمسألة ليست بذخا فكريا ولا ترفا ثقافيا ولا تفصّحا لغويا ، وإنها سلاح الكلمات في المعركة اللغوية التي هي عماد الحرب النفسية (…) . إن اختلاط المسؤولية اللغوية بالمسؤولية السياسية هو الجنين الحديث الذي تخلّقت نطفته في رحم الأحداث المزلزلة لكل ثوابت الفكر الإنساني ، فما عاد الأمر تخمينا ظنّيا يسبح في رؤى الاستشراف ، ولا هو جموح من التأمل النظري المفصوم عن التاريخ . إنه بأيسر الكلمات امتزاج مطلق بحيث يقع التداول اللغوي تحت طائلة التحقيق الجنائي … وبين عشرات العبارات التي يتداولها الخطاب العربي – إعلاميا أوسياسيا – نقف على مصيدة اللغة وأفخاخها ، وليس غريبا أن يُفاجأ القاريء العربي بأن مجرد استخدامه لعبارة (قوات الأمن الإسرائيلية) أو عبارة (التوغّل) هو غباء سياسي مهين …. ومن بين ما يتكشف للقاريء أن عبارة (حرب الأيام الستة) ما هي إلا تسويق إسرائيلي لتسمية حرب 1967 على أساس تشبيهها بفعل النبي يوشع عليه السلام عندما شنّ حرب الستة أيام على أعدائه ، وظل يحاربهم إلى أن حل مساء الجمعة ، فطلب من الله أن يؤخر غروب شمس ذلك اليوم حتى يجهز على أعدائه ، قبل أن يبدأ يوم السبت ، فتلك المصطلحات صناعة يهودية لتبرير الحروب التي خاضوها لسلب فلسطين وإضفاء القدسية عليها بموجب المرجعية التوراتية كما تمثّلوها …. وهكذا تندرج الألفاظ من أرفعها التزاما بكل الإيحاءات الملازمة لدلالتها على الأسماء إلى أقربها ارتباطا بالشائع من الأعراف القائمة : الكيان الصهيوني – الدولة الصهيونية – الدولة العبرية – الكيان الإسرائيلي – إسرائيل . وفي أشد لحظات البطش التي مارسها شارون على المقاومة الفلسطينية كنت تسمع اصواتا عربية تعلن احتجاجها على (الإدارة الإسرائيلية الحالية) (6) .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *