محمد الدرقاوي: درب “جا ونزل “

مذ بدأت أمي تسمح لي باللعب مع أبناء الحي في الدرب وأنا لا اعرف من حينا غير منزلنا ومنازل أطفال جيراننا ، وحده منزلنا كان يحتل سمعة الطريق الرئيسية والحي كمنزه للشرفاء عريق ،أما باقي المنازل فكانت تقع قلب الدرب المقابل لبيتنا . هما في الواقع دربان : كبير نلعب فيه ويضم أكثر المنازل، ودرب صغير يسمى “جا ونزل ” لا تتعدى دوره المسكونة ثلاثة ..بينما دار رابعة عبارة عن خربة مهجورة من قبل ان ترى عيوني نور الحي ، تطل خلفيتها على “واد بين المدن” و “سقاية للا يدونة ” ومجزرة المدينة القديمة قبل ان يتم تحويلها الى معمل عصري لصباغة الجلود ..يحكى ان النار قد شبت في الدار بليل ، فتهاوى سقفها على أرضها و كانت السبب في قتل كل اهل البيت عدا صبي صغير تم إخراجه من تحت الأنقاض ولا أحد يعرف من تبناه أو تكفل به
لم نكن نقترب من البيت المهجور،فامهاتنا كن يحذرننا منه لما يروين من حكايات عن الجن الذي عشق بنتا غفل عنها رجال الانقاد، فتزوجها وقد صارت هي نفسها من قبائل الجن تخطف الصبيان ، لهذا كنا كأطفال بقدر ما نخاف هذا البيت نتجنب الدخول الى درب “جا ونزل “..حتى لا نصير رهائن في بيت يسكنه الجن وقبيله ..
قلما كنا نحن الأطفال لا نلتقي في الدرب الكبير مساء بعد العودة من مدارسنا حيث نلعب “حفيرة ” بعظام المشمش او كريات طينية أو زجاجية ملونة ، أو غميضة وطايبة ،أوحابة وغيرها من اللعبات التي كنا نتسلى بها ويظهر بعضنا قوته وذكاءه من خلالها…..
ذات صباح من أيام العطلة الصيفية تفاجأنا نحن الأطفال بخروج رجل وامرأة من داخل البيت المهجور، كم أرعبنا ظهورهما ،فقد كنّا نسمع ان الجن يتسيفون بشرا وحيوانات، لهذا كان تساؤلنا : هل هما من الانس ام الجن ؟ متى دخلا؟ وكيف خرجا ؟ لا ندري!!..
لكن بعد أيام صرنا نرى رجالا يدخلون ويخرجون ،والحمير تنقل الرمال والآجور والاسمنت والحديد الى البيت ،فأدركنا ان ورثة البيت قد ظهروا وشرعوا في إعادة بناء المنزل ،لكن كيف طردوا سكانه من الجن ،فهذا هو السؤال الذي لم نعرف له ردا ..
لا ندري الزمن الذي استغرقه إعادة بناء الدار فقد انتهت العطلة و عدنا الى مدارسنا بعد عطلة الصيف ثم اقبلت عطلة صيف أخرى والدار لازالت في آخر مراحل البناء..
كل سكان الحي صاروا يتحدثون عن الدار الجديدة التي صار ت تحفة فنية تترجم حضارة فاس العريقة وقد أخذت بلب النساء خاصة ، بعد ان صارت بهجة عين ، من فن العمارة حيث يتجسد الجمال والأصالة ، نافورة ماء يتغير لونها حسب الأوقات بموسيقى أندلسية وغربية ، قبب وزليج فسيفسائي وزخارف خشبية وجبسية في الاسقف والجدران ،بلاط رخامي بتربيعات ملونة بيضاء وسوداء ، فما تسللت الى البيت أنثى من الحي بدافع الفضول الا وتمنت ان يصير لها بيت مثله ، فكل امرأة صار البيت لها تنهيدة ورغبة في إعادة اصلاح بيتها أو الانتقال الى بيت جديد تجد فيه ولو القليل مما أخذ بلبها في درب “جا ونزل”، وقد استطاع العمال المهرة ان يحولوا أسطورة الجن وزوجته الإنسية المنسية الى أسطورة من سحر ابداع للعقل ومتعة السمع والبصر ..
ماحرك غيرة النساء وفضولهن أكثر هو نوعية الأثاث الذي تم تجهيز الدار به ،وكأن ورثتها من أكبر أغنياء البلد،أو من أمرائها الأثرياء ،وان من سيسكنها عريسان جديدان من أسرة ملكية ، يحملان معهما اصالة وطن وامتزاج حضارة امازيغية عربية بألوانها من سجاد وزرابي وتلامط الافرشة وخوامي مما بعث في البيت سحرا حقيقيا غير سحر التخويف الذي كم أرقنا نحن الصغار ، حتى الخشب الصحراوي الافريقي صار له في البيت اثر بارز…
اهتز الحي بكامله لصخب حفلة الوكيرة التي أقامها صاحب الدار ، أجواق أندلسية و أخرى للملحون ، طوائف عيساوية وكناوية ، موائد للطعام يسهر عليها ممون من اشهر ما أنجبته العاصمة العريقة ، وقد كان استغرابنا كبيرا أن أكثر المدعويين كانوا وزراء وسفراء وقناصل دول غربية ومعهم نصارى ويهود عرفناهم بطاقياتهم الصغيرة السوداء او البيضاء والزرقاء..
يوم بليله ونهاره لم تتوقف فيه موسيقى ولا رقص ، ولا نفد أكل، حتى أن الممون بأمر من صاحب البيت قد وزع الكسكس على كل سكان الدربين الكبير والصغير..
لا أحد كان يعلم أن الدار لم تعد مأوى للسكن العادي كما كانت ، بل بنيت لتصير دارا للضيوف الأجانب من الطبقات الراقية،وللسياح الأثرياء،
فموقع الدرب القريب من دار الدبغ شوارة مكان دباغة الجلود بالطريقة التقليدية ودرازات مختلف الصناعات الحرفية اليدوية الأصيلة والذي لن يصلها زائر سائح الا بعد مروره على الصفارين حيث صناعة الأدوات النحاسية والفضية التقليدية بكل أنواعها الخفيفة والثقيلة وكل الملحقات التي تفتخر بها المدينة و التي تعد من عراقة تاريخها الحضاري ، كما يمر على المشاطين حيث صناعة كل أنواع المشط من قرون البقر والعجول وهي حرفة صارت تنقرض ولم تحتفظ بها سوى المدينة العتيقة تجلب اليها دهشة الزوار الأجانب..
لاينزل دليل سياحي مرافقا لزوار المدينة الأجانب دون ان يدخل الدار، للغذاء او العشاء او تناول الشاي وتدخين عشبة الكيف التي يعشقها السياح .. بل من الزوار من كان يبيت في الدار حيث لا تهدا حركة بليل ولا نهار وهذا ما أقلق السكان الذين فقدوا راحتهم وصاروا يخافون على أبنائهم وبناتهم خصوصا وان وسائل الاغراء كثيرة ومتنوعة..
اشتكى السكان ، كتبوا عرائض وقاموا بوقفات احتجاجية … لا من يرد الصدى، ،فكلما اشتكى اهل الدربيًن تكاثر زوار الدار بالليل والنهار ،وقد انضاف زوار من الخليج،جديدو عهد بالسياحة الراقية بعد ان تنوعت جنسيات البنات اللواتي كان بعضهن يقمن بالدار ينمن بالنهار ويعملن بالليل..
صرنا كأطفال ممنوعين من اللعب في الدرب الكبير بل ممنوعين حتى من الوقوف بباب منازلنا وكلما امتد العمر بنا عرفنا أكثر عن الدار وما يمارس فيها..
باع سكان الدور الثلاثة من درب “جا ونزل “منازلهم بعد أن بح صوتهم من الشكوى بلا استجابة من السلطات ،ولم يكن المشتري غير صاحب الدار التحفة الفنية الذي شرعت أطماعه تمتد الى الدرب الكبير بعد ان فكر أهله في المغادرة خصوصا وان ثمن البيع صار مغريا ومشجعا سكان الدرب على المغادرة …
ذات صباح وأنا أغادر البيت الى اعداديتي تفاجأت برجال الشرطة وضباط من الجيش يملأون الزنقة ، ارتهبت واستعدت ذكريات الجنود الفرنسيين الذين كانوا يطوقون الحي أيام الاستعمار بحثا عن الفدائين .. ماذا وقع ؟ بسرعة تراجعت الى باب البيت ، دخلت وقفلت الباب ،ثم شرعت أحكي ما
رأ يت.. كل نوافذ الحي صارت إطلالات رؤوس نسوية خصوصا تستقصي بعضها بعضا عما يحدث في حي ترحم السكان على هدوئه وسكينته مذ استعاد البيت المهجور عمارته ..
لم يكن أحد يخطر على باله أن البيت لم يكن دارا للدعارة الراقية فقط يقصدها جميع الأجناس وانما كان بؤرة يهودية ساهمت في بنائها اكثر من دولة هدفها تنظيم الهجرة الى إسرائيل وكندا ،وتبييض الأموال في القمار والاتجار في الحشيش والسلاح ،كما كان يتم داخل الدار تخطيط جميع مؤامرات القتل والانقلابات واثارة الفتن بين الدول والافراد وقد كانت الدولة تتابع الامر بتعقل وروية الى ان فكت كل خيوط المؤامر ة والتي لم يكن زعيمها ومسيرها غير الطفل الناجي من الحريق والذي تبنته عائلة يهودية وهجرته معها الى إسرائيل حيث درس الهندسة العسكرية واللوجستيك الحربي و علم المخابرات …

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| آمال عوّاد رضوان : حَنَان تُلَمِّعُ الْأَحْذِيَة؟.

     مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، …

| زياد كامل السامرائي : عصيان يعدو إلى حتفه.

اتركي لنا كذبة بلون الرجاء يا حياة كذبة لا تدوس على خواطرنا فتجرح الصراط نمشّط …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *