قراءة الروائي المصري الراحل “فؤاد قنديل” لرواية “الحياة لحظة” لسلام إبراهيم (ملف/147)

إشارة:
مثل قلّة لامعة من الروائيين العالميين كإرنست همنغواي وإريك ريمارك وغيرهما خطّ الروائي العراقي “سلام ابراهيم” نصوصه بدم التجربة الذاتية ولهيبها. وفي اتفاق مع إشارة خطيرة للباحث الأناسي العراقي البارع د. علاء جواد كاظم الذي اعتبر روايات وقصص سلام إبراهيم من مصادر الدراسة الأنثروبولوجية الناجعة في العراق نرى أن نصوص سلام يمكن أن تكون مفاتيح لدراسة الشخصية الوطنية مثلما استُخدمت نصوص ياسانوري كاواباتا لدراسة الشخصية اليابانية ونجيب محفوظ لدراسة الشخصية المصرية مثلا. الفن السردي لسلام ابراهيم هو من عيون السرد العربي الذي يجب الاحتفاء به من خلال الدراسة الأكاديمية والنقدية العميقة. تحية للروائي المبدع سلام ابراهيم.
أسرة موقع الناقد العراقي
رواية ملتهبة كعالمها الذي قذفه صاحبه في وجوهنا جمرا ، تحاول عبر رؤية كاتبها الذي عاش أغلب ما جرى استعراض التجربة السياسية العراقية الملتبسة خلال نصف قرن انتهى بالاحتلال الأمريكي للعراق، وإذا كان نصف القرن انتهى ، فلا انتهى الاحتلال ولا طويت صفحة المعاناة .
البطل في رواية الكاتب العراقي”سلام إبراهيم” والتي صدرت منذ أيام عن الدار المصرية اللبنانية اسمه ” إبراهيم سلامي” ، ثوري ومناضل منذ الطفولة .واسم البطل لابد يكشف إنها تكاد تكون سيرة روائية. .
” كان يعاند الكل ويفعل ما يحلو له، لا يهمه الكبار وقوانينهم وبسبب ذلك شبع ضربا من أبيه وأعمامه والمعلم، وهذا ما دفعه للتدخين ومضى يمعن في التنافر مع كل شيء منظم ليحصل على حرية خاصة به غير مقيدة بالقوانين والعرف الاجتماعي .. مبكرا ارتبط بالحزب الشيوعي ليس لكونه حزب حرية بل لكونه سريا ممنوعا ..
تنقل بين لينين وتروتسكي وفرويد وكافكا وكامي
دخل خضم النضال وحمل السلاح ورأى الفظائع التي عاشها عن قرب وهو في جبال كردستان بينما كانت طائرات صدام تقصفهم بلا رحمة دون أن تتوقف حتى لالتقاط الأنفاس ، فاضطر للهرب إلى سوريا وألح عليه زملاؤه بضرورة العودة وما لبث أن قبض عليه، ثم ذاق مرارة القمع والتعذيب وهو على تخوم الموت في السجون وجبهات الحرب ، وفى حملات صدام على الأنفال بالأسلحة الكيماوية تأثرت رئتاه فهرب إلى سوريا ومنها إلى موسكو وكان قبلها قد هرب إلى إيران بعد أن أيقن بأن الواقع العراقي شديد العنف ، ومحمول فوق العيون المتربصة والمتلصصة ، حيث كل حجر جزء من مخابرات الزعيم ، والأشد عنفا وقسوة أن من الأهل وأعز الأصدقاء خونة و مندسين لحسابه .

قرر السفر إلى موسكو التي رضع الثورة من أثداء كتبها ، وغلبه الاطمئنان إلى أنها الجنة الموعودة له ولأمثاله وهى التي هزمت نابليون وهزت العالم بثورتها فى 1917 كما أنها هي التي هزمت هتلر في الحرب الثانية ، وإن كانت البريسترويكا التي تفتق عنها فكر جورباتشوف سهلت الطريق للعدو الإمبريالي كي يضرب ضربته الأخيرة وينهار الاتحاد السوفييتى .
في الوقت الذي كانت مطارات موسكو تستقبل اللاجئين القادمين من سوريا ودول الشرق الأوسط كانت المطارات ذاتها تودع اليهود الروس المهاجرين إلى إسرائيل
مط البطل شفتيه غير مبال بما يتعرض له العالم من مستجدات ومتغيرات وقرر أن يستمتع مع زوجته وطفليه بقليل من الاستقرار فقد آن أن يبتعدوا عن النار والفرار والرعب ، لكن الزوجان سرعان ما انفصلا وغادرت الزوجة والطفلين إلى الدنمرك، وبقى البطل وحيدا في مواجهة موسكو التي كان يصدمه مشهد أبنائها الذين يستجدون الخبز وتبحث نساؤهم عن زبائن الليل
.. ” نساء يكدحن ليسكرن في المساء . سكيرات . مطلقات . يبحثن عن عشيق ولو لليلة واحدة ، وصبايا يمنحن أنفسهن بيسر لمن يوفر لهن وجبة طعام .. عذاب بشر يعانون الوحدة والعوز . عالم يشبه كثيرا أجواء المسحوقين في روايات ديستوفسكى وكأن الزمن توقف منذ مطلع القرن العشرين ”
ومن ثم قرر أن يوارى حيرته وعجزه عن خلق أيام مختلفة بممارسة الجنس في روسيا التي تعلم على يديها الثورة .
قال له صديقه المصور الفوتوغرافي ” شاكر ميم ” : الحياة لحظة .. مجرد فقاعة.. حاول أن تصورها بسرعة قبل أن تنفجر .
وهكذا بدأت الرواية وهو يجوس خلال شوارع موسكو ونساءها ولياليها المخمورة وأجواءها السياسية التي تشبه أجواءه النفسية .. إنه زمن الحيرة والضياع ومطر الأسئلة التي لا تجد الإجابات بل تهطل عليها المزيد من الأسئلة التي تفضي بالجميع إلى المجهول . بدأ السارد يحكى ما جري في السنوات الخوالي .. بدأ من المنفى ليعود عبر الذكريات إلى الوطن المكلوم .وكان من الطبيعي أن تسبح الروح الضائعة في مشروب الضياع لاستكمال معانقة الوهم .. خمر ونساء ووحدة وذكريات .
هذه هي الفترة الوحيدة التي هدأت فيها نيران الملاحقة وتراجع خلالها نباح الذئاب التي تطلب دمه ولحمه وحريته وأفكاره المتمردة. وفى مثل هذه الأحداث المتفقة والعنيفة التي عاشها في العراق لا يملك السارد ترف الكتابة ، وإنما عليه اقتناص اللحظات قبل الأخيرة كي يستدعى ما فات ويطرحه على مرايا الذات تأهبا لما بعدها ، وقد أحسن سلام البدء من المنطقة المفصلية التي تتواءم مع الموضوعات طويلة الزمن، كما اختار فترة الهدوء النسبي وأعانه على ذلك الاستدعاء التقاءه بالعديد من الأصدقاء الهاربين مثله من هول الضربات .
ترك البطل نفسه تغرق في استدعاء ما تفجر من أحداث في العراق ، وكلما تحولت نيران الذكريات إلى رماد التقى العديد من اللاجئين العراقيين الذين هربوا من السجون ومن حياة لا تعرف الأمن مطلقا ، وتجددت مع الوافدين المزيد من الذكريات الملتهبة حين يكشف كل منهم أسرارا غريبة ومدهشة تفتح بوابات من الرعب ، فمنهم من يعترف بأنه كان عميلا للنظام ،ومنهم من يقر بأن الثوار أنفسهم عذبوا معارضيهم .. حكايات واعترافات تنكأ الجراح الغائرة . عندئذ لا يملك الجميع وفى مقدمتهم “سلامي ” إلا الفرار إلى أحضان بنات روسيا الدافئات لعلها تطفئ لظى المشاهد القادمة بالتعاسة من بلاد الثورة والجنون .

يتذكر البطل ذلك الراوي على منبر جامع الحي وهو يروى قصص الأنبياء .. يتأمل في لذة أخيلة الطفولة وهى تعيش مع أرواح الأنبياء متطهرا من ذلك الحماس الذي دفن تلك الأخيلة ، والقادم من لغو خطاب اليسار المتطرف من القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي وأساطير ثورتها المسلحة في الأهوار أواخر الستينيات إلى الخطاب القومي العربي ، وخطابات ” نايف حواتمة ” و ” جورج حبش ” الطويلة في مجلتي ” الحرية ” و” الهدف ” وسيل أغان ثورية تمجد الحرب والمقاومة ، عقب أحداث أيلول الأسود عام 1970فى الأردن، التي كانت تبث طوال اليوم من إذاعة بغداد.. وقتها تصور أن اليهودي مارد جبار ينبغي مقاومته ، لتأتى قراءة غسان كنفاني معمقة شعور العداء لليهود في قصصه ، سيختبر كل ذلك الليلة في هذى الكابينة ( فقرة من فصل بعنوان اليهودية الجميلة – إحدى نساء موسكو الفاتنات التي خففت عنه الكثير من الوحشة البائسة )
ولما حرقه الشوق لولديه وزوجته غادر موسكو إلى كوبنهاجن هروبا من التشرد باتجاه حياة مستقرة ، فكحل عينيه برؤيتهم ،وإن لم تسمح له الزوجة بالبقاء قريبا منهم ، فتشرد من جديد حتى تلقى من المؤسسات الأهلية والرسمية بعض العون.

” ما بت واثقا منه هو أنى لم أكن طوال عمري سوى حالم يعتقد أن باستطاعته تغيير الدنيا.. هذا الحلم الذي لم ينكسر لا في حياتي في العراق وأنا أعمل سرا ضد الديكتاتور ، ولا بين الثوار في الجبل حينما حملت سلاحا متخيلا لحظة دخول مدينتي ، ظافرا جالبا الخبز للفقراء والحرية للإنسان.. لم ينكسر هذا الحلم أبدا حتى في موسكو ،والشيوعية تتهاوى مثل بناء هش تحت ناظري .. كنت أعتقد بالإنسان في معادلة غير قابلة للنقض ، هي التي أفضت بي إلى هذا المآل ، حيث صرت متشردا في بلد لا مكان فيه لأحلام الثورة ، فكل مشكلة لها حل في نظام متماسك قليل الثغرات.. لقد وجدت نفسي عاريا علي قارعة المنفى دون حلمي ..
هبطت لأجد نفسي عائما بلا أي قيمة فكل شيء مرتب هنا .. لم أجد مكانا للحظتي التي كنت أمكث فيها لمقاومة الكل .. وجدت الحياة هنا تسحبني خارج فقاعتي التي أسست وجودي في العراق وها أنا أبدأ رحلة تشرد جديدة بعد أن ألقتني أم الأولاد على بلاط بارد وخارج المؤسسة الزوجية .”
أقبل بطل المأساة العراقية على الخمر بما يتسلمه من معونة ويمضى في كل درب شريدا ووحيدا إلي أن ابتلعه مستنقع الإدمان وأدخل المستشفى وكلفوا له طبيبا يرعاه ، وكان يشعر بالتعاسة لأنه حرم الخمر التي غدت صديقته الوحيدة إلى أن سمع باحتلال الأمريكان للعراق وشاهد الأطفال في التليفزيون ينها لون على رأس صدام ضربا بالنعال والكل مبتهج فانشرح صدره وشعر أن حلمه بالعودة إلى العراق بات وشيكا وبعد أن كان عاجزا عن الوقوف حملته في يسر قدماه وأخذ نفسا عميقا من الهواء ..هواء الحرية وعناق الأوطان التي آن أن تتمتع هي الأخرى بالحرية والسلام .
مضى يحلم برؤية مرابع الصبا وقبري أمه وأبيه اللذين ماتا في غيابه.. ما أروع أن يتعرف من جديد على معالم مدينته !! .. جسورها . أسواقها . أزقتها . مقاهيها . وجوه من تبقى من الأصحاب . ما أروع أن تعود إلى الوطن وتقبل ترابه .
يحاور نفسه المنتشية بالحلم الذي بعث من جديد : سترجع يا إبراهيم إلى رحمك الحميم . سترجع إلى مدينتك بلا ” البعث ” اللعنة
ولكنه عندما بلغ حدود مدينته قادما من كوبنهاجن مارا بسوريا محملا بلهفة أسطورية لعناق كل ما يلتقيه في البلد الحبيب
أوقفته مجموعة من المجاهدين وفحصوا جواز سفره الدنماركي وفورا أعلنوا اعتقاله لأنه أجنبي محتل وغاصب ، ولم يبالوا بصراخه : أنا عراقي .. أنا عراقي
وانقضت فجأة على صدره كلابات كابوس عملاق تنهش روحه التي تأهبت زمنا للوعد الجميل .
هذه ليست رواية الثوري إبراهيم وحده بل رواية كل الثوار العرب تقريبا ، وهي ليست رواية عن التجربة السياسية العراقية فقط ولكنها تحكى جوانب كثيرة من تجربة الثورة في عديد من البلدان العربية التي وقعت بين المطرقة والسندان وتوزعت بين القيود والأحلام .. بين عشق البلاد وسطوة الاستبداد.
رواية ” الحياة لحظة ” نص أدبي بديع ومستفز وملهم ، استطاع كاتبه أن يقدم لنا بللورة فنية مشعة من فرط ما فيها من الأحاسيس واللغة الشاعرية المتوهجة والحقائق التاريخية وتماسك البناء وعرامة التجربة وحرارتها وقد توفر عليها صاحبها سنوات لينسج عالمها الخصيب بأعصابه وبكل خلية من خلايا روحه وغمس التي غمسها في محبرة أيامه ومعاناته وهول ما لقيه جسده من لطمات دامية طوال ربع قرن على الأقل.. ومازال مثل الوطن منفيا .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *