طلال حسن: حكايات للفتيان (حكايات عربية)
(5) سعاد

المبدع الكبير الأستاذ طلال حسن

إشارة:
بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال حسن” ، وبعد أكثر من ثلاثين كتابا أصدرها بجهده الخلاق الفذّ ، ها هو يتحفنا بمخطوطة كتاب جديد هو “حكايات للفتيان – حكايات عربية” وهو في مجال أدب الطفل الذي يتقلص كتّأبه –للأسف- يوما بعد آخر ليبقى طلال حسن حامل رايته ومضيء شعلته في هذه المرحلة المدلهمة التي يُخرّب فيها العقل العراقي. باعتزاز كبير تنشر أسرة موقع الناقد العراقي فصول هذه المخطوطة في حلقات مع التمنيات لمبدعنا الكبير بالصحة الدائمة والإبداع المتجدد.
أُسرة موقع الناقد العراقي

سعاد

” 1 “
ــــــــــــــــ
عرفها منذ ولادتها ، فهي ليست غريبة عنه ، إنها ابنة عمته سلمى ، وهي مثل أمها جميلة ، هادئة ، طيبة ، قلما تتكلم ، لكنها كانت تبتسم دوماَ .
وعلى العكس من أمها سلمى ، كان أبوها عبد الله ، عبوساً ، متشدداً ، لم يرتح لولادتها ، كرهها ، وكره حتى اسمها ، سعاد ، الذي اختارته لها أمها ، فهو لم يحب ، ولن يحب ، غير المال .
لكن ، لا عجب ، كان كلما كبرت سعاد ، وازداد جمالها، ويا له من جمال نادر ، تغيرت عواطفه تجاهها، ونسي كرهه لها ، وصار يحبها ، ولماذا لا ، والفتاة تتزوج ، وهو لن يزوجها لفقير ، حتى لو كان من أحبّ الناس وأتقاهم ، وإنما سيزوجها لأمير ، أو رجل غنيّ ، أو .. وفي هذه الحالة سيغتني هو الآخر ، ويودع ضيق العيش إلى الأبد .
ومع الأيام ، وككل بنات الحكايات ، راحت سعاد تنمو ، وتكبر ، وتتفتح أنوثتها ، وقد تمناها ، تمنى هذه الزهرة منذ البداية ، ثم إنها ابنة عمته ، عمته سلوى ، وله حق فيها ، لكن أباها هو عبد الله ، وما أدراك ما عبد الله ، الرجل عنده هو .. الذهب .
واندفع إبراهيم إلى العمل ، إنه يجد .. ومن جدّ وجد ، وجدّ .. جدّ في التجارة ، وصار تاجراً واعداً يُشار له بالبنان ، لكنه يعرف أنه مهما جدّ ، فلن يجدَ ” سعاد ” إذا لم يُرضِ أباها عبد الله .
وذات يوم ، زار إبراهيم عمته سلمى ، وقد تفتحت سعاد، وأشرفت على الخامسة عشرة من عمرها ، فرحبت به عمته ، إنها عمته ، ورحبت به سعاد أيضاً ، فهي ابنة عمته ، ثمّ إن عبد الله ، لم يكن ساعتها في البيت ، وإنما كان في السوق .
وخرجت عمته سلمى ، ذهبت لتعد طعام الغداء في المطبخ ، وظلّ إبراهيم وحده مع سعاد ، وابتسامتها الطيبة قنديل على شفتيها الورديتين ، ونهض إبراهيم ، وجلس إلى جانبها ، وهمس لها : سعاد ..
ونظرت إليه سعاد ، وقنديل ابتسامتها ما يزال يضيء فوق شفتيها الورديتين ، وقالت : نعم .
تابع إبراهيم قائلاً بصوت خافت : أريدكِ يا سعاد .
لم ينطفىء القنديل فوق شفتيها ، ولم تتغير إضاءته ، وقالت بصوتها الهادىء : إنني مِلكُ أبي .
وقال لها إبراهيم : سأفاتح أباك عبد الله ، لكني أريد رأيكِ أنتِ أولاً ، يا سعاد .
فقالت سعاد ، والقنديل ما زال يضيء فوق شفتيها الورديتين : إبراهيم ، أنت ابن عمي ، لكن ما أريده ، هو ما يريده لي أبي .
فرح إبراهيم ، إنه يعرف سعاد ، وما قالته كان في حدود ما توقعه منها ، المهم إنها لا ترفضه ، وإنما تريده بشرط ، وهو يعرف أيضاً شرط أبيها ..عبد الله ، وماذا يريد هذا العبد الله غير .. الذهب .
ودعاه بعد أيام إلى غداء دسم ، كباب ، فهو يعرفه جيداً، إنه يحب الكباب ، وأخذه إلى أشهر محل لتقديم الكباب في المدينة ، وطلب أن تعد لهما مائدة عامرة .
وفي أوج معركة عبد الله الممتعة مع الكباب ، أراد إبراهيم أن يفاتحه في الأمر ، فقال : عمي .
وهمهم عبد الله ، وعيناه تجوسان بين أطباق الكباب والخضر والفواكه ، فتابع إبراهيم قائلاً : أنت تعرف تجارتي ، وهي بفضل الله تنمو سريعاً جداً .
وهمهم عبد الله ثانية ، وهو يدس لقمة كبيرة في فمه ، هم م م ، أنت شاب ناجح ، ليوفقك الله .
ومال إبراهيم عليه ، وقال : سأعطيك ألف دينار .
وتوقف فكا عبد الله عن طحن الكباب ، وقد برقت عيناه، وقال : ألف دينار !
وهزّ إبراهيم رأسه ، ثمّ قال : أريد سعاد .
واستأنف عبد الله التهام الطعام ، وما إن أتى على الكباب، حتى مسح يديه وشفته ، وأطرق رأسه ، فقال إبراهيم : لم تردّ عليّ ، يا عمي .
ورفع عبد الله رأسه ، وحدق في إبراهيم ، ثم قال : أنت تعرف ، يا إبراهيم ، أن سعاد هي كلّ ما أملك في هذه الدنيا ، وأريد أن تسعدها ، وتوفر لها كلّ ما تريده وتتمناه ، وإذا قصّرت في حقها ، في أي وقت ، سحبتها منك ، وأعدتها إلى حيث عاشت معززة مكرمة .
ونهض إبراهيم ، وانكبّ على عبد الله ، وقبل رأسه ، وقال ممتناً : أشكرك ، يا عمي ، سأضع سعاد في عينيّ، غداً أقدم لك .. الألف دينار .

” 2 “
ـــــــــــــــــ
تزوج إبراهيم من سعاد ، بعد أن دفع لأبيها عبد الله ألف دينار ذهباً ، آه سعاد .. سعاد الذهب ، التي لا تعادل بالذهب ، انتزعها إبراهيم من أبيها ، وزين بها حياته ، بحفنة من الذهب .
وحالما حاز على سعاد ، وابتسامتها القنديل ، راحت تضيء حياته ، ابتسمت له الدنيا ، وازدهرت أعماله وتجارته ، كما ازدهرت علاقته بأبي سعاد ، عبد الله الذي لم يكن سابقاً يطيق النظر إليه .
أما سعاد ، فقد تألق قنديل ابتسامتها أكثر وأكثر ، ولم يبخل عليها إبراهيم بزيت محبته ورعايته ، فقد أغرقها بعواطفه ورعايته وبأجمل الثياب والحلي .
وكما أن السماء الصافية الزرقاء ، لا تبقى دوماّ صافية زرقاء ، وأنسام الربيع ، المفعمة بالعطور ، لا تبقى دوماّ أنسام معطرة ، فالسماء الصافية الزرقاء ، قد تشوهها بعض الغيوم ، والأنسام الربيعية ، قد تنقلب بين عشية وضحاها ، وتتحول إلى عواصف وزوابع وأعاصير ، لا تبقي ولا تذر .
كذلك سماء حياة إبراهيم ، فقد تلطخت بقطع كبيرة من الغيوم القاتمة ، وعصفت بأعماله وتجارته العواصف والزوابع والأعاصير ، وحولت حدائق حياته ، إلى صحراء جرداء لا نبت فيها ولا ماء .
حزن إبراهيم ، وحزنت معه زوجته سعاد ، وبدأ قنديل ابتسامتها ، ولأول مرة في حياتها ، يخفت ضياؤه شيئاّ فشيئاً ، بل إن عينيها الجميلتين ، بدأتا تغيمان ، وسرعان ما راحتا تسحان الدموع بغزارة ، فقال إبراهيم لها : لا عليكِ ، يا سعاد ، التجارة هكذا ، فيها الربح وفيها الخسارة أيضاً ، المهم أنتِ معي ، وسنجتاز هذه المحنة معاً ، إن عاجلاً أو آجلاً .
ومنذ بدء المحنة ، خشي إبراهيم من عبد الله ، خشي أن يتغير موقفه ، ويكون إلى جانب العواصف والزوابع والأعاصير ، وحدث ما كان يخشاه ، فقد انقلب عبد الله عليه ، وطعنه في أعز ما يملك .
فقد عاد ذات مساء إلى البيت ، حزيناً مهموماً محبطاً ، لكنه كان يمني نفسه بلقاء زوجته سعاد ، التي تضيء حياته بقنديل ابتسامتها ، رغم أنها لم تعد متألقة كما في السابق ، لكنه وجد البيت فارغاً معتماً كئيباً ، وكيف لا وسعاد لم تعد فيه ؟
وخمن أنها عند أهلها ، لابدّ أن سعاد ذهبت إلى أمها الطيبة الحنونة ، وستواسيها أمها وتربت عليها ، وتطيب خاطرها ، لكن الشمس غربت ، وخيم الظلام ، وسعاد لم تعد إلى البيت ، هل ينتظر إبراهيم إلى صباح اليوم التالي ؟ كلا ، لن يقدر على ذلك .
وعلى الفور ، خرج من البيت ، وأسرع إلى بيت أهل زوجته سعاد ، الذي لم يكن يبعد كثيراً عن بيته ، وطرق الباب ، وفوجىء بأبيها عبد الله ، يخرج إليه عابساً ، مقطباً ، يتقادح الشرر من عينيه ، وسدّ عليه الباب ، وزجره قائلاً : خيراً .
وتراجع إبراهيم خطوتين مصدوماً ، وردّ قائلاً : عدتُ إلى البيت مساء ، ولم أجد سعاد ..
وقاطعه عبد الله غاضباً : سعاد في بيتها ..
وتمتم خليل مذهولاً : ماذا !
وتابع عبد الله قائلاً : ذهبتُ صباح اليوم إليها ، وأعدتها إلى بيتها ، حيث أبوها وأمها وكرامتها .
وهمّ إبراهيم أن يردّ عليه ، وقد دمعت عيناه ، فاعترضه عبد الله ، وقال : هذا شرطي منذ البداية ، أن تسعدها ، ولا تدعها بحاجة إلى شيء ، سعاد إذا بقيت عندك ستذل، وأنا لن أدعها تذل .
واقترب إبراهيم منه ، وقال متوسلاً : أرجوك عمي ، هذه تجارة ، وسأستعيد ما فقدته ، أعد إليّ زوجتي سعاد، ولك مني أن أبقيها معززة مكرمة .
وبغضب شديد ، دفعه عبد الله ، فتهاوى إبراهيم ، وسقط على الأرض ، ولم يكتفِ عبد الله بذلك ، وإنما ركله بقدمه بقوة ، وهدده قائلاً : اذهب أيها المعدم الفاشل ، سأقتلك إذا طرقت بابي ثانية .
وتحامل إبراهيم على نفسه ، ونهض عن الأرض بصعوبة ، وقد تلوثت ثيابه بالتراب ، وقال بنبرة شبه باكية : لي الوالي العادل ، سأذهب غداً ، وأشكوك إليه ، ويعيد لي زوجتي .

” 3 “
ــــــــــــــــ
أوى إبراهيم إلى فراشه ، في ساعة متأخرة من ذلك اليوم ، دون أن يتناول لقمة واحدة ساعة العشاء ، لقد تعود ، في سني جنته مع سعاد ، أن يأكل الطعام من صنع يديها ، ويأكل وقنديل ابتسامتها يضيء أمامه ، فكيف يمكن أن يأكل ، وهي بعيدة عنه ، حتى لو كان مشرفاً على الموت جوعاً ؟
وأغمض عينيه المتعبتين ، لعله يرتاح بعض الشيء ، خاصة وأن أمامه في الغد ، مهمة لابدّ منها ، لن يسكت على اختطاف حياته سعاد منه ، ولو ليوم واحد ، سيذهب غداً إلى والي المدينة ، المعرف بالعدل ورفع الظلم عن المظلومين ، وهل من ظلم يمكن أن يقع عليه، أكثر من إبعاد حياته سعاد عنه ؟
وفزّ إبراهيم مع شروق الشمس ، يبدو أنه نام ، ربما ساعة أو بعض ساعة ، وتملكه العجب ، واستنكر ذلك على نفسه ، كيف يمكن أن ينام ، وسعاد ليست إلى جانبه ؟ وهبّ من فراشه ، وانطلق إلى الوالي العادل ، الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم .
وفي مقر الوالي ، الذي يجلس فيه للناس ، قال إبراهيم للحاجب : أريد أن أرى الوالي .
وحدق الحاجب فيه مستفسراً ، فتابع إبراهيم قائلاً : قضية حياة أو موت ، قضية عاجلة .
وقبيل منتصف النهار ، دخل إبراهيم على الوالي ، وكان جالساً على كرسيه ، فحدق فيه بعينين طيبتين هادئتين ، وقال له : أبسط قضيتك ، وأوجز .
فقال إبراهيم ، وهو يغالب دموعه : أنا تاجر ، يا مولاي، تزوجت ابنة عمتي ، وأعطيت لوالدها ألف دينار ، لكني خسرت تجارتي كلها ، فجاء والد زوجتي ، وأخذ ابنته مني ، وهو يرفض أن يعيدها لي .
فقال الوالي : أبلغ والد زوجتك ، أن يأتي غداً مع ابنته ، وتعال أنت معهما ، وامثلوا غداً أمامي .
انحنى إبراهيم للوالي ، وقال بشيء من الارتياح : ليوفقك الله ، يا مولاي .
وفي اليوم التالي ، ذهب إبراهيم إلى مقرّ الوالي ، وما إن رآه الحاجب ، حتى قال له : ادخل بسرعة ، زوجتك ووالدها عند الوالي .
جاء الفرج ، سعاد حياته ستعود عاجلاً إليه ، يحيا العدل، ودخل إبراهيم على الوالي ، نعم سعاد موجودة ، ولو أن قنديلها منطفىء ، وعبد الله أيضاً موجود ، والارتياح باد عليه ، والوالي .. وخفق قلب إبراهيم ، فقد حدق الوالي فيه بعينين غاضبتين ، وقال له معنفاً : أيها الكاذب ، جئتني البارحة متظلماً ، وافتريت على الرجل الطيب ، وكلّ ما فعله أنه حمى ابنته من رعونتك وطيشك ، وإذلالك لها ..
وقال إبراهيم : مولاي ، لقد ضربني ، وأوقعني على الأرض ، وركلني بقدمه ، و ..
وصاح الوالي به : كفى ، اسكت .
وسكت إبراهيم ، فتابع الوالي قائلاً : ذهبتَ إلى بيته ، وتهجمت عليه ، وهددته ، هذا هو الظلم ، وهذا ما لا أقبله في المدينة التي أنا والٍ عليها .
وقال إبراهيم بنبرة باكية : مولاي ..
فصاح به الوالي : اسكت أيها المجرم ..
وسكت إبراهيم مغلوباً على أمره ، فصاح الوالي بأعلى صوته : أيها الحارس .
وأقبل الحارس على الفور ، وانحنى للوالي ، وقال : مولاي .
فأشار الوالي إلى إبراهيم ، وقال : خذ هذا الكاذب اللعين إلى السجن .
وأمسك الحارس إبراهيم ، وهو يقول : أمر مولاي .
ثم دفعه أمامه ، وخرج به من القاعة ، وذهب به إلى السجن ، وألقاه في غرفة صغيرة عارية .

” 4 “
ـــــــــــــــــ
طرق الباب مساء ذلك اليوم نفسه ، ونظرت الأم قلقة إلى سعاد ، ثم تطلعت إلى زوجها عبد الله ، وتمتمت : لعله .. إبراهيم ؟
فنهض عبد الله ، وقال منزعجاً : إبراهيم في السجن ، ولن يخرج بهذه السرعة .
واتجه إلى الخارج ، وهو يقول : سأفتح أنا الباب .
وفتح عبد الله الباب ، وفوجىء بحاجب الوالي يقول له : عبد الله ..
وقال عبد الله بقلب واجف : نعم .
فقال الحاجب : الوالي يريدك غداً .
فأحنى عبد الله رأسه ، وقال : سمعاً وطاعة .
وتهيأ الحاجب للابتعاد ، وقال : تعال وحدك .
فأجاب عبد الله : حاضر .
ومضى الحاجب مبتعداً ، وظل عبد الله في مكانه يفكر ، ترى ماذا يمكن أن يريد الوالي منه ؟ مهما يكن ، والمهم أن إبراهيم بعيد عنه ، وعن ابنته .. سعاد .
وفي اليوم التالي ، عند الضحى ، كان عبد الله بباب الوالي ، فنظر الحاجب إليه ، وقال له : أنت دقيق في المواعيد ، يا عبد الله .
وردّ عبد الله : إنه الوالي ، يا سيدي .
وقال الحاجب : نعم ، إنه الوالي .
ودخل الحاجب على الوالي ، وقال له : مولاي ، حضر عبد الله .
فقال الوالي : فليدخل .
وخرج الحاجب ، وقال لعبد الله : الوالي ينتظرك ، تفضل ، أدخل .
ودخل عبد الله القاعة متوجساً ، ونظر إلى الوالي ، الذي بدا وكأنه كان ينتظره ، وقال محيياً بصوت مضطرب : طاب صباحك يا مولاي .
ونظر الوالي إليه ، وقال : أهلاً عبد الله ..
وصمت لحظة ، وهو ما زال ينظر إلى عبد الله ، ثم قال: أرسلتُ إليك في أمر هام ، يا عبد الله .
وتساءل عبد الله : زوج ابنتي سعاد ؟
وردّ الوالي قائلاً : لا ، سعاد نفسها .
ووقف عبد الله متحيراً ، لا يدري ماذا يقول ، فقال الوالي : زوجني سعاد ..
ورد عبد الله : لكن سعاد متزوجة ، يا مولاي .
وتابع الوالي قائلاً : سأعطيك ألفي دينار .
وفغر عبد الله فاه مذهول ، وتابع الوالي ثانية : وأخصص لك دخلاً سنويا مجزياً .
ورقص قلب عبد الله ، ليس ” مذبوحاً من الألم ” وإنما فرحاً ، وتساءل : وزوجها إبراهيم ؟
وابتسم الوالي ، لقد اقترب من بغيته ، وقال : دع أمره لي ، أنا والي المدينة .
فقال عبد الله : الأمر لك ، يا مولاي .
وما إن غادر عبد الله ، حتى نادى الوالي الحاجب الذي يقف بالباب : أيها الحاجب .
وأقبل الحاجب على الفور ، وقبل أن يتفوه بكلمة واحدة ، قال له الوالي : جئني بالسجين .. إبراهيم .
فقال الحاجب : أمر مولاي .
وخرج الحاجب ، وسرعان ما عاد ، ومعه إبراهيم ، وقال للوالي : مولاي ، السجين إبراهيم .
وحدق الأمير في إبراهيم ، وقال للحاجب : أخرج أنت ، وأغلق الباب .
وخرج الحاجب بسرعة ، وأغلق الباب وراءه ، فقال الوالي ، وهو ما زال ينظر إلى إبراهيم : هل تريد أن تخرج من السجن ؟
وهزّ إبراهيم رأسه ، وقال : نعم ، يا مولاي .
وتابع الوالي قائلاً : وتتابع حياتك بحرية ، وتعود إلى عملك في التجارة ؟
وثانية هزّ إبراهيم رأسه ، وقال : نعم .. يا مولاي .
فقال الوالي : حسناً ، سأطلق سراحك الآن ..
ونظر إبراهيم إليه صامتاً ، ينتظر ، فتابع الولي قائلاً : بشرط . . شرط واحد لا غير ..
وانتظر إبراهيم ، وأنفاسه تكاد تتوقف ، فقال الولي : طلق سعاد ..
وشهق إبراهيم ، وتمتم : ماذا !
وقال الوالي بحزم : طلقها .. الآن .
وتزاحمت الدموع في عيني إبراهيم ، وقال بصوت متحشرج : أطلقها ! إنها حياتي .
ومدّ الوالي يديه ، وأمسك بتلابيب إبراهيم ، وجره إليه ، وقال له : ستندم .
ثم دفعه بقوة ، حتى كاد أن يتهاوى على الأرض ، وصاح الوالي : أيها الحاجب .
وأقبل الحاجب بسرعة ، وقال : نعم مولاي .
وأشاح الوالي عن إبراهيم ، وقال : أعده إلى حيث سيبقى ويتعفن ، أعده إلى السجن .
وأمسك الحاجب بإبراهيم ، وقال : أمر مولاي .
وأعيد إبراهيم إلى السجن ، وطوال ساعات تلك الليلة ، راح أعوان الوالي ، بأمر من الوالي طبعاً ، يقنعون إبراهيم بقبضاتهم وركلاتهم وهراواتهم و .. و .. بأن لا سبيل للتخلص مما هو فيه ، إلا بأن يتخلص من سعاد نفسها .. بأن يطلقها .. وقد طلقها .

” 5 “
ـــــــــــــــــ
لم يُطلقْ سراح إبراهيم من السجن ، حتى بعد أن طلق سعاد ، وظل حبيس زنزانته الصغيرة العارية ، وكان كلما سأل سجانه : ألم يحن أوان إطلاق سراحي من هذا السجن القاتل ؟
فيجيبه سجانه مبتسماً بخبث : لا تستعجل ، يا إبراهيم ، سيطلق سراحك ..
ويصمت ، ثم يضيف مدمدماً : بعد انتهاء العدة .
وذات يوم ، وقد يئس إبراهيم ، من الخروج من السجن، جاءه السجان ، وقال له مبتسماً : أبشر ، يا إبراهيم ، لقد انتهت العدة .
ونظر إبراهيم إلى السجان ، ولم يكن قد عرف ، ما يعنيه السجان بالعدة ، حتى ذلك الوقت ، لكنه لم يتفوه بكلمة ، فقال السجان : عدة سعاد ، تفضل ، أنت حرّ ، اذهب حيث تشاء .
وخرج إبراهيم من الزنزانة ، وقدماه لا تكادان تحملانه، وسار السجان بجانبه إلى الخارج ، وقال له : عليك أن تشكر سعاد ، لإطلاق سراحك من السجن .
ونظر إبراهيم إليه مذهولاً ، فقال السجان ، وهو يغالب ابتسامته : لقد تزوجت من الوالي .
وشهق إبراهيم ، وكاد يتهاوى على الأرض ، فأسنده السجان ، وقال له مبتسماً : افرح لها ، يا إبراهيم ، ولك أن تفخر ، فزوجة والي المدينة نفسه ، كانت زوجتك لسنوات عديدة .
وعلى غير هدى ، سار إبراهيم مترنحاً ، مبتعداً عن السجن والسجان ، لكن المدينة بل الحياة كلها ، صارت له سجناً ، بعد اختفاء سعاد من حياته .
وتوقف إبراهيم وسط المدينة منهاراً ، يائساً ، وتلفت حوله ، إلى أين ؟ وأين الخلاص ؟ وفي النهاية ، وجد قدميه المتعبتين ، تحملانه إلى بيته .
ودخل بيته ، وعيناه غائمتان بالدموع ، وركضت عيناه في أرجاء البيت ، وكاد ينادي ، على عادته كلما عاد من السوق : سعاد .
لكن لا حياة لمن سينادي ، وأخبره البيت نفسه ببرودته ، وصمته ، ووحشته ، بأن لا سعاد .. لا حياة ، ودخل إلى غرفته ، التي كانت تضمه وحياته سعاد ، لكن لا سعاد ، وارتمى فوق فراشه البارد ، واستغرق في نوم عميق مضطرب ، دون أن يستبدل ثيابه .
ما العمل ؟
صرخ في أعماقه ، حتى وهو مستغرق في النوم ، تتقاذفه غيوم كأمواج البحر الهائج ، وحين أفاق ، وفتح عينيه ، صاح : ما العمل ؟
واعتدل في فراشه ، سيفقد عقله ، سيجن ، إذا بقي على هذه الحال ، إن بيته ، بل حياته نفسها ، بدون سعى ، موت ما بعده موت .
وقبيل غروب الشمس ، نهض من فراشه ، ووجد نفسه يخرج من البيت ، وقادته قدماه ، ربما رغماً عنه ، إلى بيت عمته ، أم سعاد .
وطرق الباب ، وبدل عبد الله ، خرجت عمته أم سعاد ، وما إن رأته حتى اغرورقت عيناها بالدموع ، وقالت بصوت متحشرج : إبراهيم !
وتشبث إبراهيم بيدي عمته ، وقال بصوت تغرقه الدموع : عمتي ، أريد سعاد .
ولم تستطع أم سعاد أن تكبح دموعها ، التي سالت على وجنتيها ، وقالت بصوتها الباكي : إبراهيم ، بنيّ ، أنت رجل ، عليك أن تنسى سعاد .
وشهق إبراهيم ، وقال بصوت باكٍ : سعاد حياتي ، يا عمتي ، كيف يمكن أن أنساها ؟
وتابعت عمته قائلة من بين دموعها : سعاد تزوجت ، يا إبراهيم ، تزوجت الوالي نفسه ، ولن يرحمك إذا اقتربت منها ، انسها ، لك الله .
وصمتت لحظة ، ثم أغلقت الباب ، بعد أن قالت : إبراهيم ، لا تأتِ إلى هنا ثانية ، إذا رآك عبد الله ، سيأخذك إلى الوالي ، ولن تنجو هذه المرة .
وظلّ إبراهيم واقفاً أمام الباب المسدود ، متمتماً بصوت تغرقه الدموع : سعاد .. سعاد .. سعاد .
وترددت في أعماقه كلمات عمته الباكية .. لك الله ، ورفع عينيه إلى السماء .. وتمتم قائلاً : يا الله .. أريد سعاد .. دلني على الطريق .

” 6 “
ـــــــــــــــــ
في يوم تموزي شديد الحر ، لانسيم فيه ، بعد منتصف النهار ، مشى إبراهيم إلى الموضع ، الذي يجلس فيه الخليفة ، وقد وصل من المدينة ، إلى عاصمة الخلافة والعدل .
ونظر الخليفة من مجلسه إلى إبراهيم ، ثم التفت إلى من حوله ، قال : لا أظن أن من يخرج في هذه الهجيرة إلا مضطراً ، أو لديه أمر هام .
وقال أحد جلسائه : لابد أنه يقصدك ، يا مولاي ، بأمر هام فعلاً ، يرى أنه لا يمكن تأجيله .
ونظر إليه الخليفة ، وبدا له وكأنه يتلظى في سعير الظهيرة ، فقال : مهما كان طلبه ، فلن أرده .
والتفت إلى غلامه ، وقال له : أيها الغلام ، إذا طلبني هذا الأعرابي ، فأدخله عليّ .
وانحنى الغلام للخليفة ، وقال : أمر مولاي .
ثم مضى لاستقبال الأعرابي ” إبراهيم ” ، وسرعان ما جاء به إلى الخليفة ، وقال : مولاي ، هذا الأعرابي جاء من المدينة ، ويريد مقابلتك .
فحدق الخليفة في إبراهيم ، وقال : أهلاً ومرحباً .
وانحنى إبراهيم للخليفة ن وقال : مولاي ، جئت مشتكياً من واليك على المدينة .
ورمقه الخليفة بنظرة سريعة ، وقال : ما أعرفه عن والي المدينة ، إنه رجل عادل .
وصمت الخليفة لحظة ، ثم قال لإبراهيم : اذكر قصتك ، وسننظر فيها .
وقصّ إبراهيم للخليفة كلّ ما جرى له مع سعاد ووالدها عبد الله ، ومن ثم مع والي المدينة ، وأنصت الخليفة إليه باهتمام ، حتى انتهى من قصته ، فقال متأثراً ومنزعجاً : هذا حديث لم أسمع بمثله من قبل ، ولا يليق بالوالي أن يقوم به ، سأكتب له الآن كتاباً ، فيطلِق زوجتك ، ويرسلها لي ، لأنظر في أمرها .
وأمر الخليفة بدواة وقرطاس ، وكتب رسالة إلى والي المدينة ، حملها إليه اثنان من رجاله ، وقال لهما : تذهبان اليوم ، وتقدما الرسالة لوالي المدينة ، ثم تأتياني منه بالمرأة على جناح السرعة .
وذهب الرجلان على جناح السرعة إلى المدينة ، وسلما الرسالة للوالي ، وتسلما منه المرأة ” سعاد ” ، ومعها رسالة اعتذار إلى الخليفة .
وسرعان ما عاد الرجلان ، ودخلا على الخليفة ، ومعهما رسالة الوالي والمرأة ” سعاد ” ، وقدم الأول الرسالة للخليفة ، وقال له : مولاي ، هذه الرسالة لكم ، من والي المدينة .
ثم أشار إلى سعاد ، التي كانت تقف خلفه ، وقال : وهذه هي المرأة .
وأخذ الخليفة الرسالة ، وهو يحدق مذهولاً في سعاد ، وقال للرجلين : اذهبا أنتما ، وأغلقا الباب .
وذهب الرجلان ، وأغلقا الباب ، وقال الخليفة ، وهو مازال يحدق في سعاد : ما اسمكِ ، يا امرأة ؟
ورفعت سعاد عينها الجميلتين إليه ، وقالت بصوتها الهادىء : اسمي .. سعاد .
وتمتم الخليفة بكلمات لم تفهمها سعاد ، آه يا للأعرابي ، هذه المرأة كنز ، وأي كنز ، ثم رفع نظره ، وصاح : أيها الحاجب .
وأقبل الحاجب ، وانحنى للخليفة ، وقال : مولاي .
قال الخليفة : جيئوني بالأعرابي .. إبراهيم .
وقال الحاجب : أمر مولاي .
وخرج الحاجب على عجل ، فقال الخليفة لسعاد ، وهو يتأملها : اجلسي ، يا سعاد ، وحدثيني عن حياتك ، ريثما يأتي .. إبراهيم .
وسرعان ما جاء إبراهيم ، جاء به الحاجب على جناح السرعة ، وما إن دخل على الخليفة ، ورأى سعاد .. سعاد حياته ، حتى ردت إليه الروح ، ولولا تحرجه من الخليفة ، لأندفع إليها وعانقها ، و .. وثاب إلى رشده عندما سمع الخليفة ، يقول له : تعال ، يا إبراهيم .
والتفت إبراهيم إلى الخليفة ، وقال : مولاي ..
ونظر الخليفة إليه ، وقال : هذه سعاد ..
وقال إبراهيم بلهفة : بل هذه حياتي .
وقال الخليفة : اسمعني ، اسمعني جيداً ، يا إبراهيم .
وقال إبراهيم : مولاي ، قل لي متْ ، وسأموت .
فقال الخليفة : كلا ، لن أقول لك متْ ، يا إبراهيم ، بل سأقول لك عشْ ..
والتمعت عينا إبراهيم ، وقال : ولهذا لجأتُ إليك ، وليس إلى غيرك ، يا مولاي .
ونظر الخليفة إليه ، وقال : لقد فقدت ثروتك كلها ، ولم يعد لك أي شيء ، سأعوضك ما فقدته ، بل سأعطيك أكثر مما كان عندك .
ولاذ إبراهيم بالصمت ، ونظر إلى سعاد متوجساً ، فتابع الخليفة قائلاً : ومعها ثلاث جواري حسان ، رومية ، وفارسية ، وعراقية .
وتمتم إبراهيم خائفاً : مولاي ..
ونظر الخليفة إلى سعاد ، وقال لإبراهيم : تنازل لي عن.. سعاد ، يا إبراهيم .
وكاد إبراهيم يتهاوى على الأرض ، لكنه تماسك ، وقال للخليفة : مولاي استجرت بك من أجل سعاد ، خذها ، خذ سعاد ، لكن خذ حياتي أولاً .
واقترب الخليفة منه ، وقال : لكن سعاد ليست زوجتك الآن ، لقد طلقتها ، يا إبراهيم ..
وقال إبراهيم : طلقتها بلساني ، تحت تعذيب لا يحتمله بشر ، وأنا من البشر ، يا مولاي .
وتابع الخليفة قائلاً : طلقتها ، فتزوجها والي المدينة ، وطلقها هو الآخر ..
وصمت الخليفة ، ثم قال : إنها حرة الآن ، فلتختر بحريتها ، ومن تختاره ستكون له .
ولاذ إبراهيم بالصمت ، فتقدم الخليفة من سعاد ، وقال لها : سعاد ، انهضي .
ونهضت سعاد ، لكنها لم تتفوه بكلمة واحدة ، فقال الخليفة لها : إذا اخترتني ، اخترت العز والشرف والغنى ، ولك أن تعودي إلى زوجك والي المدينة ..
وأشار الخليفة إلى إبراهيم ، وقال : أم تريدين هذا الأعرابي .. إبراهيم ؟
ونظرت سعاد إلى إبراهيم ، وقالت : هذا الأعرابي ، يا مولاي ، زوجي ، أحبني وأحببته ، وعشت معه أجمل ساعات عمري ، وهو زوجي في السراء والضراء ، ولن أستبدله بكنوز الدنيا .
ولاذ الخليفة بالصمت برهة ، ثم تقدم من إبراهيم ، وربت بلطف على كتفه ، وقال له : خذ كنزك ، يا إبراهيم ، واذهب ، وسأكون إلى جانبك دوماً .

22 / 4 / 2020

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| محمد الدرقاوي : كنت أفر من أبي .

 هي  لا تعرف لها  أبا ولا أما ،فمذ رأت النور وهي  لا تجد أمامها  غيرهذا …

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| مها عادل العزي : قبل ان تبرد القهوة .

-الخامسة فجرا بتوقيت مكان قصي خلف البحار والمحيطات- اشعر بانهاك شديد.. او انها الحمى تداهمني …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *