د. عبد العزيز غوردو : فينومينولوجيا المكان – ما لم يرد عند باشلار – (2)

المكان؛
…ومتاهات الكتابة بالإيقاع

من الوجود إلى العدم، أو العكس، مسافة.. رحلة باتجاه الآخر/النقيض/النافي، والمكمل له في نفس الوقت؛ فبدون هذا النقيض لا يكتمل المعنى ولا تقوم الدلالة ناجزة فعلا؛ لا غرو، إذن، أن تكون الكتابة حول الوجود مقترنة غالبا بالكتابة عن نقيضه، الذي يأبى، أحيانا، إلا أن يشاطره العناوين الكبرى ذاتها: “الوجود والعدم” ؛ “الوجود والزمان” … حيث يحضر الزمان بصفته النافية للوجود، أو المعدمة له، فينحل أحدهما في الآخر وينصبه في مكانه لحظة غيابه.
الزمان هو الوجه الآخر للمكان، والدال عليه، في معادلة يصح عكسها أيضا، لتندغم معادلة الوجود؛ ربما لهذا السبب اعتبر ميرلوپونتي بأن الفينومينولوجيا هي، من بين تعريفات أخرى ممكنة، “تقرير عن الزمان والمكان” ؛ وفائض عن الحاجة القول بأنه منذ أن كتب مينكوڤسكي Minkowski Hermann أنه لم يعد بالإمكان التفكير في كل من الزمان والمكان في ذاتهما ، وإلا تحولا إلى مجرد ظلال، وأن اتحادهما فيما بينهما، وحده، يكفل لهما حقيقة مستقلة؛ فإن الابستيمولوجيا المعاصرة، واعتبارا من هذه الشكلانية Formalisme، قد «نسخت كل تفكير حول إمكانية => الفراغ في حد ذاته. لكن ذلك لا يمنع من جديد من إعادة التفكّر بمثل هذا المفهوم في ضوء إعادة التفكر في علاقة كوسمولوجيا (عصرية) بالرياضي والفلسفي معا. وللتوقف عند عبارة باديو A. Badiou الآتية: “نحن الذين الفراغ بالنسبة لنا هو في الحقيقة اسم الكينونة”» ؛ لأنه (أي الفراغ) دال على الوجود وضامن له، من حيث إن تعريف أحدهما لا يحصل إلا عبر الآخر ومن خلاله: الوجود/الامتلاء ≠ العدم/الفراغ. فالأمر إذن أشبه ما يكون بمواجهة للعدم néant ، من خلال مواجهة السؤال الأنطولوجي: …وماذا عن الفراغ؟
الجواب الحاسم، والمصيري لذلك هو: يجب لقاؤه، والاصطدام به، ليتجسد الإنسان ميتافيزيقيا ، فحتى يكتمل انتصار الوجود لا بد من خوض تجربة مواجهة العدم، ولو مجازيا؛ وما يدرينا فمجازات الحياة ليست أقل غنى من دراسة حقائقها، واللغة ليست منغلقة على ذاتها، بل منفتحة على العالم باستمرار، وحتى أكثر الأشعار حمقا فإنها تظل منفتحة على الحقيقة، كما كان يحلو لپول ريكور أن يردد .
لهذا علينا الإقرار بأن عملية التفكير في “المكان” بالمفهوم الرياضي والفلسفي نفسها قد انتهت لأنها تظل منقوصة، وعلينا أن نضيف، إلى الرياضي والفلسفي، الشعري أيضا، بما هو منعطف حاد لتصوير انعكاس الفراغ على الإنسان؛ لنقول: كم هو ساذج حقا ذلك الاعتقاد في أن الذات غير قابلة للعطب سواء من جانب الكائن أو من جانب الزمان ، أو المكان! وشاهدنا الأول على ذلك ما كان الجاهلي يبدأ به قصيدته، عند كل مرة يصدح فيها بالغناء.
