ميثم سلمان: المعمار السردي في رواية (حجاب العروس)

الرواية لا تعتمد على قوة الحكاية فقط، بل تعتمد أيضا على كيفية سرد تلك الحكاية. ف “الكيفية” لاتقل أهمية عن الحكاية نفسها، ويتضافر هذان العنصران مع عناصر أخرى لإنتاج الرواية. لذا يكون من المبرر السعي لابتكار هياكلٍ جديدة لسفح مجرى الحكاية على أديم الرواية – شريطة ألا يغدو هذا هوسا يبتلع هم الحكاية وعناصرها الأخرى.
في آخر رواية للمرحوم محمد الحمراني “حجاب العروس” حقق فيها موازنة متقنة بين قوة الحكاية وابتكار معمار خاص لهيكل النص. حيث سرت الحكاية في أربعة خطوط سردية موزعة على ستة وعشرين فصلا: –

الخط الأول {البطل/ ضمير الأنا / مطر (نور). الزمان: الماضي البعيد/ السنين الأخيرة للاحتلال العثماني لغاية إنهاءه بغزو بريطاني. المكان: مدينة العمارة. الفصول: 1 – 5، 11 – 14، 22 – 25}.

الخط الثاني {الشخصية الرئيسية الثانية/ ضمير الهو/ رمضان. الزمان: نفسه. المكان: مدينة العمارة، مدينة النجف. الفصول: 6 – 10، 15 – 16، 18 – 20}.

الخط الثالث {المؤلف/ معلومات تقريرية عامة عن مدينة العمارة. الفصل: 17}.

الخط الرابع {الراوي، المؤلف/ ضمير الأنا. الزمان: الماضي القريب/ السنين الأخيرة للنظام القمعي البعثي مرورا بالغزو الأمريكي ولغاية عدة سنين تبعته. الفصل: 21}.

وجاء الفصل (26) كخاتمة تتحقق فيه ذروة الصراع حيث يلتقي لأول مرة البطل مع الشخصية الرئيسية الثانية ليكون فصلا مشتركا بين الأخوين الخصمين، محوري الصراع: مطر- رمضان.

الخط الأول والثاني يسريان في تواز ولا يلتقيان إلا في نهاية الرواية. جريان يعرقله الفصل (17) الذي يبدو منعزلا تماما عن مجرى الرواية كتقرير صحفي قائما بذاته. يظهر الكاتب في الفصل (21) على مسرح الرواية وبعد أكثر من ثلاث أرباعها ليقول لنا إن الشخصيات التي عشتم مع أزماتها وتعاطفتم مع بعضها وكرهتم بعضاً آخر ما هي إلا شخصيات ورقية من بنات أفكاري.
وكان الكاتب قد جرجر القارئ خلال ذاك القسم الكبير من الرواية (عشرون فصلا) إلى عوالم الأهوار ولغة وثقافة الطائفة المندائية. فيضطر القارئ بعدها إلى إعادة بناء الحكاية في ذهنه وفقا لخريطة جديدة تأخذ بعين الاعتبار المكونات السردية (الهندسية) الآتية لاحقا. وبفضل هذا الفصل (٢١) يغدو من السهولة ترحيل أحداث الماضي إلى الحاضر، وكأن الراوي/المؤلف هو رمز للعراقي المضطهد على مر العصور. حيث بروز المشتركات بقوة بين شخصية مطر والراوي، وما يعانيانه من ويلات الاحتلال: “رجعت لأكتب حكاية عنها، حكاية عن الاحتلال الأول والذي لا يختلف كثيرا عن الاحتلال الحالي وكأن الأزمنة تتناسخ، سرقة للنفط، مشاريع مزيفة، انتشار الأمراض، قتل للزراعة، تشجيع المليشيات على حروب في شوارع بغداد والقتل على الهوية.” الرواية ص (50). كما أنه يطرح رؤيته النقدية عن القصة خلال حوار بين المؤلف وحبيبته، بالإمكان سحبها على الرواية ذاتها: “قصصك كأنها كارتون يتحرك، لم تعد اللغة المطلسمة هي السائدة في ما تكتب ولا يرغب أبطالك بأن يصبحوا رموزا في السياسة أو الثقافة أنهم أبناء الشوارع الخلفية والحياة الفقيرة، يبحثون عن هوياتهم، وعن الجمال.” الرواية ص (46).
البناء السردي المختلف في هذا النص يكمن في توزيع الفصول، حيث بالإمكان ترتيبها بشكل آخر دون أن تختل الحكاية. ففصول الخط الأول، مثلا، يمكن وضعها جميعها في بداية الرواية وبعدها فصل المؤلف ويليه فصل المعلومات ومن ثم فصول الخط الثاني فالخاتمة. أو قد يكون ترتيب الفصول على النحو التالي: فصل من الخط الثاني يليه فصل من الخط الأول وهكذا، ثم الخط الثالث، فالخط الرابع، وبعده الخاتمة إلخ.
رواية “حجاب العروس” هي الرابعة للكاتب الشاب الذي وافاه الأجل في عز عطائه الإبداعي عن عمر ناهز الخامسة والثلاثين. وهي رواية قصيرة عن حياة رجل من المعدان في أهوار مدينة العمارة منذ لحظة تحوله إلى صابئي على يد شيخ الصابئة الذي رباه بعد إنقاذ حياته. تعالج هاجس التعايش السلمي داخل الوطن، والصراعات المذهبية والطبقية والسياسية التي تتناوب على نهش جسد البلاد. نتعلم منها الكثير عن عادات أبناء الأهوار وطقوس الطائفة الصابئية.
العيش مع الآخر المختلف بلا نسف ولا مصادرة في الوطن الواحد، وتخطي الفروقات المذهبية والقومية للوصول إلى البعد الإنساني الشامل هي الرسالة الأهم التي يسعى النص لبثها. ويعتقد البطل (مطر) أن أهم عاملين فاعلين في زعزعة هذه اللحمة هما التطرف الديني ومضاعفات الاحتلال: “المستعمر دائما يرمي بنا إلى الموت.” الرواية ص (44). ويقول في نفس الصفحة عن حي الدورة البغدادي – حيث عاش قبل سقوط الدكتاتورية: “يوجد فيه مجتمع متشابك، مسلمون من الشيعة والسنة وكلدانيون وآشوريون وأرمن وأكراد وصباح كل يوم يستمع أهالي الحي إلى أجراس الكنائس وأصوات مؤذني الحسينيات والمساجد، ويذهبون إلى الأسواق من دون أن يختلف أحدهم مع الآخر.”. وبعد ذهابه إلى مدينة العمارة يصرح: “شاهدت منارة جامع السامرائي العالية وصليب كنيسة أم الأحزان ومدرسة اليهود.” الرواية ص (59). وفي ذات سياق التعايش السلمي نقرأ في فصل المعلومات العامة عن تأسيس مدينة العمارة: “أفتتح له دكانا صغيرا قرب المعسكر، وأصبح دكان اعماره الأكثر شهرة في هذا المكان، وبنيت مساجد سنية وشيعية وكنيسة ومعبد لليهود ومندى للصابئة. العثمانيون اندهشوا لجمال هذا المكان فطردوا أصحاب بساتين النخيل القدامى، وأعطوها إلى أصدقاء لهم.” الرواية ص (36).

إضافة لما تقدم نجد أن موضوعة الحب هي من الثيمات البارزة في هذه الرواية. الحب الذي يعبر الحدود الدينية والقومية والوطنية، مؤكدا ولع النص بالتعايش الإنساني وتجاوز الفروقات. ف (رمضان) العراقي الشيعي عشق أولا بنت شيخه اللبناني وبعدها بنت الوالي التركي، وأخوه (مطر) عشق بنت الكردي، والراوي عشق فتاة مسيحية. رغم أن الراوي/المؤلف لا يقر بذلك: “كنت أريد أن أكتب رواية حب بدلا عن هذه الرواية.” الرواية ص (49).

ملاحظة:
أتبعت في ترقيم الصفحات المتضمنة للاقتباسات على النسخة الالكترونية.

ميثم سلمان

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *