الساعة التاسعة ليلا في مدينة لندن…البيكادلي سركيس كأنها في وضح النهار..ألوان الأضاءة الساطعة تبهر العيون..والناس من كل الأعمار يذرعون شوارع المكان المعروف..هو وصديقه، يودّون الدخول لأحدى دور السينما..يدرسون دكتوراه الصيدلة في جامعة لندن سوية..باهر، ولد في العراق قبل 33 عاما بالتمام …ووصل لندن بعد أن ترك عمله في الخليج ليلتحق بالدراسة على النفقة الخاصة..وسامر من مواليد ويلز في بريطانيا..الأثنان مختلفان في هوايتهما ولكنهما يلتقيان في دراسة واحدة ..وفي فريق كرة القدم بالجامعة..
يضغط باهر الصندوق الأصفر المخصّص لبيع تذاكر السينما، ويدخلان قاعة العرض رقم 8. الفيلم اليوم “باريس منتصف الليل” ومخرجه وودي ألن..يقرأ ذلك باهر وهو الذي يحب أفلام السينما الهادئة..يدخل معه سامر..غير مبال للفيلم…فما الذي سيحصل في باريس منتصف الليل؟!.. ومن هذا الوودي ألن ؟ ولماذا يهتم هو بمعرفة أسم مخرج الفيلم..؟..
ظل باهر ملتصقا بشاشة السينما وفيلمه الجديد كمن مسّه الجن..فالممثل ذي الشعر الأصفر والأنف المعقوف الطويل لا يهتم بخطيبته الجميلة..وهو الأميركي الذي يزور باريس لأول مرة..كاتبا للرواية وحالما بشىء لا يستطيع البوح به..يكرع سامر شرابه…وتصطك أسنانه بقشور “الشامية” الحلوة..لا يعيره باهر أي أهتمام..يسبح في فضاء الفيلم..حيث راح بطله في حلم يسافر به الى باريس الماضي….
ففي منتصف الليل تماما تأخذه السيارة القديمة البيضاء حيث بيت بيكاسو وسلفادور دالي وكوكان وهمنغواي..وحيث مسرح الطاحونة الحمراء أو المولا روج..وخليلات بيكاسو والمشي تحت مطر باريس والموسيقى الكلاسيكية الهادئة…
تعجبه الفكرة..ويذهب باهر في حلمه الخاص به هو..حيث يرى نفسهفي عربة مذهّبة، يجوب فيها بغداد منتصف الليل في بدايات القرن الماضي..ويلتقي الجواهري والسيّاب والرصافيّ..ويعرج على شارع “أبو نؤاس” الساهر حتى الصباح.. ويقرأ ما يكتب على الزهاوي.. ويطرب على صوت عفيفة أسكندر التي يتغنى بها أبوه عندما يكون بأحسن احواله…ويدخل سوق السراي ثم شارع المتنبي ويمكث برهة في المتحف البغدادي الشعبي..و..و…وفجأة يلتفت الى صديقه سامر..فيراه يغط في نوم عميق كأنه من أهل الكهف..وقد أندلعت علبة “الشامية” على بنطاله.. وساح شراب على أرضية سينما في لندن..لا يوّد اليوم هو مغادرة شاشتها.
د. عامر هشام : بغداد منتصف الليل
تعليقات الفيسبوك