خزعل الماجدي: خطورة الشعر تأتي من سعيه لأن يكون البديل الدنيويّ للدين
حاوره: زاهر موسى (ملف/9)

إشارة :
من المهم القول إنّ المشروع الشعري للمبدع والمفكر الكبير الدكتور “خزعل الماجدي” قد استبطن مشروعه الفكري التجديدي القرائي للحضارات القديمة – العراقية خصوصاً – منذ مجموعاته الشعرية ومحاولاته التنظيرية الإبداعية الأولى في نهاية السبعينات. وعلى هذه الأمّة أن تفخر بهذا المريد الصوفي السومري الذي أصبح مُعلّماً. تتشرف أسرة موقع “الناقد العراقي” بأن تُعدّ هذا الملف عن المبدع الكبير الماجدي وتتمنى على الأحبة الكتّاب والقرّاء إثراءه بالمقالات والصور والوثائق.
أسرة موقع الناقد العراقي

في هذا الحوار مع الشاعر والباحث العراقيّ خزعل الماجدي، نمرّ على عدة محطات ابداعية وحياتية، كما نتوقف عند مفاهيم قديمة وفق منظوره، مثلما نعرّج على الراهن العراقيّ وأحزان العراق، على لسان صاحب كتاب « أحزان السنة العراقية».
الماجدي الذي يقيم اليوم في هولندا، يرى انّ» الأوان قد آن لفهم العصر الحديث بعقل عميق ومفتوح والتعامل معه بايجابية .
هذه الموضوعات وغيرها، نجدها في ثنايا أجوبته….
الشاعر الرائي
* هل تجد ان من الضروري استمرار تحولات الشاعر بشكل لا نهائي ليمرّ بتلك المراحل التي اتسعت بها آفاق خزعل الماجدي، أي أن يكون ذا نوافذ عدة تطلّ جميعها على المعرفة ؟
– لايمكنني تأكيد ذلك، فالطرق إلى الشعر متعددة ولايمكن الأخذ بطريقي نحوه أنموذجاً، لقد قادتني ظروفي الخاصة وتكويني النفسي والروحي نحو ماوصلت إليه، لكني أودّ التشديد على أن الشاعر الحقيقي هو الذي يختط له طريقة معرفية خاصة به الأهم فيها هو أن يحافظ على فطرة الشعر لا أن يسحقها تحت وطأة هيكله المعرفي، يمكن له أن يخصّبها ولكن يجب أن لايتلفها بهذه التحولات والمعارف، كثيرون من الشعراء انتهوا عندما سلكوا دروب المعرفة وضغطوا بها على مواهبهم وفطرتهم بل وتوصل بعضهم الى أن الشعر مجرد لغو أو هذيان، وفي رأيي أنهم أخطأوا الطريقين . من ناحية أخرى يجب القول بأن الشاعر لم يعد كما كان في العصور القديمة ملحقاً ببلاط الغناء أو كما في العصور الوسيطة معلّقاً في ذيل رجل الدين أو الملك أو الخليفة، كما أنه لم يعد أيضاً كما كان في بداية عصر الحداثة كشاعر مدينة أو صعلوك فيها، إنه الآن صاحب الرؤية العميقة للعالم والوجود والإنسان، الشاعر الآن هو الرائي .. هو النبي الدنيوي الذي يبشر بحرية الإنسان وخلاصه من كل سجونه الواضحة والدفينة، ولذلك يحتاج الشاعر إلى روح متوقدة أولاً تنبض فيها فطرة أصيلة ثم إلى عدة معرفية نوعية وبوصلة مراقبة شديدة الحذر لكي لايقع في التكرار والخطل والموت الابداعي.
