ارتبطت صورة الشتاء في مخيلتي بشكل دائمي بمنقلة الفحم الذهبية الصفراء ذات الحجم المستطيل ، تلك المنقلة التي كنا نتحلق حولها في سِني الزمن الجميل ونحن نُنصت الى حكايات الوالدة التي كانت لا تنتهي او مرويات العمة “جميلة” وهي احدى قريبات امي التي كانت تتحفنا بحكايات اخرى تروي شجاعتها وجرأتها واقتحامها قلب الظلام دون خوف أو وجل ، وصورة اخرى تعود بي الذاكرة الى مشهد الشتاء الفخم، المدفأة النفطية التي كانت تتوسط مقهى والدي وهي تئز أزيزاً يشبه الانين مع تغذيتها بنقاط النفط التي تدب اليها مبقية اياها بتوهجها المستدام . ومنذ طفولتي اغرمت بالشتاء واحببت برده وامطاره وزمهريره وحتى الالعاب التي كنا نمارسها شتاء فاقت متعها بأبلغ الدرجات العاب الصيف والفصول الاخرى، كنت احس بانني امتلك ضبط نفسي وانا مُنْتَشٍ اراقب الغيوم الثقال ثم وهي تسح امطاراً مدرارة تضرب السقوف والجدران ثم انظرها وهي تتحول الى سيول تنجرف في الطرقات الهابطة من امام دارنا مكتسحة في طريقها قطع الكراتين والاخشاب والاعواد والقشور ، وهذه السيول المتماوجة أتخيلها وقد غدت جدولاً ويكبر شيئاً فشيئاً فيمسي نهراً وقد استقللت فيه مركبي النشوان وهو يمضي بي الى جزر المرجان والجان .
ومع انحداري في العمر وتقدمي فيه عاماً بعد اخر لم افقد ولعي بالشتاء وغواياته المستحكمة ظل يأخذ بمجامع القلب فكم كنت ألتذ وأنا اقطع الطريق الى المكتبة العصرية في (السوق العصري) من اجل اقتناء المجلات التي كنت انتظر وصولها بفارغ الصبر امشي تحت الامطار مناجياً الغيوم كأنهن صديقاتي الحميمات ، اعود الى البيت مبللاً بالمياه من قمة الرأس حتى أخمص القدمين بعد أن خبأت المجلات تحت ملابسي مخافة تعرضها للبلل إلا أنني منتشٍ بسعادة وحشية بعد ان قصفتني الامطار المطينة ، ولا انسى تفرجي على الافلام المعروضة في سينمات كركوك في الايام الماطرة وانا ملتصق من البرد بأحد الاعمدة بعد ان انطفأت الاضواء وتوهجت الشاشة البيضاء ودبت الحياة في اوصالها وهاهم الممثلون والممثلات يعيدون قصَّ حيواتهم وانا من خلالها اتقمصها واجترها واتماهى معهم واتخيلني واحداً منهم اشارك افراحهم واتقاسم اتراحهم وعند نهاية الفلم اعود القهقرى الى البيت خائضاً في مياه الامطار وحاسر الرأس احاول ان اعيد سبك حكاية الفلم من جديد دون ان انسى اعطائي ولو دوراً هامشياً في ما جرياتها .
ومن باب حب الشتاء اغواني الخريف بدوره لانه جسر الى فصلي الاثير وبِطلَّةِ التشرينين الاول والثاني واعتدال الطقس وانتحار القيظ ، الخريف الحكيم أراه وهو يجول الطرقات بلحيته الصفراء الرزينة بعد ان غطى الحدائق والبساتين باوراقه الذابلات فعنذاك كنت اتهيأ واستعد لمقدم صديقي العتيد الشتاء ، ارقب حقائبه الجوالة واكاد اسمع فيها تصهالات الامطار فيها وعواء القر القارس عندئذ أقرأ في اطراس الشتاء صفحات الادب المكرسة له وابداعات الشعراء المحلقة في مديحه واستحلاء معالمه ومحامده. ايها الشتاء امنحني بركات صداقتك واعضدني بقوة اناشيد امطارك ونواح نثيث ثلوجك البيضاء .
تؤوب الذاكرة بي الى الصف الثاني المتوسط عندما قرر علينا استاذنا في العربية نصاً لـ(ميخائيل نعيمة) حمل عنوان (النهر المتجمد) وهو بمثابة مرثاة نهر مر عليه الشاعر اثناء تتلمذه في بلاد روسيا وهو يقارب بين حالتي النهر كيف كان إبان تدفقه وجريانه وكيف آل اليه اليوم بعد ان تجمد وتقمص السكون وبعد ذلك عرفت ان الشاعر كتب النص في الاول بالروسية ثم نقله الى العربية واحتواه ديوانه الوحيد الذي وَسَمَه بـ(همس الجفون) وهذا النص النعيمي يحيلني الى الشتاء واكسسواراته والى نهاراته التي تتسول الشمس ولياليه التي يعشش فيها الصرد ، وتقفز مخيلتي عبر تجمد (النهر) مدونة (ارنست همنغواي) المعنونة بـ(وداع للسلاح) والى الشريط السينمائي الذي اخرج منه حيث شاهدت الفلم في مطالع الستينيات في صالة سينما (اطلس) في يوم بارد تصطك من قره العظام ، طوال المشاهد البصرية الامطار لا تنقطع الغزل الحميم يجري تحتها ، القطعات العسكرية تنسحب تحت وابلها واجواء سويسرا الباردة ، وحتى عندما آذن الشريط بالانتهاء وغادرت الصالة استلمتني طرقات كركوك الغارقة بالمياه الهاطلة وانا في طريقي الى المنزل ظلت الاحداث والشخصيات تتواثب في رأسي وقدماي تخبطان الشوارع المطينة، وفكري يناقش ويحاكم ما الذي كان يحصل لو اخذت الاحداث مجرى مختلفاً ومساقاً اخر الا ان (همنغواي) يبقى فنان الفشل البطولي .
تراكمت عناوين أخرى من عالم قراءاتي عندما وقعت على مجموعة قصصية لـ(سعيد حورانية) حملت اسم (شتاء قاسٍ آخر) الكتاب وقعت عليه في مكتبة (دايي أمين) قرأت القصص فوجدت فيها متعة كبيرة وبالاخص القصة التي حملت عنوان الكتاب وظللت فترة أعيد قراءة القصص ، ومع قدمة كل شتاء في تقويم العمر المكتهل يبرز العنوان واعود الى الكتاب ويواجهني الفصل العتيد بقسوته ورهبوته وعواصفه وانظر الى الاشجار وقد تعرت من اوراقها الا انها تظل واقفة تقاوم البرد دون ان تنحني وحتى لو اختارت الموت فإنها تموت واقفة ولا تتنازل من كبريائها محتفظة بميسها وتبخترها فهذه عظة أدمنتها من استاذتي الطبيعة وهي في دمي لامي الاشجار التي هي ايقونة الجمال واهزوجة البهاء .
أنظر الآن من نافذة غرفتي، النافذة البيضاء وانا ارقب صديقي الطائر عندما يسقط عليها زقزقاته العابرة، يتأخر مقدم الطائر ولكني ابصر في السماء غيمة سمحاء اتمنى ان تنسكب مطراً دافقاً وتتسكع في رأسي ابيات للشاعر العراقي(بلند الحيدري):
“شتوية أخرى …وهذا أنا
هنا بجنب المدفأة
أحلم أن تحلم بي إمرأه ”
أتلمظ هدأت الغرفة وأتسربل بسكينتها الباردة وتقتحمني أحلام متوحشة أستطعم دبقها واستعذب لزوجتها ، وابقى أتأمل تغريدات صديقي الطائر لعلي اسمع غناء الامطار التي تأخر تهطالها.
ذاكرة كركوك
شتاء باذخ يليق بأيام العمر المكتهل
فاروق مصطفى
تعليقات الفيسبوك
الأستاذ الأديب الكبير فاروق مصطفى، يصور المكان بتقنية أدبية عالية، وقد وظف كل طاقته الإبداعية لإغناء مراحل تطور ثقافته ووعيه بلغة باذخة ترفة، حتى أجاد في رسم ملامح مدينته كركوك في عز ازدهارها ونموها وتنوعها السكاني (population diversity)، الأمر الذي وسع من قاعدة الانطلاق التي حوت عناصر الأدب بأجناسه كافة والتي اشتغل عليها أستاذنا الكبير فاروق مصطفى…