إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ بنشر ملفها عن الروائي والقاص المبدع الأستاذ “حنّون مجيد” الذي أثرى المكتبة السرديّة العراقية والعربية بالأعمال الروائية والمجموعات القصصية المميزة التي مثّلت إضافة نوعية وكبيرة إلى الفن السردي العراقي والعربي. تدعو أسرة الموقع الأحبّة الكتّاب والقرّاء إلى إغناء هذا الملف بما يتوفّر لديهم من مقالات وصور ووثائق.
أسرة موقع الناقد العراقي
يحلّق حنون مجيد في فضاء القصة القصيرة من جديد عبر مجموعته القصصية ” مسدس صغير ” ليؤكد تواصله الابداعي مع السرد بأشكاله المختلفة : القصة القصيرة جداً والقصة القصيرة والرواية ، وكانت هذه المجموعة قد صدرت مؤخراً عن ” دار أمل الجديدة ” في دمشق ، وجاءت في 147 صفحة وهي تضم عشرة نصوص قصصية قصيرة توحّدها متانة السبك وقدرة لغة السرد على الكشف عن مكنونات النفس وما يجول في خواطر شخصيات القصص العشر التي يتقمص القاص دور البطولة في أغلبها والتي هي نتاج تجاربه الشخصية .
يستذكر القاص ، من باب الوفاء ، صديقه القاص والروائي الراحل أسعد اللامي فيهدي مجموعته إلى روحه وهو جدير بمثل هذا الإهداء ، ويهدي القصة التي تحمل عنوان ” الجلسة الدامية ” إلى ” محمود الظاهر في حياته “، أما قصة ” كروزو الحزين ” فيهديها إلى القاص ” عبد الاله عبد الرزاق” ، في حين يهدي قصة ” كارولينا ” ” إليها في غربها البعيد ” : إلى كارولينا التي تحمل القصة اسمها عنواناً لها . وتنطوي هذه الاهداءات على حس مفعم بروح التواصل الانساني والوفاء لتاريخ العلاقة القائمة بين طرفي الإهداء سواء كانت قصيرة أم طويلة .
تُستهل هذه المجموعة بقصة ” الجلسة الدامية ” التي يسترجع القاص فيها بعض ذكرياته مع صديقه القاص محمود الظاهر منذ أيام عملهما المشترك في دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد ، وتتعدد أماكن اللقاء بينهما في انتقالات متواترة : فمن الطريق إلى دار الشؤون الثقافية إلى كورنيش شط العرب ، إلى الفندق المتواضع الذي كان الظاهر يقيم فيه في بغداد ، ثم القاعة / المشرب التي التقى فيها السارد مع صديقه ، وتشي هذه الانتقالات المتواترة بما يكمن في داخل الصديقين من أحاسيس ، يؤججها ثَملٌ ” أسرف في الشرب يقرأ قصيدة بصوت هادىء وبحروف مدغمة ، لكنها بدت مفهومه له ” ( (ص 13) . وبدا كأن السارد وصاحبه كانا مأسورين بالنظر إلى جسد النادلة الجميلة التي تلبي طلبات الزبائن والتي كان الثمل يغازلها بين حين وآخر .لقد كان وجود المرأة في المكان يهيج ذاكرة كل من الرجلين ،وكان الموت فد غيّب زوجتيهما ، وربما كان الثمل يعاني من حالة مماثلة وهو يردد ألأبيات الشعرية بحرقة موجوع .
وتجد تجارب القاص الشخصية : تجارب السفرإلى خارج البلاد على وجه التحديد ، انعكاساً لها في ثلاث ٍ من قصص المجموعة : : بيفرلي ” و ” كارولينا ” و” طرفة ما ” ، وتحضر المرأة الأجنبية ضيفة طارئة في كل واحدة من هذه القصص التي تنطوي على الاحساس بالحرمان ، لكن المرأة الأخرى الغائبة ،إمرأة العائلة ، تحاول الحضور كمعادل خفي لتلك التي تراود خيال السارد في غربته ، غير أنها تظل على هامش الأحداث وإن حاولت التشبث بوعي بطل القصة . يتجلى الحنين إلى الماضي في القصة التي تحمل عنوان ” كروزوالحزين ” : قصة مدير المدرسة الذي يدفعه الحنين إلى قريته القديمة إلى الذهاب إليها بعد غياب . تُستهل القصة بقول السارد : ” مضى القطار .. بينما خلّف بين أذنيه أذيال أصدائه المتلاشية ، كان قد سحب من عينيه آخر عجلاته القصيرات الثقال” ( ص 43 ) . ويشى هذا الاستهلال بالرحيل والغياب وقد وجد بطل القصة الذي لا بحمل اسماً ، نفسه مهجوراً وقد غادره القطار، نادماً على إضاعة فرصة الاقتراب من المرأة التي كان واقعاً في بؤرة نظراتها وهما في عربة القطار وها هو يسترجع أغنية مسعود العمارتلي التي تشي بالشعور بالندم . الرجل أسير الماضي في زيارة كانت مبتسرة ، لم تنته بما كان يأمل . وحين وصل بيته القديم وجده مهجوراً : ” دخل الغرف الصغيرة التي عتمت وتكاثفت فيها الظلال.. مس بأصابع متوجسة حيطانها الخشنة ، وداعب بشغف طينها الثقيل ……. عاد من حيث دخل ، وألقى نظرة أخيرة على الشجرةالوارفة ، لكنه عاد وطوقها مرة أخرى بذراعيه ” (ص52 ) . والشجرة هي الأثر الوحيد المفعم بالحياة لديمومة المكان الذي تبقّى لديه , ولعل المفاجأة التي صاحبته تمثلت في وجود ساعي البريد الذي سلّمه الرسائل التي كان قد أرسلها إلى أمه ووصلت بعد فوات الأوان أي بعد رحيل ألأم ويجسّد حضور شخصية ساعي البريد محاولة للربط بين الماضي والحاضر .
للحرب وما ترتب عليها حضور في قصتي : ” مسدس صغير ” و ” جندي من تلك الحرب”. في القصة الأولى التي تتخذ المجموعة عنوانها عنواناً لها ينطلق صوت السارد ليكشف عن حالة القلق المصحوب بالخوف خلال معاناة أسرة عراقية يتعرض بيتها للتفتيش بحثاً عن السلاح أيام الاحتلال الأمريكي للعراق :” ان مداهمة الأمريكان لبيوتنا للتفتبش عن السلاح ذات فجر ، أحاطنا برهبة ورعب كانا كافيين ، لنفكر ، كلّ على طريقته ، في الموضع الذي يخبىء سلاحه فيه “( ص 59 ) . وما سعت عائلة السارد لإخفائة لم يكن سلاحاً مثيراً للشبهات : محض مسدس صغير ” كأنه لا يصلح إلاّ لصيد العصافير ” كما يقول السارد .وفي ظل جو الرعب لم تجد ربة البيت مكاناً تخفي المسدس فيه سوى ساعة جدارية ولأن الساعة مصنوعة في الصين فقد أثار ذلك استياء الضابط وطلب من الجندي المرافق له أن يأتيه بها فاكتشف المسدس الصغير فيها لكنه تغاضى عن صاحب البيت بعد أن أنزل على صدور أفراد الأسرة من الرعب ما جعل هيّناً ضياع كل الأشياء المادية الثمينة التي سرقت منهم في تلك الغزوة .في القصة الثانية ” جندي من تلك الحرب ” ، والحرب المعنية هي الحرب العراقية ــ الايرانية ، تتجلى ارهاصات مقاتل جريح في أرض المعركة وهي تكاد تنفرد بمباشرتها لاسيما في خاتمتها .
تختتم المجموعة بالقصة التي تحمل عنوان ” قصة شال ” وهي أقصر القصص العشر ( أربع صفحات ) لكنها تغتني بالقدرة على التعبير لما تتوافر عليه من ايماءات يتجلى أبرزها في خاتمتها الموحية. فالمرأة التي خرجت بأبنها في نزهة على شاطىء النهر ، كانت بين ” أن تظل ثابتة لكي لا تنسرح العربة بطفلها إلى النهر ، وبين أن تلتقط شالها الذي سرقته من على رأسها ريح ، ظلت محيرة لحظة خاطفة تنفست بعدها الصعداء ” ( ص 143 ) ، كان من الطبيعي والمنطقي أن تعمد إلى الاختيار الأول لكن القلق تلبسها من أن يغضب زوجها وهو يراها حاسرة الرأس ، غير أنها فوجئت به يهنئها على سلامتها وسلامة الطفل ويقول لها: ” ما أجملك وأنت بلا شال ” بما ينطوي عليه قوله من دلالة .