نصّ الحداثة
* كيف يرى خزعل الماجدي قصيدة النثر هل هي حداثية أم تقع ضمن اطار ما بعد الحداثة و هل كنت مهتماً بالنص المفتوح لأنه يناسب مرحلة ما بعد الحداثة ؟
– قصيدة النثر منجز عظيم ونوعي في تاريخ الكتابة كلها وليس في تاريخ الشعر فقط وأرى أنه سيعمل على تحرير المعرفة البشرية كلها من قيودها، نعم .. للأسف نحن نفهم قصيدة النثر على أنها نوع بسيط من أنواع الشعر سيمر عابراً، والحقيقة أن قصيدة النثر ستصيب حقول الكتابة كلها بالعدوى للتخلص من أثقالها الوزنية والبلاغية ومن حواشيها وملحقاتها، بل هي ستعمل على تطهير العقل البشري من مبالغاته وتهويلاته وستجدد متون الحقول الكتابية كلها، لكن ذلك سيحتاج الى وقت طويل . لقد انبنى العقل البشري على بنية بلاغية وايقاعية صارمة ومحددة(منذ العصور القديمة ) وارتبطت هذه البنية بالدين وهو ماجعل منه يدور لقرون طويلة في حلقات مفرغة ومكررة وكان نموه بطيئاً، ظهور قصيدة النثر يعني ضمن مايعنيه التخلص من كل هذه القيود والتحرر من الخيال المائع والتهويل بل والتخلص من الأدب أيضاً فأنا لا أعد الشعر جزءاً من الأدب بل أراه النص الحقيقي للروح، أتمنى أن يفهم كلامي هذا بصورة عميقة، قصيدة النثر من وجهة نظري هي بداية الحداثة وشروعها الأول.. لقد غيرت الشعر أولاً، ثم تغير المسرح باتخاذه النثر أساساً بعد أن كان إيقاعياً ( تغير مع أبسن العظيم الذي أدرك ببصيرته المأزق التاريخي للمسرح ) ثم تغيرت الرواية بعد أن صارت نثرية الجوهر، وهاهي حقول الكتابة تتغير تدريجياً.
أما النص المفتوح فهو خطوة أخرى جديدة نتجت عن ذلك الحراك وهو نمط مابعد حداثي بامتياز، ربما سعيت من ناحيتي بتطوير هذا الجانب مبكراً لكني لاأعده نهاية المطاف، فسيكون المستقبل كفيلاً بظهور أنواع شعرية أخرى كانت قصيدة النثر، يوماً ما، سبباً في بدايتها .
فهرسة الحريّة
* هل يجب رصد الغيب و تلمسه؟ هناك من يرى ان خزعل الماجدي يحاول فهرسة الغيب منذ مجاميعه الأولى و لكنه يقف اليوم خائر القوى أمام الممثل الأكثر أهمية للغيب و هو الموت ما تقول في ذلك؟
-الغيب عالم افتراضي مثله مثل الأدب والفن ولانعرف مصداقيته، سيناريوهاته متعددة تشبه الأفلام أو الروايات أو المسرحيات وهي، كلّها، من صنع الانسان وهو يعيش تحت رعب الفناء وتحت وعيد الأنبياء ورجال الدين، نحن في صيرورة أبدية، وعلينا تلمس مصيرنا مما نحن فيه من واقع شرط امتلاكنا لعقل مخصّب بما أنجزته البشرية من معارف وعلوم، الشاعر ينبّه دائما ً الى سجون الإنسان ومايقيد حريته ويعطل قواه، مهمته الكبرى هي الحرية بكل أشكالها ومعانيها.
لم أفهرس الغيب بل فهرست الحرية والروح والجمال والحاجة لفضاء روحي غير دينيّ في نصوص لم تحفل بنظام الفهرسة التقليدية، بل قادتني إلى فهم جديد للعالم والوجود.
الموت ليس غيباً بل هو الحقيقة الوحيدة الصارمة والعنيدة، الموت، للأسف، أقوى من الحياة على مستوى الفرد بشكل خاص. ولذلك نقف جميعاً مذهولين وخائرين أمامه، الشعر لن يحلّ مشكلة الموت بل العلم، فالعلم هو الذي سيجعلنا نتفوق على الموت، انظر الى مايفعله علم الجينات والهندسة الوراثية واستنساخ البشر, أظننا في بداية الطريق لاختراق الموت والانتصار عليه من خلال العلم، لكن نوع الإنسان وطريقة تفكيره هو المعضلة الكبرى لأن العلم لايمكن أن يذهب بعيداً مع إنسان مكبل وجاهل ومتمسك بالماضي.
أما علاقة الشعر بالموت فهي إيجابية الى حدّ كبير لأن الشعر، في مجمله، يحاول الانفلات من أسر الموت وجعل الانسان يشعر بالخلود لكن ذلك يكون باللغة والرغبة والتمنيات وهنا يأتي دور العلم الذي يحاول أن يحقق ذلك فعلياً.
سبب تخلف الشرق
*برأيك هل زامنت الوثنية أو تعدد الآلهة طروحات العقل الاولى المهمة في حين ان الديانات التوحيدية جاءت بدكتاتورية الاله الواحد الذي سبب توحيد العقل أيضاً ؟
– أشكرك جداً على هذا السؤال، فهو سؤال طالما فكرت به وقد نضجت أجابته عندي أخيراً ويمكنني أن أخبرك بها الآن، أرى ان الأديان التوحيدية (الوسيطة) هي امتداد للأديان التعددية (القديمة) ( لاأحب أن أسميها الوثنية لأن هذا المصطلح خاطئ وقد أشاعته الأديان التوحيدية الشمولية عنها)، ولكنه امتدادٌ نوعيّ ولنتذكر أن من نتائج تلك الأديان القديمة ظهور الفلسفة والديمقراطية، ولكن أين؟ لقد ظهرتا في أثينا وليس في مكان آخر لأن الإنسان هناك قرر التأكيد على ماهو دنيوي إزاء ماهو ديني، واستمر ذلك الكفاح البطولي للإنسان عند الرومان ثم انقطع ذلك الجهد مع ظهور الأديان الشمولية (البوذية والمسيحية والإسلام) وهيمنت دكتاتورية اللاهوت والفقه ومنعت العقل من الإبداع والتفكير الحرّ ومنعت التعدد السياسي وظهرت الإمبراطوريات الدينية كالبيزنطية والإسلامية وكان الله هو مركز الفكر البشري، لكن سقوط الإمبراطوريتين الدينيتين في أوروبا في القرن الخامس عشر الميلادي وهما الإمبراطورية البيزنطية المسيحية في شرق أوروبا 1453والأندلس الإسلامية في غرب أوروبا 1492 أعطى لأوروبا الفرصة لكي تعيد ترتيب حالها من جديد وفق حياة مدنية لادينية، وكان ذلك كفاحاً بطولياً استمر إلى الآن حتى حصل الغرب كله على حريته وأنشأ ديمقراطياته المليئة بالتفاصيل الدقيقة، أما نحن في الشرق فمازلنا في العصر الوسيط وهو عصر ديني وإن بدا في بعض دوله مدنياً، الغرب أنجز المهمة بنجاح وانتقل من التاريخ الحديث إلى التاريخ المعاصر. في حين الشرق مازال إما في العصور القديمة أو الوسيطة وهذا هو سبب تخلفنا. هذا يعني أنني أرى أن التاريخ المعاصر فقط في حلقاته الأخيرة الآن يحضر لتحرير الشعوب من سجونها الدينية والدكتاتورية السياسية. للتاريخ القديم فضل على البشرية في أنه أنشأ النواميس الأولى في حضارة البشرية وكان الدين فيه مازال قومياً أما العصور الوسطى فهي فترة مظلمة وانتكاسة كبيرة للإنسان لأنها كانت مهد الشمولية والدكتاتورية والأفكار الغيبية .
واليوم نحن نكتشف سجوناً جديدة تقيد حرية الإنسان منها سجون الأيديولوجيا والعادات والتقاليد والأديان والمكان والقومية واللغة وووووغيرها كثير، وسيكون الوعي العميق لحرية الإنسان كفيلاً بفك كل هذه السجون.
متحف السبعينيّين
* لو ابتعدنا قليلا لندخل الى ذاكرة الماجدي، ما الذي يجعل هاشم شفيق و شاكر لعيبي يبتعدان عن السرب السبعيني و هذا ما صرّحا به بعد التغيير اذ قالا انهما تعرضا للاقصاء و التهميش و هما في صلب جيل السبعينيات مع غيرهما من أبناء هذا الجيل؟
-أقصتهما، مع كثير من خيرة المبدعين والمثقفين العراقيين، السلطة الثقافية للدكتاتور، أما نحن من مجايليهما فلم نقصهما فقد كنّا نذكرهما في كل مناسبة تتعلق بجيلنا، ربما لم نركز عليهما في حواراتنا المحتدمة لأنهما أصبحا خارج العراق ولم يعودا معنا في صناعة تاريخ الجيل في الداخل، لكن شاكر لعيبي وهاشم شفيق من أكثر شعراء السبعينات حضوراً وتميزاً ومازال تواصلهما دليلاً ساطعا على ذلك.
اليوم عندما نريد كتابة تاريخ جيل السبعينات سيأخذان كامل حضورهما وتأثيرهما في الجيل، وبالمناسبة فقد كنت أول من كتب تاريخ جيل السبعينات ونشرت بعضه في الصحافة وقرأته كاملاً في محاضرتين متلاحقتين بعنوان (متحف السبعينيين ) في منتصف الثمانينات في اتحاد الأدباء وقد أشرت لدورهما الكبير والمؤثر مع غيرهما من شعراء السبعينات خارج العراق.
* في ما يخص الجانب الفكري في الشعر هل تعدّ كتاب العقل الشعري نهاية لبيانات خزعل الماجدي ؟
-العقل الشعري ليس نهاية البيانات الشعرية لي بل هو هيكل نظريتي في الشعر والبيانات جزء من هذه النظرية وليس كلّها، فهناك البحوث والدراسات ومقدمات المجلدات الشعرية والمقالات، وقد وضعت هذه جميعاً في هيكل نظري متماسك وضعت من خلاله يدي على واحدة من أهم الكشوفات الشعرية النظرية، كما أعتقد، وهو وجود العقل الشعري كبنية متأصلة من بنى العقل البشري، فقد رأيت أن العقل البشري يتكون من أربع بنى أساسية تميزت أشكالها وتوضحت عبر تطور تاريخي طويل بدأ من عصور ماقبل التاريخ حتى يومنا هذا وهذه البنى عبارة عن عقول هي: العقل الشعري، العقل الديني، العقل الفلسفي، العقل العلمي.
والكتاب كلّه محاولة لفهم وتحليل هذا العقل الشعري وتفكيك مكوناته، وأعتقد أن هذا الإكتشاف سيعمل مستقبلاً على تفسير الكثير من شؤون الشعر والأدب والفن.
*هل حصل هذا، خصوصاً، بعد تغير أسلوبك في قصيدتك الملحمية الأخيرة التي عدها البعض تنتج من عقل ٍشعريّ باطنيّ؟
– ربما كان عمل (خزائيل ) ناتجاً عن عقل شعريّ باطنيّ، أما (أحزان السنة العراقية ) فهي نتاج العقل الشعري كلّه؛ لأنه عمل يذهب في كل الاتجاهات فهو يتوغل في اللحظة الراهنة الحارّة وفي أغوار التاريخ وفي السيرة الشخصية لي ولولدي، لكني أعد الواقع التراجيدي لعراق اليوم أهم مصادر هذا العمل مع روح جريحةٍ وملتاعة كروحي وهي تتقلب فيه.
تلمس الظلام
*هل كنت بحاجة إلى الاغتراب خصوصاً و انك خرجت طواعية أم انك استشعرت التغيير العاصف في العراق؟
– لقد تغربت مرتين الأولى في زمن النظام السابق عندما غادرت بعد منتصف التسعينات إلى الأردن وليبيا طلباً لعيش وحرية أفضل وتوقعاً لنهاية النظام السابق، والاغتراب الثاني حصل في منتصف عام 2006 والى الآن بعد أن خطف ولدي مروان وشعرت بالخطر على نفسي وأسرتي وتوقعاًّ لخراب طويل سيعمّ العراق ولنزعة سياسية دينية وهدّامة ستنشر الفوضى فيه وتستولي على ثروته وحكمه، وهكذا تجد أني لم أترك العراق في الحالين طواعية بل كنت أرى ظلاماّ قادماً أكبر وهوة سحيقة سنندفع فيها، وبالمناسبة فإننا سنشهد في السنوات المقبلة ماهو أسوأ.
تقديس المرأة
* هناك مساحة كبيرة لثنائية المرأة و الجسد في شعرية خزعل الماجدي كيف يمكن تحويل الاتكاء على غيبيات المقدس و فجوات التاريخ الى حسّية أبسط ما يقال عنها انها وثنية؟
-المرأة والجسد في شعري ليسا من الغيبيات ولا من فجوات التاريخ بل هي تجاربي الحقيقية مع المرأة والجسد تلك التي عشتها لحماً ودماً وروحاً، ولم أحولها الى حسيّة وثنية، وربما العكس من ذلك فقد رفعت حسيّة المرأة والجسد إلى رمزية المقدّس وجعلتها تلامس فضاء التكوين الأسطوري.
وكما قلت لك فإني أنظر الى تاريخ الدين كلّ كوحدة واحدة لظهور المقدّس ولا أنظر بدونية الى مايسمى ب (الوثنية) بل أعده تأسيساّ للعقل الديني الذي أحترمه منزوعاّ عن موجهاته الأيديولوجية والسياسية، فالأديان، شئنا أم أبينا، هي من ثروات العقل والروح البشري ولايمكن حذفها أو نبذها بل يمكن تحليلها ونقدها، وقد فعلت هذا في كتبي البحثية, أما في الشعر فقد خصّبت شعري بنفحات المقدّس وكان نصيب المرأة والجسد وافراً في هذا التخصيب.
انطلاقة صحيحة مع د.القصب
* الاثر الذي تركته في المسرح كبير و مدوٍّ، و لكن ألا تجد أن التشكيل و المسرح في العراق سبقا الشعر حداثياً بشكل كبير و انك كنت في غاية الانتباه إلى تطورهما الذي واكبته بالأخص في تجربة د. صلاح القصب، حيث ارتبطت مسرحية (عزلة في الكريستال ) بمشغليكما كعلامة فارقة ؟ و هل كنت أول من نادى بالدراما الكونية عربياً؟
الشعر والتشكيل، في العراق، مهدا للحداثة كلها، المسرح تلقّّف الحداثة متأخراً بعض الشيء، لكني أتفق معك أن الشعر والتشكيل والمسرح في العراق علامات فارقة متقدمة على كل العالم العربي، لسنا كذلك في القصة والرواية والنقد والسينما مثلاً، اليوم أعد تجربتي في المسرح توأماً لتجربتي في الشعر وأرى أنها أعطتني الكثير وأتمنى أن أكون قد أعطيت ما أستطيع للمسرح العراقي والعربي. ولاشك أن إنطلاقتي الصحيحة مع صلاح القصب في بداية تجربتي المسرحية كان لها الأثر في توجيه مساري في المسرح بالرغم من أني لم أتوقف فقط عند مسرح الصورة مع صلاح القصب فقد نوّعت توجهاتي لاحقاً في شتى الإتجاهات.
كتابة ضدّ الصمت
* كانت لدى أسعد البصري أسئلة لك نشرها في موقع الحوار المتمدن تتمحور حول دور المثقف في أيام الخراب هل أجبت عنها ؟
– قرأت ماكتبه الصديق والشاعر أسعد البصري وماطالبني به، لكني لا أحب الردود بل أجدني اليوم أكثر ابتعاداً عن الصحافة الثقافية اليومية ونادراً ما أتابعها لأنها، بصراحة، تُلهيني عن الكتابة فالعمر يمضي ياصديقي ولاتكفينا السنوات المتبقية لنقول ماتبقى في صدورنا وعقولنا.
سألني أسعدالبصري لماذا أنا صامت عما يجري في العراق؟ وعن دور المثقف في مثل هذا الحال، وأقول له أنني لم أكن صامتاً أبداً فقد كنت مع شعبي وبلدي أيام الدكتاتورية ولم أبع قلمي للسلطة مع كل المغريات التي كانت تعرض عليّ، لم أكتب شيئاً لصالح النظام مطلقاً وكتبت عن محنة بلدي آنذاك ثلاث مجموعات شعرية في هذا المجال، هي (موسيقا لهدم البحر، حيّة ودرج، فلم طويل جداً) وكلّها منشورة الآن في أعمالي الشعرية.
أما في الوضع الحالي بعد الإحتلال وحكم العصابات السياسية الجديدة وحلول الظلامية فقد كتبت أيضا (أحزان السنة العراقية ) و (ربما ..من يدري) الأولى نشرت والثانية قيد النشر، وهكذا تجد بأني لم أكن صامتاً بل كتبت كثيراً، وربما أكثر من جميع الشعراء حول محنة شعبي وبلدي.
أما موقفي كمثقف فهو واضح في ما أنشره من مقالات ودراسات وحوارات وهو يدين الدكتاتورية والدين السياسي بجميع أشكاله ولصوص الحكم واستغلال الديمقراطية لجهل الناس وتكريسه من أجل تمرير اللعبة بل والمؤامرة الكبيرة وتدمير العراق.
لكني لست كاتباً سياسياً أبدا ولست مواظباً على التصريح بآرائي السياسية، كما أني منشغل في تقديم الكثير من المشاريع الحضارية التي تصب في حضارة وتاريخ العراق كتابة ومحاضرات علنية باتت معروفة.
حضارات إيرانية نحن مصدرها
* حين تستمع الى سمفونية «نَيْ نَوا» الا يتبادر الى ذهنك أن الحضارة الفارسية حملت أنساق الحضارات العراقية، مع التأكيد على انك أشرت أكثر من مرة الى ان العراق كان مصدر حضارات الجزيرة العربية؟
– نعم كلامك صحيح جداً، فالحضارات الإيرانية كلها على الإطلاق متأثرة بالحضارات العراقية، بل هي تنويعٌ عليها في كثير من الأحيان، خذ مثلا الحضارة العيلامية هي نسخة بل امتداد للحضارة السومرية ثم للبابلية، والميدية امتداد للآشورية، والفارسية والفرثية امتداد للبابلية والآرامية، وحضارة إيران الإسلامية مصدرها بغداد وتشيعها عراقي الأصل وغير ذلك كثير.
العراق هو مصدر كل الحضارات الايرانية ويمكننا ان نعتبر إيران توأم العراق حضارياً وثقافياً لكنها، مع الأسف، سياسياً عدوة العراق ومصدر خرابه، كان العراق يهب إيران عناصر الحضارة والثقافة عبر التاريخ وكانت إيران ترد عليه بالموت والإحتلال. لكن هذا لايعني أننا ننكر دورها الحضاري الكبير ومبدعيها العظام الذين ساهموا في رفد حضارتنا أيضاً حتى هذا اليوم .
العراق مصدر الشعوب والهجرات التي عرفت ب (السامية ) واتجهت الى كل الجهات ومنها جزيرة العرب وهو أساس حضاراتها، وهذا موضوع آخر يطول شرحه.
أسطورة شخصية
* يرى البعض ان الشاعر الحديث يحاول مزاحمة النص المقدس بشعره. هل أردت مزاحمة نصوص الميثولوجيا بنصوصك أي أن تكتب الكلمة كما لو انها تكتب للمرة الأولى؟
-الشعر، كما أراه، مقابل دنيوي للدين ..جوهره الجمال، فيما جوهر الدين المقدس، والشعر يقابل تحديداً المكوّن الأسطوري في الدين، ولذلك أقول أن الشعر هو أسطورة شخصية يقابلها في الدين الاسطورة الجماعية، يترتب على هذا التشخيص أن يكون الشعر مزاحماً أو موازياً للأسطورة، فإذا فتح قناة للتحاور مع الأساطير الكبرى للجماعات البشرية، وخصوصاً الشعب الذي ينتمي إليه الشاعر، فهذا أمر طبيعيّ لكن الغاية دائماً تكون في خلق نص جديد مغاير؛ لأن خطورة الأسطورة الكبرى الجماعية أنها يمكن أن تفترس أو تبتلع النصوص التي تتزاحم حولها أو فيها من دون أن تكون للنصوص الشعرية قوة خاصة على البقاء والاستمرار والتحدي.
مررت بهذا كله وصنعت أسطورتي الشخصية كما أعتقد، ونصوصي الشعرية كلّها تنبض بشحنات أسطورية جماعية (رافدينية وإسلامية ) أسهمت في تكوين أسطورتي الشخصية.
الشعر يسعى لأن يكون البديل الدنيوي للدين وهذه هي خطورته الكبرى.
نهاية التجييل
* حدث كبير مثل التغيير عام 2003 في العراق هل تجد انه لن يمر بصورة اعتيادية على الشعرية العراقية ؟
– هذا مؤكد، فهو من ناحية أنهى دورة الأجيال الشعرية العراقية الأولى التي استمرت لنصف قرن وضمت خمسة أجيال شعرية حديثة، ثم أنه كان نهاية لمركزية الشاعر النجم والشاعر الفحل الموازي للزعيم أو البطل أو القائد السياسي الدكتاتور، وهو بداية لشعرية جديدة ستظهر ببطء في العراق بسبب المرحلة الإنتقالية بعد 3003 المشوبة بظهور أسماء تقليدية ضعيفة ومعطلات الهيمنة الدينية الظلامية على الأدب عموماً، ولكننا في نهاية الأمر سنشهد ظهور دورة أجيال جديدة وسيكون الشعر أقل جعجعة وأكثر عمقاً وإنسانية وأكثر إنشغالاً بتتبع نقلات الروح ومدارج الجمال، سيختفي نهائياً الشعر المؤدلج والإعلاميّ وسيظهر شعر نشط وجديد، وأعتقد أن أفضل مايمكن أن يفعله الشاعر الآن،في هذه المرحلة الانتقالية،هو أن يسجل جراح بلده وشعبه الآن بطريقة شعرية عالية وأن يهيئ للمرحلة المقبلة التي ذكرت مواصفاتها .
غاضب على العراق
* هل أنت في مخاصمة مع العراق؟ و هل تعتقد ان جزءاً من ثقافة و موروث العراق مسؤول عن اللحظة الرهيبة التي مررت بها بفقدان ولدك؟
-ماحصل معي لم يكن سهلاً، فقد عدت للعراق من غربتي الأولى فرحاً بعد التغيير وسقوط الدكتاتورية، لكن العراق جرحني جرحاً كبيراً باختطاف ولدي، وهو ماجعلني أفكر في المنفى من جديد..وقد كان لتاريخ العنف والموت والدم الذي كنا نتفنن في إخفائه الدور الكبير ولم نعرضه تحت الشمس ونناقش بصراحة أسبابه ودوافعه، لقد قضيت عمري كله وأنا أحاول أن أفحص تاريخ وتراث العراق الإيجابي والسلبي بحثاً عن صيغة خلاص حقيقية ونوع من التطهير الذاتي الذي يواجه حقائق الأمس بعقل مفتوح ومتسامح وبوعي ثاقب أيضاً وليس بطمطمة الخطايا وإبراز التحايا كأننا في حفلة إعلامية مع التاريخ.
نعم أنا غاضب على العراق الآن وغاضب على مايجري فيه، غاضب على السياسيين المجرمين الذين سرقوه ويحاولون اليوم تقسيمه وإزالته من الوجود، وأنت تعرف أن قلبي يحتضن العراق بكل حضاراته وثقافاته وتنوعه، لكن السياسيين العراقيين القدماء والجدد لم يبذلوا جهدا في تكوين وحدة إثنوغرافية حقيقية في العراق ولم يبنوا دولة عراقية حقيقية تتمتع بشروط الدولة الحديثة القوية مجتمعياً واقتصادياً، لقد انشغلوا بالمناصب والإنقلابات والمؤامرات والحروب ودمروا اقتصاد العراق وبددوا ثروته. هذا من ناحية أما الأمر الآخر فألوم به قطاعات من الشعب العراقي نفسه الذي كان ومازال يصفق ويطبل لكل قادته والذي يستشري فيه الجهل وتفتك به عادات وتقاليد بالية والذي لم يطور طرق عيشه الحديث و أساليب التعايش مع مكوناته ولايعرف قيم التسامح والعفو، وهو شعب عاطفي متطرف لم يصل بعد إلى المستوى العقلاني الذي يليق به كشعب وريث لحضارات عظيمة، الحضارة الحديثة لاتبنيها العواطف بل البرامج والمشاريع العقلانية الكبرى والعلم، وقد آن الأوان لفهم العصر الحديث بعقل عميق ومفتوح والتعامل معه بايجابية .

*عن جريدة الزمان

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *