إشارة:
مثل قلّة لامعة من الروائيين العالميين كإرنست همنغواي وإريك ريمارك وغيرهما خطّ الروائي العراقي “سلام ابراهيم” نصوصه بدم التجربة الذاتية ولهيبها. وفي اتفاق مع إشارة خطيرة للباحث الأناسي العراقي البارع د. علاء جواد كاظم الذي اعتبر روايات وقصص سلام إبراهيم من مصادر الدراسة الأنثروبولوجية الناجعة في العراق نرى أن نصوص سلام يمكن أن تكون مفاتيح لدراسة الشخصية الوطنية مثلما استُخدمت نصوص ياسانوري كاواباتا لدراسة الشخصية اليابانية ونجيب محفوظ لدراسة الشخصية المصرية مثلا. الفن السردي لسلام ابراهيم هو من عيون السرد العربي الذي يجب الاحتفاء به من خلال الدراسة الأكاديمية والنقدية العميقة. تحية للروائي المبدع سلام ابراهيم.
أسرة موقع الناقد العراقي
أظن أنه من الطبيعي أن تتغير قناعات المرء وأفكاره, ومن الطبيعي أيضا أن ينظر المرء خلفه بين الحين والآخر فتتبدل بعض المعتقدات التي كان ينظر لها بوصفها ثوابت لا يأتيها الباطل. أحيانا يجبرنا الواقع والوقائع المفيدة والتجربة الشخصية عن أن نعيد النظر في أفكارنا وقناعاتنا.. هذه كلها أمور طبيعية جدا..
أقول هذا قبل أن أتناول رواية الحياة لحظة للكاتب العراقي سلام ابراهيم الصادرة أخيرا عن الدار المصرية اللبنانية.. وتشير السيرة الذاتية للمؤلف والمرفقة بروايته أنه تعرض للاعتقال أثناء حكم صدام حسين عدة مرات بين أعوام1970 ـ1980, والتحق بصفوف الثوار في كردستان عام1982, ونزح الي تركيا ثم ايران مع جموع الاكراد, ومنذ عام1992 لجأ الي الدنمارك ومازال يعيش فيها حتي الآن, وأصدر بين أعوام1994 ـ2008 مجموعتين من القصص وروايتين.
اؤكد في البداية أن طموح الحياة لحظة لا حدود له, وتطلعها لاختراق الحدود والآفاق لا حدود له أيضا, فهي تغطي عدة عقود من حياة العراق, وما تلبث أن تتجاوز العراق إيران وتركيا وموسكو والدنمارك وكوبنهاجن, وتعج بعشرات الشخصيات من الرجال والنساء ممن ينتمون الي كل أجناس الأرض.
أما الأهم, فهو التجربة التي يقدمها الكاتب, وهي ببساطة إعلانه بوضوح وبأعلي صوته انقلابه علي أفكاره بعد سقوط الاشتراكية المدوي, وفشل الثورة ـ أو حتي الحلم بها ـ وخطل تجربة الحزب الثوري, وليس نقدها بل وادانتها واعتبار المشاركين فيها ومن تحملوا عبئها وحوشا آدمية.. كل هذا يعتبره كاتب السطور التالية حقوقا أساسية للمؤلف, وبالتالي فإن القراءة التي أقدمها هنا لروايته لا تعني علي الاطلاق إدانه أفكاره واختياراته, حتي لو كنت أختلف مع هذه الأفكار.
علي مدي509 صفحات, يمتد هذا العمل ويستطيل ويتشظي علي نحو من الانماء في الزمان والمكان, سواء في الماضي أو الحاضر, بأكثر من ضمير, وإذا كانت الرواية تبدأ في احدي شقق موسكو, فإن الرحلة المضنية تنتهي في العراق بعد الاحتلال الامريكي, وبين هذين المشهدين: شقة موسكو, وما جري للراوي ابراهيم بعد عبوره الحدود السورية العراقية, تمضي الرواية منحازة لراويها الذي لا يكف عن جلد الذات والبكاء وتناول الفودكا والتقلب بين أجساد النساء ـ وخصوصا العاهرات الروسيات والأوكرانيات ـ ممن لا يمكن بمجرد أن يشاهدنه إلا الوقوع في غرامه.
يقدم سلام ابراهيم عاما عريضا واسعا تختلط فيه المنافي المتوالية, بالعنف والموت والمطاردة, وتبدو مجموعة الثوريين اللاجئيين ألي موسكو عشية حكم جورباتشوف وكأنهم لا هم لهم إلا السكر والمزيد من السكر, والتهام النساء الروسيات والأوكرانيات ممن يبعن أجسادهن بوجبه طعام. وإذا كان المؤلف يدين التجربة الاشتراكية ذاتها فإنه في الوقت نفسه لا يدين راوية ولا يحاكمه مثلما حاكم التجربة وأدانها.
والحال ان الراوي كان ضمن أكثر من300 عراقي من الأنصار السابقين الذين كانوا في طريقهم إلى الدول الاسكندنافيه, لكنهم محاصرون في موسكو بسبب اندلاع حرب الكويت عام1991, ينتظرون مقابلة وفد منظمة مسعدة اللاجئين.
في البداية ينجح في تهريب زوجته وطفليه من موسكو إلي الدنمارك, ثم يبقي وحده نحو عشر سنوات, والحقيقة أنه لم يضع وقته, وسرعان ما أصبحت شقته الموسكوفية ملجأ للعراقيين المنفيين الذين يغرقون في السكر والضجيج وجلد الذات وإدانة أنفسهم وممارسة الجنس.
يقدم الكاتب لنا وحوشا آدمية, كلهم بمن فيهم الراوي ليسوا سوي وحوش آدمية, ليس فقط بعد الانهيار الوشيك للاتحاد السوفيتي السابق, بل وقبله وأثناء صعود الثورة, وسنوات مقاومة الديكتاتور كانوا وحوشا آدمية, لا يتورعون عن تعذيب بعضهم بعضا حتى الموت, كانوا ذئابا وليسوا ثوريين من الأساس.
لا أقصد بالطبع أن الثوريين ملائكة, لكنهم في الوقت نفسه ليسوا وحوشا,ولذلك فإن الرواية بدت كمونولوج طويل ينقصه الصدق والصقل, على الرغم من المشهيات والتوابل التي تعج بها الرواية, مثل مشاهد الجنس المجاني, واستعراض الراوي لفحولته كسكير عتيد ما أن ترك النساء حتى يركضن أمامه.
حتي الصفحات التي كتبها سلام ابراهيم عن طفولة الراوي وصباه, لم تكن معنية إلا بالمشاهد الجنسية والاعتداء الجنسي علي الراوي في طفولته.
أبادر إلى القول بسرعة أنني لا أنظر إلي هذه المشاعر علي نحو أخلاقي مبتذل, وأؤكد أن من حق الكاتب أن يكتب ما يشاء, فهنري ميلر علي سبيل المثال ـ وغيره كثيرون ـ يكتب علي نحو مكشوف تماما, ومع ذلك فهو يخطف الروح!
فالقضية ليست هنا مطلقا, القضية هي أن الرواية ـ أي رواية ـ مقتلها في تبني رؤية وحيدة الجانب, والانحياز الي وجهة نظر محددة ـ أيا كانت ـ والكاتب لم يكتف بالتماهي مع الراوي فحسب, بل أيضا انحاز إلى الأسهل, أي إدانة التجربة بأكملها, وتناول كميات هائلة من الفودكا والطعام والنساء والرقص, علي مدي خمسمائة صفحة, أي حتى الضجر والملل من إعادة المشهد نفسه مرات ومرات دون كل.
اما الغنائية والعاطفية التي ميزت الحياة لحظة فقد أسهمت في أن تصبح الرواية عملا ميلودراميا فجا لا تتكرر فيه المشاهد الجنسية المبتذلة فقط, بل تتكرر فيه أيضا مونولوجات جلد الذات والسخرية منها وتقريعها, فعلي سبيل المثال يعرض الكاتب لجانب من تجربة الراوي أثناء لجوئه في روسيا, حيث يكتشف وياللهول ـ ان هناك فارقا بين اليهودي والاسرائيلي!
وانه ليس كل الإسرائيليين أشرار وأن الشيوعية المجرمة الوحشة هي السبب في حجب هذه الرؤية الاشراقية عن الراوي!
كتب سلام ابراهيم مثلا علي لسان أحد الشخوص:
هذولة المخانثة اللي شفتهم هون بـ كييف الفلسطينية الثورية كلهم كذابون..طبول فارغة يثرثرون كل يوم عن النضال والثورية, وهم ينهشون بعضهم البعض..سفلة..شوف كل واحد من عرب اسرائيل يدرس هون, حاله أحسن من كل العرب عدا عرب الخليج وحتي ان الجولانيين صار حالهم أحسن بعد الاحتلال.. لا يغرك حكي جماعة حبش وحواتمة وعرفات الفارغ.. الناس في الجولان وضعهم صار فوق من مزارع التفاح..ولو يعملوا تصويتا حرا وحقيقيا عن العودة الي سوريا, سوف يصوت بـ( لا) أكثر من تسعين بالمية منهم. فتأمل!
علي أي حال لا يغادر الراوي موسكو إلا في صفحة420, حين نراه في كوبنهاجن حيث نال حق اللجوء ليلحق بزوجته وطفلية, لكنه وقد تحول لمدمن كحول, تطرده زوجته إلى الشارع قائلة:
لاتدخل البيت أبدأ..يدخل صاحبنا مصحة للعلاج من الإدمان, ويتلقى هناك خبر سقوط صدام علي أيدي القوات الأمريكية, فقرر العودة إلى العراق ليبدأ من جديد علي حد قوله: سأجد نفسي سأجدها..
ربما كانت الصفحات القليلة الباقية هي أفضل الصفحات وأكثرها ابتعادا عن الميلودراما والغنائية, فبعد أن يعبر الحدود السورية, ويخلف وراءه نقطة السيطرة الأمريكية الأولى, تختطفه احدي الجماعات السلفية, وفور معرفتهم بأن الراوي يحمل جواز سفر دنماركيا, يدركون أنهم أمام صيد ثمين, ويصدر الحكم بذبحه وتصويره في شريط فيديو باعتباره جاسوسا دنماركيا لتنتهي الرواية.
أظن أنه لم يكن ممكنا توقع مصير أفضل من هذا للراوي, وللرواية أيضا, حتى تكتمل الدائرة العبثية التي أحاطت بهذا العمل المرهق, بسبب التماهي بين الكاتب والراوي وبسبب الرؤية وحيدة الجانب, والعاطفية والغنائية التي قادت الرواية للميلودراما, والميلودراما ـ كما هو معروف ـ مقتل أي عمل أدبي.