صحافة ما بعد التغيير !
سألني مؤخرا الصديق الكاتب ” قاسم حسين موزان ” أن أعطي رأيا موجزا في مآل الصحافة الراهنة ضمن محور (الصحافة بعد التغيير واستجابتها لاشتراطاته) وقد أثنيت على التوصيف الدقيق لسؤال الاستطلاع بان حدد (الصحافة بعد التغيير ) وهو اقرب لما حصل قياسا إلى توصيفات أخرى شائعة ، وقد أوضحت في مناسبات عدة ب( أن هناك من يرى في التغيير احتلالا وهناك من يراه تحريرا ولكني أراهما وجهين لخيبة واحدة !!) لهذا كان ثمة استجابات من الصحافة لما افرزه ذلك التغيير فحدثت انفراجات وانتهالات يقرب بعضها من الانفجار او الحرية المتطرفة !.
وابرز ملاحظة يمكن تسجيلها على الصحافة خلال السنوات العشر الأخيرة تتمثل في نقطتين : أولاهما عدم وجود تشريع قانوني أو مهني ينظم ويحافظ على العمل الصحفي مما وفر فرصا لدخلاء كثيرين دخلوا الصحافة العراقية ومن أبوابها الخلفية والمشكلة انه لا توجد جهة بإمكانها القيام بملاحقة هولاء أو منع تغلغل آخرين سواهم وهذا احد نواتج غياب القانون أو التشريع الخاص بتنظيم العمل الصحفي بالعراق .وأيضا أدى هذا السبب إلى عدم وجود حماية أو صياغة تكفل بالدفاع عن الصحفي حين الاعتداء عليه أو تجاوز بعض الجهات على حقوقه ،ولعدم وجود تشريع مهني ملزم فقد تشردت أعداد كبيرة من الصحفيين الذين عانوا الظلم مع إدارات الصحف والمجلات أن كان على مستوى العمل اليومي أو أللالتزامات والواجبات ،حتى أصبح يسيرا ان يتم الاستغناء عن الصحفي بدون أسباب واضحة ويتم التعامل بتعيينه أو فصله وفق قاعدة المزاج الشخصي لصاحب أو مالك الجريدة ولو كانت لدينا جهات مهنية حقيقية تحمل عناوين مثل نقابة الصحفيين ووزارة الثقافة لما تعرض الصحفي العراقي لهذا الظلم الذي يعيشه منذ سنوات ” ما بعد التغيير “!.
وثانيهما تظهر بتصدر غير المهنيين على المهنة وتراجع المهنة بشكل مهين فلا اعرف وأنا الذي زرت أقطار عربية وغير عربية وتابعت عن قرب صحافتها المقرؤة والمرئية فلم أجد حالة هجينة أو خارجة عن السياقات جميعا إلا عندنا فهي خارج التصنيفات والتقاليد المعمولة في العالم كله فهل هناك بلد يسمح للغرباء والمتطفلين بان يهيمنوا على مقدرات الصحف والمؤسسات الصحفية بينما ينزوي أصحاب المهنة في أركان المقاهي وزوايا البطالة هناك عشرات من الأمثلة المنظورة نجد فيها السياسيين ورجال الأعمال والعاطلين عن أي مهنة وهم يتقلدون المناصب الصحفية الأولى بينما يتم إبعاد أهل المهنة عن مجال العمل ولأضرب مثالا شاخصا على ما أقول فهناك عدد كبير من الأدباء وهم معروفون بكتابة القصة والرواية والشعر والنقد والدراسات ولكنهم بقدرة متنفذ أو إشارة أو واسطة أو أمر لعنوان صعدوا على رأس صحف ومجلات وصفحات وملاحق ثقافية وهم فقيرون لأساليب المهنة وحساسيتها وخصوصيتها فترى الشاعر يصبح مسئولا عن صفحة ثقافية يومية والكاتب الأيدلوجي يصبح مشرفا على ملحق ثقافي أسبوعي والناقد الأدبي يكون رئيسا لتحرير مجلة أدبية وهنا نجد خلطا صارخا بين العنوان الصحفي وكتاب الصحافة والفرق واضح بين الاثنين ففي الأولى نجد صاحب المهنة والمحترف في العمل فله مواصفاته ودرجاته أما في الثانية فهناك الملايين التي تكتب وتنشر في الصحافة ولكنهم لم يكونوا صحفيين ولن يكونوا :طه حسين كان يكتب في الصحافة المصرية وعباس العقاد كان يكتب مثله وعندنا في العراق علي جواد الطاهر يكتب باستمرار في الصحافة وحتى السياب والبياني ونازك الملائكة ومالك ألمطلبي وحسب الشيخ جعفر وحاتم الصكر كل هؤلاء وأكثر كتبوا في الصحافة العراقية والعربية فهل أنهم صحفيون أم لهم عناوين حسب أجناسهم ؟ ان هذا الخلط المقصود بين ” الصحفي ” و ” الكاتب في الصحافة ” يراد منه تضييع المهنة الصحفية وتوزيع عناوينها وخصوصيتها بين قبائل الكتاب والأدباء والنقاد والخاسر الوحيد هو المهنة التي أهدرت دماؤها علنا وأطيح بتقاليدها في الأرض وثم تمريغ أنوف أصحابها الشرعيين في إسفلت المزادات والرهانات وكان من الطبيعي ان أجد نفسي ومعي مجموعة من الصحفيين المحترفين خارج حسابات المرحلة واهتمام أولي الأمر لكن ما يخفف من محنة متشظية كهذه هو ذلك الصيت وتلك المكانة التي حققها صناع الصحافة الحقيقيون ولا يمكن أن تزول أبدا مهما تبدلت المراحل او حل المزاج بديلا عن المهنية !.