هل كان الجاهلي يدرك بأنه كان يدخل الزمان/التاريخ بمجرد ما يبدأ في إيقاع الكلام؟
هذه لحظة معرفية أولى، تسبقها وتليها لحظة معرفية ثانية تخص الصمت، الذي لا يعرف إلا في نقيضه/الكلام. “ومع ذلك فإن له معرفته المختلفة، لأنه يشكل مواقعية ما قبل الكلام…
فالكلام مستوى معقد يقع في حضن الصوت، لكنه ليس الصوت، والمشكلة هي أن كلام الإنسان استحوذ على كل إمكانيات الصوت بحيث إنه لم يعد ثمة صوت يصدر من فم إنسان إلا والكلام يجعل منه إشارة ما؛ كأن الصوت الخام الذي ليس هو إشارة، ويسبق كل إشارة، لم يعد له وجود..”  وهنا تنتصب واحدة من العلامات الكبرى المؤشرة على سلطة الكلام غير المحدودة.
هكذا يحافظ الصمت على “مواقعيته من حيث إنه يقع قبل الكلام، أو بعده. ليس هو أصل الكلام لكنه يسبقه بالضرورة. وليس هو مآله، لكنه يأتي ما إن ينقطع الكلام.”  وهنا كذلك يحتاج الصمت إلى تعيين ذاته بالنسبة لمواقعية الكلام: يجيء قبله أو بعده… و”عند ذلك يكوّن تعاقب الصوت والصمت ما يسمى الإيقاع، وليس الإيقاع هكذا وحده، بل إنه إيقاع => الكلام.”  والكلام ليس مجرى كلام مطلق، بل كلام يتخلله صمت، وإذاك تولد اللغة؛ واللغة لا تسجل التاريخ فحسب، ولكنها تحدثه، فلو “لم يقص محدّث أو شاعر أو مخبر قصة أو خبرا أو حدثا لما أمكن لمعرفة تاريخية أن تولد” ؛ فهل كان الجاهلي يدرك بأنه كان يدخل الزمان/التاريخ، ويُحْدثه، بمجرد ما يبدأ في إيقاع الكلام؟
ربما، لكن الأكيد أن الشعر أصبح بعد ذلك “ديوان العرب”، أي سجل أيامه وأخباره، تنقلها اللغة بالإيقاع، متحدية النسيان وممتدة باتجاه المستقبل، وصفة التماد هذه هي التي تجعل الإيقاع حاضرا، كما كان دائما، بقوة في القصيدة العربية المعاصرة؛ القصيدة => الإيقاع.
إن الصيغة النحوية التي هي المصدر أو اسم المصدر/ الإيقاع، تنبني، هي ذاتها، في العربية على مؤشرات كثيرة، منها هذا التحرك الحيادي الخالي من أي جهوية محددة؛ ومنها هذا الانبناء للمجهول، بحيث يأتي هو كذلك حسب تطبيقات عديدة، لعل أبرزها خلو الصيغة من أي فاعل، إذ يصبح الإيقاع هو فاعل ذاته، وكذا الاستقلالية الواضحة عن أي إرادة أو مشيئة تريده أو لا تريده، هكذا أو ليس هكذا.
إن الانفلات من شبكة نظام الأنظمة الإيقاعية، والتمرد على لعبته، ما بين شقي الكتابة الأولى/التأسيس، والتجاوز بالكتابة الثانية/إعادة التأسيس، والقيام بانزياح مواقعي عند مصائد هذه الشبكة، قد منح الشعر فرصة أولى حقيقية لوضع أجهزته المفهومية كلها موضع السؤال النقدي؛ وهو المنعطف الذي يتحرر فيه هذا السؤال من عقدة الالتزام وتجديد الالتزام بالتفكير دائما من داخل التشكيل الانغلاقي نفسه الذي اختبأ وراء حراسة عنوان مقدس آخر هو الحداثة، بعد انقضاء عصر المقدس المفارق.
بل إن هذا الانفلات نفسه لم يتحقق لشعراء العربية المعاصرين إلا من خلال تجربة الحداثة الغربية، وقائدها الملهم إليوت T.S. Eliot (1888 – 1865)؛ علما بأن الرباعيات التي أثرت فيه إلى درجة أنه نسج على منوالها، ما اعتبره أفضل شعره، كانت بين أيدينا منذ أزيد من ثمانية قرون … فإلى أي حد ظلت القصيدة الحداثية هي القصيدة؟ إلى أي حد ظلت القصيدة الحداثية هي القصيدة / التاريخ؟
أصبحنا نعلم منذ مدة، على الأقل منذ زمن بودلير Charles Baudelaire (1821 – 1867) ، أن «القصيدة مجموع مركّب وغير قابل للتجزيء، يصير كلّ شيء فيه، حسب عبارة بودلير “دالاً ومتبادلاً ومتضاداً ومتناسباً”، وحيث يؤدي التفاعل الدائم للصوت والمعنى إلى مشابهة بين هذه المظاهر: علاقة تجنيسية تارةً وجناس تصحيفي، وتارة أخرى علاقة تصويرية وأحياناً علاقة مناسبة للطبيعة» .
فما الذي انتهى حقا من الكتابة الشعرية العربية التقليدية؟ هل يمكن الدخول إلى فضائها اللامتناهي ثم الخروج منه بدون رمزيها الكبيرين عمود الشعر، و/أو شعر التفعيلة البديل؟ كيف يمكن إعادة تشكيل الكتابة بالإيقاع في أرضية تظل تضاريسها الكبرى هي ذاتها؟ وهل التجوال داخل التشكيل الخطابي الحداثي، وما بعد الحداثي، ثم استرجاع أيقونة العدمية، ما هو إلا تجوال حر لاغائي، وخارج الموضوع، لنسيان كل هذه العملية ومتاعبها؟
من الواضح أن مثل هذه التساؤلات يفرضها سيطرة هاجس انغلاق التشكيل، وعدم انفتاحه على نقلة نوعية كاملة ترسم له تضاريس جديدة؛ وإلى ذلك الحين فخيار الكتابة بالإيقاع المتوفر حاليا، يبقى الخيار الحتمي الوحيد كحل للاستقطاب. مع التنصيص على أن الشعر العالمي يتابع مسيره طارحا تشكيلاته التقليدية جانبا، وبالاستتباع وجب أن نعلم بأن الإيقاع المتوفر بين أيدينا يكشف عن نفسه بنفسه كونه واحدا من الممكنات، وليس الممكن الوحيد، ولا كل الممكنات.
الانهمام بالإيقاع.. الانهمام بالمكان.. وتد القصيدة الجاهلية وعمودها، هل ما زال شعرنا المعاصر يأبى الانفلات منهما، حتى لو كانت القوالب تحاول إظهار غير ذلك، أم أن عهد الكتابة، عن المكان، بالإيقاع التقليدي قد ولى فعلا؟ ثم، وبالعطف على هذا السؤال، أليس جميلا أن نعود إلى صميم حفرياتنا الشعرية بأقنوم يولد أسئلة وجودية معاصرة، لأن مهمة الشعر، كما الفلسفة هنا، ليست استقصاء الأجوبة بقدر ما هي طرح الأسئلة، وبحيث ينتهي كل جواب إلى توليد سؤال جديد إلى ما لا نهاية؟
بعبارة أخرى هل علينا أن نتمثل كتابة التجربة الشعرية الحداثية، وما بعد الحداثية، المرتهنة بتجربة التاريخ الغربي الخاص، ونعيد كتابتها بالأحرف الكبيرة، حتى نكون في قلب العصر؟
نعلم يقينا أننا حتى لو فعلنا ذلك فإننا لن نكتب خاتمة الحكاية، لأننا إذاك نكون بإزاء بوابات كثيرة تفتح من جديد؛ فهناك ما يختم، وهناك ما يعلن عن بدايته دائما؛ والخاتمة، كما البداية، عبارة حيادية جرداء إلى حد بعيد. أما النهاية فمشبعة بميتافيزيقا تتجاوز اللسانيات، لأنها ترجعنا إلى مملكة الصمت.
ما نحتاج إلى تثبيته في نهاية هذا المبحث هو أن الكتابة بالإيقاع عن مفهوم “المكان” في تطور دائم، وأن الكتابة الشعرية المعاصرة عنه، مع ما طرأ من تغيير على المفهوم، تشكل الحد الأخير لانتهاء المفهوم لذاته، وهو انتهاء كان بمثابة انقطاع وليس قرار اكتمال أو إعلان شكل ناجز.
فلنواجه “المكان” إذن عاريا من مفهومه، ولا أي مفهوم سابق على تحقيقه بالذات، لذلك قلنا سابقا بأن الذي انتهى هو “المكان” المنفتح على الإيقاع التقليدي، أما ما ينفتح عليه الوعي، من داخل وخارج هذا المشروع، فهو هذا المكان، بدون أي حروف كبرى.
إن الكتابة الشعرية عن المكان تنتهي بما هي تدوين ذاتها، ويبقى المكان الآخر الذي يستحيل الكتابة عنه إيقاعيا دفعة واحدة، لأنه يظل من صنع كل من يقدر على المشاركة في صنعه، ونقش اسمه بحروف شعريته الخاصة، وجعله “مكان” بعض ما لم يُكتب بعد، ذلك أن ما لم يجر اكتشافه في “المكان” حقا، هو “المكان” نفسه.

فينومينولوجيا المكان؛
…من الحنين إلى الأصول إلى التموقف العدائي

تتطلب الكتابة الشعرية عن المكان استدعاء ذاكرة مطلقة  eidétiqueقادرة على تسجيل كل شيء: الصورة والصوت والموجودات في تفاصليها الدقيقة… بمنهج فكري eidétique يؤسس الممكن على الواقع، بعيدا عن “الإنسان الداخلي” الذي قال به القديس أوغسطين؛ إذ ليس العالم هو ما أفكر فيه، بل ما أحياه فعلا، وأنا منفتح عليه، من أجله، وأتواصل معه بكل تأكيد، لكنني لا أملكه .
ها نحن نعود إلى ميرلو بونتي، كرة أخرى، وإلى انثناءات الجسد على نفسه، لاقتناص لحظة من لحظات العالم، وهو يعيد صياغة تجاربه.
لكننا نعلم بأن العالم هناك، قائم قبل أي تحليل يمكن أن ننجزه عنه، وأي اشتقاق له في تراكيب تقيم جسورا بين الأحاسيس والمظاهر المرئية سيكون أمرا مصطنعا،  لذا فكل المطلوب هو الوصف العميق للواقع، بعد خوض التجربة، وليس إعادة بنائه أو تأسيسه.
يحتاج الوصف إلى لغة؛ وللتخصيص يحتاج الوصف بالشعر إلى لغة شعرية، وبالذات إلى نوع من أنظمة الخطاب حول اللغة؛ لكن قبل تفكيك الموضوع، مع منظر التفكيكية الأول جاك دريدا Jaques Derrida ، لنا وقفة أخرى، ليست أخيرة ولن تكون، مع الفكر الفينومينولوجي من خلال واسطة عقده، بامتياز، غاستون باشلار Gaston Bachelard (1884 – 1962)؛ إذ من يجرؤ على الادعاء بأنه يستطيع الكتابة عن المكان، أي مكان، دون عودة حميمة إليه لاكتشاف جماليته التي بهرت وما زالت قادرة على الإبهار؟
فبعد سنين عديدة كرسها لفلسفة العلوم، درسا وتدريسا، انقلب العجوز فجأة نحو التحليل النفسي والخيال والشعر والجمال: “التحليل النفسي للنار”؛ “الماء والأحلام”؛ “الهواء والاسترخاء”؛ “الأرض وتهويمات الإرادة”؛ “الأرض وحلم الراحة”؛ ليأتي “جماليات المكان” فجرا جديدا لتحليل ما هو شعري بمنهج فريد وأصيل.
في الكتاب/”جماليات المكان”، يريد فيلسوف العلوم، المرتد نحو الخيال الشعري، أن يقول بأن المكان هو “المكان الأليف لدينا”؛ و”المكانية في الأدب” هي تلك التي تعبث بذاكرتنا وتبعث فينا روح الطفولة؛ أما “مكانية الأدب العظيم” فهي تلك التي تكتبهما .
ما الذي يجعل الحجرات السرية “الحجرات التي اختفت من الوجود تصبح ملاجئ لماض لا ينسى؟”
هكذا ينبجس السؤال الأول من خرائب الذاكرة كما الماء من بين الصخور، صافيا مصقولا شفافا ناعم الملمس، يقودنا لاقتراف غواية الحنين عبر الذكريات؛ وما الذكريات في النهاية غير ما يجعل “روحنا مأوى” ، تماما كالبيوت التي تعيدنا إليها ليس باعتبارها ملجأ لذكرياتنا فقط، بل وملجأ لما نسيناه أيضا، ولذلك فهي في داخلنا بنفس القدر الذي نكون فيه بداخلها، تحتوينا بنفس القدر الذي نحتويها، وتعبر عنا بنفس القدر الذي نعبر به عنها، وتقودنا إلى دواخلنا بذاتها، أولا، ثم بذوات بيوت أشيائها/ أشيائنا، الأصغر منها، ثانيا: الأدراج والصناديق والخزائن؟ أي عوالم نفسية تختفي وراء مفاتيحها وأقفالها؟
“إنها تحمل في داخلها نوعا من جماليات الأشياء المخفية. ولتمهيد الطريق لظاهراتية الأشياء المخفية، فإن ملحوظة أولية واحدة تكفينا: لا يمكننا تخيل درج فارغ. يمكن تصوره ذهنيا فقط. وبالنسبة لنا حيث يتوجب علينا أن نصف ما نتخيله قبل أن نتحدث عما نعرفه، ما نحلم به قبل أن نتحدث عما نحن على يقين منه، فإن كل الخزائن ممتلئة”.  فما علينا إلا أن نتمعن في الفراغ جيدا، وهو سيتكفل بإنجاز الباقي/الامتلاء.
لقد “كان باشلار واعيا أنه بكونه يجتذب اهتمام الفلاسفة إلى الخيال المادي، فإنه بهذا يحدد مفهوما جديدا يحتاج إليه بالضرورة للقيام بدراسة فلسفية شاملة للإبداع الشعري” ؛ لكن على من يغامر للقيام بدراسة الخيال الشعري أن يتخلى عن عاداته في البحث الفلسفي، ففي هذا المجال الماضي الثقافي للفيلسوف لا أهمية له، بل “عليه أن يجيد التلقي – تلقي الصورة بمجرد أن تظهر… في لحظة الانتشار” ، لأن الصورة الشعرية هي “بروز متوثب ومفاجئ على سطح النفس؛ وللآن لم تدرس بشكل واف الأسباب النفسية الثانوية لهذا البروز المفاجئ” ، لكن حذار فالصورة الشعرية لا تخضع لاندفاع داخلي كما أنها ليست صدى للماضي، “بل على العكس: فمن خلال توهج الصورة يتردد الماضي البعيد بالأصداء، ويصعب علينا معرفة عن أي عمق سوف يتم رجع هذه الأصداء وكيفية تلاشيها” ، وعلى أولئك الذين يتصدون لدراسة الأعمال الأدبية أن يكونوا واعين كل الوعي بتعقدها فلا يحاولون تفسيرها باختزالها في هذا الأصل أو ذاك: صدمة نفسية طفولية، إصابة غددية، وضعية اقتصادية، اجتماعية، أو سياسية، الخ … لأن دراسة الأعمال الإبداعية، خصوصا العملاقة منها، تتطلب منا أن ندرسها، أيضا، في حد ذاتها، أي في الحالة التي يكون فيها الفنان في صراع مع مادته الخام، ومن ثم انتصار الفكر الخلاق على المعطيات المباشرة للتجربة الحسية.  وهنا لا بد أن نستدعي “نظرية التلقي”  لإسعافنا على تعميق فهم الصورة الشعرية، والرسالة التي تتضمنها، واستيعاب قطبي العمل الإبداعي: القطب الفني L’artistique والقطب الإستيطيقي L’esthétique: الفني بما هو دال على النص الذي يبدعه المؤلف، والإستطيقي الدال على التحقق الجمالي الذي ينجزه القارئ؛ وفائض عن الحاجة القول بأنه منذ ” اللحظة التي تم فيها الاعتراف بالإبداعات الفنية للتكعيبية والسريالية، فإن العالم الاستيطيقي الغربي لم يعد على الحالة التي كان عليها من قبل.”  ؛ وهكذا فإن “قدرة الصورة الشعرية على التواصل مع المتلقي هي واقعة ذات دلالة أنطولوجية كبيرة” ، إذ رغم أن “الشاعر لا يمنحني ماضي صورته إلا أن هذه الصورة تتجذر في داخلي” .
يحق لنا عند هذه النقطة أن نتساءل: “كيف تستطيع الصورة، وفي وقت قصير غير اعتيادي للغاية، أن تبدو وكأنها تكثيف للنفس بكليتها؟ كيف – ودون إعداد – تستطيع هذه الواقعة الوحيدة القصيرة الأجل التي تتجسد بانبثاق الصورة الشعرية الفذة، أن تحدث أثرها في عقول وقلوب الآخرين رغم حواجز الحس السليم وكل مدارس الفكر المنظمة القانعة بسكونيتها؟”
يبدو، عند هذه النقطة أيضا، أن تفسير الصورة الشعرية يتجاوز الجميع، أو بعبارة أدق يحتاج إلى أكثر من تضافر جهود الجميع، لأجرأته فعلا، إذ بعد “أن ينتهي مؤرخ الأدب من مهمته، يبقى أمامنا إنجاز عمل تفسيري يتصدى له الناقد الأدبي؛ فهو من يقارب الأعمال الأدبية بوصفها كونا مستقلا له قوانينه وبنياته الخاصة؛ لكننا نعلم بأن عمل الناقد، أيضا، لا يستوفي الموضوع، على الأقل في حالة الشعراء، وفي هذه الحالة تلقى على عاتق عالم الجمال مهمة اكتشاف وتفسير قيم الأكوان الشعرية. لكن، وبعد أن يكون عالم الجمال قد قال كلمته الأخيرة، هل باستطاعتنا القول عندها بأن العمل الأدبي قد “فسر” أخيرا؟”
ننتهي إلى التقرير هنا بأن علماء النفس والمحللين النفسانيين غير قادرين على تفسير كلي للصورة الشعرية، وهم أعجز عن تفسير الجاذبية التي تمتلكها تجاه ذهن لم يعان عملية خلقها… كما أن هذه الصورة “ببساطتها، لا تحتاج إلى دراسة أكاديمية. إذ لها صفة الوعي الساذج، فهي، في تعبيرها لغة فتية. الشاعر، من خلال جدة صوره، هو دوما أصل اللغة. وحتى نحدد بدقة كيف يمكن أن تكون ظاهراتية الصورة، وكون الصورة تسبق الفكرة، علينا أن نقول إن الشعر هو ظاهراتية الروح أكثر من كونه ظاهراتية العقل” .
إنه كون من نوع خاص، منفتح على تأويل مزدوج: كون بما تدل عليه الكينونة، وكون بما يحيل على رديف العالم؛ لكن “وإذا كان هذا الكون هو غير الكون الفيزيائي للتجربة المباشرة، فإن ذلك لا يعني عدم واقعيته. لقد نوقشت هذه المسألة بما فيه الكفاية مما يجعل من غير الضروري أن نعود إلى مناقشتها هنا، لكننا سنكتفي بإضافة ملاحظة واحدة: لا يكشف العمل الفني عن معناه ودلالته إلا بقدر ما اعتبرناه إبداعا مستقلا، أي بقدر ما قبلنا نمط وجوده – بما هو نمط الإبداع الفني – ولم نختزله في أحد عناصره المكونة فقط (كالصوت أو الجرس الموسيقي، والمفردات اللغوية، والبنية اللسانية… الخ في حالة القصيدة…)”
إن عبارة بيير جان جيف “الشعر روح تتفتح شكلا” هي القوة العليا  المعبرة عن الحالة “وحتى لو كان الشكل معروفا ومكتشفا من قبل، صيغ من مكونات مبتذلة قبل أن يضيئه نور الشعر الداخلي، فإنه يظل موضوعا من موضوعات العقل. ولكن الروح تأتي وتفتتح الشكل، وتقطنه وتستمتع به” .
إنه الرنين ورجع الصدى، فبالرنين نسمع القصيدة، وبالترددات نقولها، فتصبح ملكنا؛ وتعدد الرنين يدل على وحدة الوجود.. الغزارة والعمق هما دائما ظاهرة ثنائية الرنين ورجع الصدى، وبهما توقظ القصيدة في داخلنا أعماقا جديدة، وذلك لأنها تحدث يقظة حقيقية للإبداع الشعري حتى في روح القارئ… والصورة الممنوحة لنا من خلال قراءة القصيدة تصبح فعلا ملكا لنا ، لأنها تعبر فعلا عما كنا نريد قوله، وربما عجزنا عن ذلك.. لكن كان بإمكاننا فعل ذلك…
القراءة الظاهراتية للشعر تجعل القارئ شاعرا على مستوى الصورة التي قرأها، وتكشف عن لمسة كبرياء، أما الناقد الأدبي وأستاذ المنطق، اللذان يعرفان كل شيء ويصدران حكمهما على كل شيء فينزلقان بسهولة نحو الاستعلاء.. القارئ الظاهراتي – كما يصفه جان بول ريشتر – يقرأ المدائح التي قيلت في الرجال العظام وكأنه موضوع هذه المدائح .
ففي “جوهر التكوين الشعري تكمن ثنائيّة بؤريّة تمنح الشعر علاقته باللغة العاديّة من جهة، وتفرده من جهة أخرى، هي ثنائيّة الحضور/الغياب” . وعلى التكوين الشعري أن يبلور، على المحور النسقي، عنصرا من بين عدد لا نهائي من العناصر الممكنة، أي أنه يسعى إلى تحقيق اختيار محدد على حساب اختيارات عديدة ممكنة، وما يتحقق يصبح حضورا، أما ما يظل ممكنا فإنه غياب . إنها جدلية مستمرة بين الحضور والغياب، وهي التي تحدد طبيعة المكون الشعري ووظيفته. “أما على المحور التراصفي فإن سلسلة الاختيارات المتحققة والمرتبطة بسلسلة غائبة، تمتلك فيما بينها علاقات حضور تشعّ من بين علاقات الغياب الخفية الكامنة وراءها. ولقد وعى ياكوبسن حين حدد العملية الشعرية بمفهومي الانتقاء والترصيف (الاختيار والضم) هذين البعدين دون أن يسميهما، أو على الأقل إن مفاهيم ياكوبسن تتضمن هذين المفهومين” .
وإذن، فالصورة الشعرية انبثاق من اللغة، لكنها تعلو قليلا على لغة التواصل العادية؛ لهذا، وحين نعيش الأشعار التي نقرأها فإننا نعيش تجربة الانبثاق المنعشة.. إن متعة القراءة تبدو انعكاسا لمتعة الكتابة، وكأن القارئ هو شبح الكاتب، وبالنسبة لبرغسون فإن مشاركة القارئ في متعة الخلق هي دلالة الخلق . وإذا كان السايكولوجي يحفر منقبا عن ماضي الرجل لاستكناه سبب تعاسته.. فإن الظاهراتي لا يذهب إلى هذا الحد، لأن “التسامي في الشعر يعلو فوق سايكولوجية الروح الشقية” ، لكنه، وبالقدر الذي يعلو عليها، فإنه يوقظها ويحفزها، وفعل اليقظة/التحفيز هنا يستمد كل عنفوانه من الذكرى المرتبطة بالمكان، والمكان المعادي تحديدا، لأنه مصدر الوجع، ومصدر الكتابة بالشعر التي تعبر عنه، والتي علينا نحن القراء أن نتمثلها حتى تتحقق متعة القراءة الكاملة، عبر فتح كل مسامنا لخوض تجربة الشاعر، من الداخل، كأننا هو، لملامسة سبب معاناته/تعاسته، ولفهم تجليات المكان العنيف، المعادي، المتوحش… ودوره فيها. وكيف تم التعبير عما هو بشع ورهيب بالشعر، أي كيف تم تحقيق مفارقة التعبير عن البشاعة بالجمال وعن المآسي بالحس المرهف، هذه هي جمالية المكان المحتفى به في هذا الإنجاز؛ أي العبور من المكان، بما هو انجذاب إلى الحنين وإلى الأصول، إلى جمالية المكان العدواني العنيف: المقابر، السجون، ساحات المعارك… بكل ما تثيره في النفس من رهبة ووحشة وكآبة وانسداد أفق…
إنها عودة إلى المكان من خلال أسئلته الوجودية الكبرى المرعبة، والمتجددة أبدا، والتي نشرع أبوابها في وجوه دارسي الشعر، وبالتأكيد في وجوه الشعراء من قبلهم.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| طلال حسن : رواية للفتيان – خزامى الصحراء

إشارة: بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال …

هشام القيسي: أكثر من نهر (6) محطات تشهد الآن

ينفتح له ، وما يزال يرفرف في أفيائه مرة وفي حريق انتظاره مرة أخرى ومنذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *