ياسين شامل: قراءة في “سيدي قُنصل بابل”1 للكاتب نبيل نوري لكزار موحان (ملف/2)

يقومُ السردُ في “سيدي قُنصل بابل” الذي لم يعطهِ الكاتبُ نبيل نوري تجنيساً، على سردِ المتكلّمِ “First- person narrative” أيّ أنَّ السردَ بضميرِ المتكلّمِ، الذي يوفرُ الإيهامَ ما بينَ صوتِ الراوي في عمومِ العملِ الأدبي، وصوتِ المؤلفِ الفعلي “ومن هنا يأتي الربطُ الظالمُ بينَ شخصيةِ المؤلفِ وشخصيةِ بطلهِ “2 إلا أننا من خلالِ القراءةِ نستطيعُ أنْ نجدَ اسمَ الشخصيةِ الرئيسةِ “نبيل” وتلميحٌ إلى اسمِ الأبِ “نوري”، ذلكَ ما يعززُ توهمَنُا، بأنّ الراوي هو المؤلفُ نفسهُ في تتابعِ الأحداثِ، فهو لا ينقلُ لنا الأحداثَ بل يُشعرُنا بأنهُ مساهمٌ بصورةِ فعالةِ فيها. لا أدري إنْ كانَ الكاتبُ قد لعبَ لعبةً ذكيةً، من أجلِ التوغلِ في الإيهام، حتى يكبرَ السؤالُ عند المتلقي ذاتهُ.
إذا كانتْ تلك حقيقيةٌ، وأنَّ الراوي في داخلِ العالمِ الروائي، شخصيةٌ تتحركُ في صلبِ الأحداثِ المتتابعةِ، فأنَّ خطابهُ لا يبتعدُ عن خطابِ المؤلفِ، إلا إذا كانتْ هناك حجج واضحةً تنفي هذا الافتراضَ.
وعلى رأي عبد الملك مرتاض “كأن ضميرَ المتكلمُ يُحيلُ إلى الذاتِ، بينما ضميرُ الغائبِ “سردُ الغائبِ””third-person narrative” يُحيلُ إلى الموضوعِ. فـ “الأنا” مرجعيتُهُ جوانبهُ، على حين أنّ الـ “هوَ” مرجعيتُهُ برانيةٌ. ولا سواءٌ ضميرٌ يسردُ ذاتهُ، وضميرٌ آخرُ يحكي سواءهُ. ضميرٌ منطلقُهُ من الداخلِ، نحوَ الداخلِ منطلقُهُ، طوراً، ومن الداخل نحو الخارج، طوراً آخر، وضميرٌ آخرُ منطلقهُ من الخارجِ، نحو الخارجِ أطواراً، ومن الخارجِ نحو الداخلِ، طوراً.”3
أستطيعُ أنْ أعدَّ هذا الكتابَ “روايةً”، فقد توفرتْ فيها ممكناتُ السردِ. حيثُ يأتي بصورةٍ أحداث متتاليةٍ أو ما يُسمى “بناءُ التتابعِ”، حيثُ تتابعُ الوقائعُ في الزمنِ، فهو بناءٌ تقليديٌّ بضميرِ المتكلّمِ عبْرَ شخصيتِها الرئيسةِ “نبيل”، التي تتمحورُ عندها الأحداث وتنطلقُ منها شبكةُ العلاقاتِ وترتبطُ بمحيطِها. إلا أنَّ هذا السردَ الذي يسيرُ بخطٍ متوالٍ للأحداثِ يتخللهُ القليلُ من الاستذكارِ “الاسترجاع” على لسانِ أمهِ المغربيةِ “الشخصيةِ المؤثرةِ”، بخصوصِ أبيهِ العراقي “تحديداً من البصرةِ” وكذلك عائلتهِ، هذا الاستذكارُ القليلُ جدّ مهم فهو يُغني مسارَ الروايةِ، ويعزّزُ أحداثَها، ويُعطي مبرراتِها، لندركُ لماذا نبيلٌ في المكانِ المعلومِ “المَغْرِبِ” يعيشُ على أرضِها، من دونِ انتماءٍ لها.
تسيرُ أحداثُ الروايةِ بسردٍ هادئٍ يشدُّ القارئَ، كونُها تروي جانباً مهماً من معاناةِ الإنسانِ، بينَ ضياعِ الهويةِ، وقسوةِ الحياةِ في متابعةِ حياةِ “نبيل” الراوي، منذُ الطفولةِ، وهو تحتَ رعايةِ أمهِ المكافحةِ، من أجلِ توفيرِ متطلباتِ الحياةِ ورعايةِ أبنِها الوحيدِ، تنقلُهُ من الكتاتيبِ، ثم إلى المدرسةِ الابتدائيةِ، والاعداديةِ، وبعدِها يختارُ معهدَ التكوينِ، ليكتسبَ خبرةً في تصليحِ الأجهزةِ الكهربائيةِ المنزليةِ.
مراجعاتُ الأمِّ وأبنِها السفارةِ العراقيةِ في المغربِ، من أجلِ حصولهِ على الجنسيةِ العراقيةِ، على وفقَ الوثائقِ التي تحملُها، في وقتٍ يصبحُ العراقُ تحتَ الحصارِ، نجدُ نبيلاً محاصراً بانعدامِ الهويةِ، يطمحُ في أنْ يحصلَ على الهويةِ العراقيةِ من العراقِ الذي هو بدورهِ تحتَ حصارٍ ظالمٍ، كانتْ سيرتُهُ سلسلةً من المعاناةِ، أو العذاباتِ في واقعٍ مريرٍ، في ظلِ عقلياتٍ جامدةٍ ولوائحٍ صارمةٍ.
أما فيما يخصُّ الفضاءَ الحكائيّ “على أنَّهُ الحيزُ المكاني في الروايةِ أو الحكي عامةً”4 فالراوي يدفعُ بخيالِ القارئِ من أجلِ تحقيقِ كشوفاتِ الأماكنِ المعقولةِ التي تصوّرُها الروايةُ منسجمةً مع الرؤيةِ التي يحاولُ الراوي طرحُها على المتلقي، فالأماكنُ في المغربِ في معظمِها تتصفُ بالبؤسِ. من أماكنِ السكنِ الفقيرةِ، بأزقتِها وأناسِها المعدمين، وغرفةِ سكنهِ مع أمهِ، عاملةِ الخدمةِ، حين تغلقُها عليهِ عندما تذهبُ إلى عملِها وهو طفلٌ صغيرٌ، يظلُّ أسيرَ معاناتهِ وخوفهِ، ثم يدخلُ المدارسَ التي يرتادُها حين يتعرضَ فيها للعقوباتِ الجسديةِ ناهيكَ عن التأثرِ النفسي الذي يعانيه.
الروايةُ بمجملِها سيرةُ معاناة، ومثلُ هذهِ الروايةِ تشدّ القارئ، مثلُ روايةِ “الساعة الخامسة والعشرون” لكونستانتال جيورجيو ترجمة فائزكم نقش، وروايةِ “متشرداً في باريس ولندن” للكاتب جورج أوريل ترجمة سعدي يوسف، وغيرِهما.
تستمرُ المعاناةُ من أجلِ الحصولِ على الجنسيةِ العراقيةِ، ويطرقُ “نبيل” الكثيرَ من الأبوابِ، منها جمعيةُ حقوقِ الإنسانِ، والصحافةِ، إضافةً إلى مراجعتهِ السفارةِ العراقيةِ، وبعدَ مسيرةِ العذاباتِ والإصرارِ وترقبِ الأملِ، يتحققُ حلمهُ بالحصولِ على شهادةِ الميلادِ، وجوازِ السفرِ العراقي.
في العمومِ هذه الروايةُ تستحقُّ القراءةَ، ونحنُ ننتظرُ ما للحكايةِ من بقيةٍ. وهلْ هذهِ البقيةُ ستسيرُ بنسقِ الحدثِ نفسهِ، أمْ يجترحُ الراوي نسقاً آخر من تقنياتِ السردِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سيدي قُنصل بابل/ نبيل نوري لكزاز موحان/ الكتاب حياة/ ط1/ 2020
2- بنية الخطاب السردي/ نذير جعفر/ وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب/ ط1/ 2010.
3- في نظرية الرواية/ د. عبد الملك مرتاض/ عالم المعرفة – الكويت/ ط1/ 1998.
4- بنية النص السردي/ د. حميد لحمداني/ المركز الثقافي العربي/ ط1

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *