إشارة:
مثل قلّة لامعة من الروائيين العالميين كإرنست همنغواي وإريك ريمارك وغيرهما خطّ الروائي العراقي “سلام ابراهيم” نصوصه بدم التجربة الذاتية ولهيبها. وفي اتفاق مع إشارة خطيرة للباحث الأناسي العراقي البارع د. علاء جواد كاظم الذي اعتبر روايات وقصص سلام إبراهيم من مصادر الدراسة الأنثروبولوجية الناجعة في العراق نرى أن نصوص سلام يمكن أن تكون مفاتيح لدراسة الشخصية الوطنية مثلما استُخدمت نصوص ياسانوري كاواباتا لدراسة الشخصية اليابانية ونجيب محفوظ لدراسة الشخصية المصرية مثلا. الفن السردي لسلام ابراهيم هو من عيون السرد العربي الذي يجب الاحتفاء به من خلال الدراسة الأكاديمية والنقدية العميقة. تحية للروائي المبدع سلام ابراهيم.
أسرة موقع الناقد العراق
الكتابة أمرٌ سهل..كل ما عليك هو الحملقة في ورقة خالية حتى تتشكل قطرات من الدماء على جبهتك ” لعل ما قاله جين فولر هو التعبير الامثل عن رواية –حياة ثقيلة – للروائي سلام ابراهيم والتي صدرت عن دار الأدهم-القاهرة مطلع العام 2015 حيث يروي الكاتب بعضاً من المآسي والدماء التي عاشها في وطنه في زمن الدكتاتور حيث الاعتقال والهرب والتشرد في سبيل الفكرة التي ما زال يؤمن بها حتى بعد زوال الدكتاتور –العقبة الوحيدة امام تحقق الحلم المنشود- لكن ذلك لم يكن حقيقياً فاليوم قد مضى أربعة عشر عاماً على سقوط النظام، وما زال حال العراق يرثى له ورغم هذا وذاك فإن الكاتب ما زال يؤمن بحتمية زوال الرأسمالية وان العالم يصبح مدينة واحدة جميلة نحو الفرح الذي يُضمن بزوال الطبقات و الاستغلال والعنصرية والمشاعر الحيوانية ويتعمق تذويت جمالية الانسانية وحقها في العيش مطمئنة على المستقبل ونبذ كل ما يلوثها ويشوهها. وكما يقول الكاتب مكسيم غوركي ” إننا ثوريون وسنبقى ثوريين ما دام هناك اشخاص لا يفعلون شيئاً سوى اصدار الاوامر وآخرون لا يفعلون شيئاً سوى التنفيذ ”

يختار الكاتب في هذا العمل الكاتبي راوياً مشاركاً ليقوم بسرد الاحداث بصيغة الـ(أنا) او المتحدث. يختار الروائي مكاناً و زمانين في ذات الرواية, حيث يختار العراق بودقة للأحداث التي تمر بها شخصيات روايته. ويقوم الكاتب بالتمرد على فيزيقيا النص من خلال استخدامه زمانين في عمل واحد فهو يتنقل بين المشهد و الآخر بين سبعينات القرن الماضي –قبل سقوط الطاغية- و سنة 2010 أي ما بعد زوال الدكتاتور وكأنه يريد المقارنة وربط الاحداث بين الماضي والحاضر بلغة سلسلة متدفقة كينبوع جارِ يفهمها اواسط المثقفين مختاراً في ذلك تبسيط صيغة السرد ليصل العمل الفني الى اكبر عدد ممكن من القراء و يستفيدوا منه. عملت البنية المكانية في هذه الرواية على أثارة تداعيات الكاتب و هو يشحذ ذكرياته بالفيض الصوري الناتج عن المخزون الذاكراتي الذي عمل المكان فيه على تحريك خيال الكاتب باتجاه إنتاج نص يتماهى مع فعل المكان بوصفه عنصراً مهماً في تحديد البيئة وإبراز خصوصيتها التي تمنح العمل الأدبي بعداً ايحائياً يتمظهر في تفكيك دلالة العلامات الظاهرة في محتوى النص , والكاتب هنا يُحيل متلقيه الى الوقوف على حجم الفجائع المرتبطة بالواقع المكاني من حيث كونه حاضنة جغرافية متناغمة في سيرورتها مع أحداث أليمة تولّد تدافعا صوريا في ذهن القارئ. لاحظت أن الكاتب في جزء كبير من الرواية يعمل كأداة فلسفية لوصف الاشياء فهو يطرح مفاهيم جديدة كاستحداث من مخيلته دعماً للواقع التراجيدي للرواية, مثلاً: (يقال أن المحتضر يرى قبيل رحيله في اللحظات الاخيرة شلالاً من الضوء الذي تعشى له العيون,هذا ما افضى به من توقف عن الحياة للحظات , وعاد بتدخل طبي) فهو يضفي مفهوماً غريباً لا يمكن اثباته علمياً كما لا يمكن نفيه و يبرر ذلك برؤية هذا الشلال من الضوء عندما كان على مشارفِ موتٍ باراسيكولوجي. إن استذكار أحداث قديمة مع اصدقاء و اقرباء يثير الطابع المأساوي ويجعله غالباً على فيزولوجية الرواية لأن جميع الذكريات هي “ذكريات من منزل الاموات” فإن كانت حزينة سنأسى لأنها أحزنتنا يوماً و إن كانت سعيدة سنبكي لأنها رحلت من دون عودة!! إن من الجوانب السياسية التي كثيراً ما يشير إليها الكاتب هو الفكر الماركسي الذي أرهقه طوال حياته . إن من مميزات السرد في رواية -حياة ثقيلة- هو التلقائية والبساطة وجعل الاحداث تأخذ مجراها الطبيعي لتتفاجأ بدهشة عارمة غير متانسبة من حيث حجمها مع تلقائية الحدث.كما في ص176 حين كان يتحدث عن صديقه – ميثم جواد- الذي كان معه في نفس الزنزانة سنة 1980 ويشير الى أنه لم يلتقِ به بعد خروجه من السجن فيقول: (لم أجد ميثم ولم يقع بصري عليه إلا عام 2010 أي بعد ثلاثين عاماً حينما دُعيت الى كربلاء المقدسة لإقامة ندوة أدبية فرأيته مبتسماً بنفس ملامح شكله تلك الليلة الليلاء يطلُ بنظرة ثابتة من صورته الفوتوغرافية المعلقة على حائط غرفة وسط صور حشد من شهداء شيوعي كربلاء في – الحزب الشيوعي-) والليلة الليلاء هي تلك التي يقول عنها بأنها من أجمل الليالي حيث قضاها مع حسين (الشخصية المحورية في القسم الثالث من الرواية وهو من أعز اصدقائه) ومع ميثم جواد (الشخصية التي فارقها قبل ثلاثين عاماً ليراه ينظر اليه من داخل صورة فوتوغرافية معلقة على الجدار) وهذا الحدث من أهم الاحداث الفلكلورية في الرواية ومن الدعامات التي تعمل على تطوير السرد في الرواية العربية و إخراجها من المنظومة الكلاسيكية. ابداع الراوي لم يقف عند حد السرد فقط بل إنه يقوم بوصف الشخصيات وصفاً حاذقاً يصل فيه الى أدق التفاصيل و كأنه يرسمها من خلال اللغة فلا يدع فيها شيئاً مبهماً يُفقد العمل الادبي بعضاً من سمات اكتماله. بهذا يمكن تمثيل الرواية بجوانب ثلاثة هي: 1 -الجانب السياسي: تمثل بتأثره المبكر بالفكر الماركسي و انتمائه للحزب الشيوعي ونضاله الفكري والمسلح. 2 -الجانب الاجتماعي: تمثل بالعلاقات التي أقامها الكاتب مع اصدقائه وذكرياته معهم ومشاقهم. 3 -الجانب الفني: تمثل بالسرد واستخدامه بحرفية عالية تنم عن تجربة معرفية كبيرة تحمل في طياتها ابداعاً غير منتهٍ والوصف العميق لأدق الاحداث.
16/02/2016 جريدة الحقيقة العراقية